الابتكار الاجتماعي
دغدغة العقول والمشاعر

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 13

دغدغة العقول والمشاعر

   د. محمد محمود عبد العال حسن

شهد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين –ولا يزال- تغيراً كبيراً في رسم السياسات العامة وصياغتها وتحديد من يصنعها، إذ كانت دفة الأمور بيد النخبة من صناع القرار والسياسيين والفنيين والخبراء والقانونيين.

الخداع النبيل

استند علم السياسات العامة على فرضيات عدة حول كيفية تصرف صانعي السياسات والمواطنين. ومن ذلك ادعاؤه أن المواطنين يتصرفون "بعقلانية"، لكن النتيجة كانت صادمة، حيث لم تنجح السياسات العامة بسهولة في تحقيق أهدافها، فمثلاً أخفقت سياسات منع التدخين في القضاء عليه، في تلك اللحظات الحرجة أتى طوق النجاة من بعيد حين أدلت علوم النفس الاجتماعي والاقتصاد السلوكي والأعصاب بدلوها في صياغة السياسات العامة، محاولة دراسة وفهم مشاعر وأفكار ومواقف وسلوكيات الإنسان وتفسيرها، طامحةً بأسلوب غير مباشر إلى توجيهه وتغييره، تمهيداً للسيطرة عليه وفق رؤية مهندسيه بطرق مبتكرة وجديدة. فهي دراسة للسلوك الاجتماعي للأفراد والمجموعات واختبار مدى استجابتهم للمثيرات الاجتماعية.

وهو ما يعني أن علم السياسات العامة ما فتئ منذ نشأته يبحث عن كل من تحسين العلاقة بين الحكومة والمواطنين من ناحية، وعن النجاعة في التنفيذ محاولاً تجريب كل أداة ومستوعباً بليونة عالية مستجدات العلوم الأخرى ومنجزاتها.

وتقدم الرؤى السلوكية أو البصائر السلوكية أو الدفع أو الوخز أو الوكز للسياسات العامة "الترياق" الذي يمكنها من تطوير سياسات أكثر نجاحاً وفاعلية. ومع أنه لا توجد أدلة قاطعة على أن إعادة التغليف والصور المرسومة على علب السجائر قادت إلى تراجع معدل انتشار التدخين في أستراليا عام 2012م بنحو 18 ألف مدخن، إلا أن ذلك دليل على أن هذه السياسة المستندة إلى البصائر السلوكية أنتجت هذا "التأثير".

 سحر الرؤى السلوكية وصراع الرغبات

عزيزي القارئ، إنْ تَشَبَّع عقلك ووجدانك بصورة محددة وحصرية عن الجمال أو جسد المرأة أو الرجل، فاعلم أنه قد تمت "قولبتك" والتلاعب بعقلك وخيالك وإدراكك عبر غواية الإيحاءات والإيماءات والإعلانات، بالتطبيع مع "نمط مثالي" ثابت ومحدد، يتولاه طبيب تجميل النساء ومن ورائه شركات التجميل، ويتكفل به مُدرب النادي الرياضي للرجال ومن خلفه سوق المكملات الغذائية. مرحباً بك في سحر الرؤى السلوكية الذي تتفنن فيه الشركات لتعميق تلك الأمثلة وتكرارها وإبرازها كشكل أحادي وضيق للجمال والرشاقة وبوصفه المصدر الوحيد لهويتك.

إذا كنت قد تبضعت ووجدت أنك قد اشتريت بضائع أكثر مما كنت تخطط لشرائها، فإنك قد وقعت في فخ الرؤى السلوكية لإعلانات الشركات وعروض البيع والتغليف لتعزيز مزاجك وشراهتك وحجم عربة تسوقك وزيادة السعار الاستهلاكي.

تنطلق الجذور المعرفية للبصائر السلوكية من تشابك مجموعة متداخلة من العلوم والمعارف في نقطة واحدة، حيث ضربت كل من: المدرسة السلوكية الكلاسيكية والمدرسة العلمية في الإدارة والاقتصاد السلوكي بسهم وافر فيها.

وحتى نفهم الموضوع نعود إلى النظرية الاقتصادية التقليدية، التي زعمت أن الأفراد يصنعون قراراتهم بعقلانية وفق مصالحهم، فحاججهم رواد الاقتصاد السلوكي بأن الناس غالباً ما يتخذون قرارات تتعارض مع أهدافهم بفعل التحيزات المعرفية والعاطفية والأساليب الدعائية.

في اليوم الواحد نستقبل عشرات الرسائل التي تحاول حثنا لفعل ما، وفي خضم صراعات المصالح بين صناع السياسات وصناع الاستهلاك والمتعة يتغي الطرفان التأثير في اختيارات المواطنين، وهو ما أثار تساؤلات حول تدخل صناع السياسات لـ "حث" المواطنين على تبني "خيارات" أفضل لأنفسهم، فيما ينغمس صناع الاستهلاك في فن "تحفيز" الزبائن لاعتماد "خيارات" أكثر لميزانية الشركة؟ وهذا الجدل بين المصلحة العامة والخاصة يضع علامات استفهام حول من له حق تحديد خياراتنا؟ الحكومة كـ"وصي" أو المستهلك كـ"سيد".

 هندسة اختيارات المواطنين

تبنت الرؤى السلوكية أن البشر لا يتصرفون منطقياً، وعادة ما يجنحون إلى القرارات غير الصائبة لأنفسهم نظراً لتحيزاتهم العقلية والعاطفية وبعض المؤثرات الأخرى، ويمكن أن تكون تلك القرارات ذات "أثر سلبي" في مجالات السياسات العامة، كالصحة العامة والتعليم والاستهلاك والمنح الحكومية، لذا تتصدر الرؤى النفسية لإغراء سلوك الأفراد والتأثير فيها بطرق "ناعمة" و"غير ملحوظة" تمهيداً لاتخاذ قرارات أفضل!

تنطوي الرؤى السلوكية على تطبيق مداخل نفسية شعورية لشرح كيفية اتخاذ البشر للقرارات، وتوجيه ممارسات البشر من خلال البروز والجاذبية والإشارات الرقيقة والتلميحات الرشيقة أو التعديلات البسيطة أو قوة الاقتراح وإلحاحه في السياسات، بدلاً من استخدام قوة القوانين وفرض الضرائب والعقوبات الصارمة. إن السياسة العامة السلوكية متجذرة في فكرة أن التحيزات والاستدلالات والنماذج العقلية تحدد السلوكيات، فإذا حاولت تغيير أو إعادة صياغة السياق الذي تُتخذ فيه القرارات، فسوف تغير السلوك، فمثلاً للتعامل مع مرض السمنة يمكن اللجوء إلى تغييرات في حجم الصحون والحصص الغذائية والملصقات التحذيرية عن السعرات الحرارية للأطعمة.

ولما كان تعامل المواطنين مع مخرجات السياسة يُواجَه بعقبات فنية وإدراكية قد تقود إلى اتخاذ قرارات غير "مُجدية" لأنفسهم وللحكومة، ولأن عملية السياسة العامة التقليدية تتضمن وضع صناع السياسات والبيروقراط في قلب عملية السياسة بشكل رأسي، فإن هذا يُعيد "تنفيذ السياسات المستند على الرؤى السلوكية" المكانة لـ "توجيه" المواطنين كونهم مستفيدين نهائيين من الخدمات العامة، حيث تتضمن الرؤى السلوكية في السياسات العامة "مُحفزات" صريحة وواضحة، أي "هندسة اختيارات المواطنين" بطرف خفي بما يساعد على تغيير سلوكهم بطريقة يمكن التنبؤ بها. وتظفر من وراء ذلك بمنافع عدة، كتوفير الأموال وتحسين الصحة الشخصية والحد من العنف الأسري وتحسين المناخ واستهلاك الطاقة وغيرها من القضايا.

وتقترح الرؤى السلوكية أربعة مبادئ لتعزيز توجيه المواطنين، هي: جعلها سهلة، وجذابة، واجتماعية، وفي التوقيت المناسب. وتُظهر بعض الدراسات أن المواطنين يقبلون التدخلات السلوكية حينما تكون الثقة في الحكومة مرتفعة جداً. وحتى الآن استخدم ما لا يقل عن 135 دولة "سياسات الوكز/ الوخز" بوجه ما، ومن بينها 51 دولة قامت بـ "مبادرات سياسية" مركزية تقودها الدولة.

في سنغافورة على سبيل المثال استُخدمت العلوم السلوكية منذ السبعينيات إلى وقتنا الحاضر، عندما أقدمت الحكومة على ممارسة الضغط الاجتماعي على مواطنيها للحفاظ على سنغافورة نظيفة، وتدخل رئيس الوزراء لي كوان يو في حياة المواطنين الخاصة، مثل: من جارك؟ وكيف تعيش؟ وما الضوضاء التي تصدرها؟ وكيف تبصق؟ واللغة التي تستخدمها. تجربة أخرى في بريطانيا حيث أظهرت تغيرات بسيطة في الاتصالات الحكومية، كتغيير الصياغة في النماذج أو الرسائل إلى زيادة تسجيل المتبرعين بالأعضاء وارتفاع أعداد المجندين في الجيش البريطاني وتحسين الامتثال، وهو الأمر الذي يعكس إمكانية القيام بالتغيير الاجتماعي الإيجابي وصنع السياسات الفعالة.

 هل تلهو البصائر السلوكية بالمواطنين؟

تبالغ المنشورات الأكاديمية في آثار الرؤى السلوكية، ذلك أن عدداً من الأدلة يرى أنها قد تكون فعالة، لكن فاعليتها تتوقف على "السياق" الذي تعمل فيه. وانتقد عدد أكثر تطرفاً في ليبراليتهم الرؤى السلوكية، حيث افترضوا بأن الدولة "تلهو بالمواطنين سراً"، وتجعلهم تحت "الأبوة التنويرية الليبرالية"، لتتعقبهم وتُصحح ما تراه أخطاء في اختياراتهم الشخصية من خلال تغيير بيئتهم بأسلوب ناعم وجذاب، أو ما يسمى بـ"هندسة الاختيارات". في خضم هذا القرن حيث تقود الحكومة دفة الاختيارات والتصرفات يتبدى النقاش حول إلى أي مدى يعد ذلك من قبيل "التربية الاجتماعية"؟ وهل هي في حقيقتها استجابة لمطالب المجتمع واحتياجاته أم هي لوحة فنية قامت بها النخبة لإعادة تشكيل الحياة المعاصرة بحيث يدور كل شيء في فلك الإنسان الاقتصادي؟

لكن هل تعدو البصائر السلوكية في السياسات العامة أن تكون مجرد أداة باردة ومحايدة؟ كلا، هي أكثر من ذلك، إنها رؤية كاملة للحياة وكيفية ممارستها، فالإنسان ومعاشه ممزوج بأفعال وممارسات وتنبيهات وتصرفات وحركات لها دلالات ذات بُعد ثقافي وحضاري. وبصفة عامة فإن مغامرة البصائر السلوكية بمحاكاة نتائج دقة العلوم الطبيعية أمرٌ غير مسلم به، ذلك أن دراسة السلوك البشري وتوجيهه رحلة غير مأمونة العواقب، فالظاهرة الإنسانية ذات أفق غامض ومعقد بخلاف الظاهرة الطبيعية الثابتة بقوانين محددة، فضلاً عن أن البشر ليسوا بـ"فئران تجارب" تحت ستار العلم أو "الترشيد"!

وهكذا يحتدم النقاش بشأن رغبات علم السياسات العامة وضوابط الأخلاق. ويصل الأمر عند بعض للقول بأنها ضرب من ضروب "الكذب النبيل" أو "الخداع الزائف"، وربما تكون بداية جديدة في مسيرة السيطرة على البشر والتحكم في العقول والأذواق.

 الحفز سلاح محايد

لما كان للتربية الاجتماعية دور في إنشاء المعاني والهوية والصلة بأنفسنا وبالعالم الخارجي، فإنه يتعين على صناع السياسات العامة في عالمنا العربي ألا يتركوا مواطنيهم فريسة للشركات الرأسمالية، ويراعوا المخزون التاريخي والمعنوي والأخلاقي والديني الضخم ليستفيدوا منه تفعيلاً وممارسة وتطويراً وتحديثاً.

يكشف ذلك عن حيرة فلسفية بين ثلاثة اتجاهات، الأول يرى أن المواطنين يتصرفون بأسلوب لا عقلاني، ويطالب الحكومة بالتدخل لحمايتهم من شرور أنفسهم، والثاني يعتقد أنصاره أنهم أحرار في اتخاذ ما يرونه ملائماً، ويحاول الثالث الموازنة بين مراعاة المصالح العامة والخاصة.

تبدو البصائر السلوكية في عالم السياسات العامة كسكين حادة يمكنها أن تقطع الفاكهة لننتفع أو أن تمارس بها جريمة، لذا لم يكن مُنظر الاقتصاد السلوكي الأمريكي ريتشارد ثالر  Richard H. Thaler والحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية مخطئاً حينما كان يمهر نسخة من كتابه المسمى بـ"الحفز" بعبارة: "رجاء استخدم الحفز من أجل الخير"، وتصبح هذه العبارة الموجزة نداءً لتحديث السياسات العامة ضمن إطار أخلاقي قيمي.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...