الابتكار الاجتماعي
مقدمات في البصائر السلوكية

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 13

مقدمات في البصائر السلوكية

   رائد العيد

في البدء

عملَ علمُ الاقتصاد على تفسير السوق وفشلَ في تفسير السلوك البشري في السوق، وبالاستفادة من علم النفس ظهر "الاقتصاد السلوكي" محاولًا تفسير السلوك البشري الاقتصادي، الذي يفترض الاقتصاد الكلاسيكي أنه سلوك رشيد وعقلاني يعرف كيفية تعظيم منفعته مقابل إنفاقه، إلا أن الاقتصاد السلوكي أبان عن محدودية القدرات البشرية والاستعجال في اتخاذ القرارات الاقتصادية دون دراسة منطقية وعقلانية وبتأثر من عوامل سلوكية واجتماعية عدة.

بعد ذلك، أصبح الاقتصاد السلوكي توجهًا عالميًّا على مستوى الأفراد والمؤسسات، وبات التركيز موجّهًا نحو البُعد السلوكي للأفراد عند تحديد اختياراتهم، حتى يتسنَّى التدخُّل غير المباشر لتوجيه السلوك البشري نحو الخيارات الأفضل، من خلال التحكّم في بيئة الاختيار ذاتها عبر "هندسة الاختيار"، أي تصميم طرق مختلفة يمكن من خلالها عرض الخيارات الأكثر رشدًا على المستهلكين، وتأثير هذا العرض في عملية صنع القرار لدى المستهلك، فإلزام المطاعم بإظهار السعرات الحرارية لكل وجبة معروضة للمشترين يُعدُّ أحد تطبيقات الاقتصاد السلوكي.

بدأ الحراك الكبير للعلوم السلوكية مع فريق الرؤى السلوكية في بريطانيا، ونجاح الفريق دفع عددًا من الدول إلى تأسيس وحدات سلوكية وفرق مشابهة، إحداها الولايات المتحدة الأمريكية التي أطلقت وحدة العلوم السلوكية في 2015، وقال الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطاب تدشينها: "إن تبني رؤى علم السلوك سيساعد في إدخال حكومتنا في القرن الحادي والعشرين من خلال مجموعة واسعة من الطرق، بدءًا من تقديم الخدمات بشكل أكثر كفاءة وفعالية، إلى تسريع الانتقال إلى اقتصاد الطاقة النظيفة، إلى مساعدة العمال في العثور على وظائف أفضل، والحصول على فرص تعليمية، وعيش حياة أطول وأكثر صحة".

تعريفات
  • البصائر السلوكية Behavioural Insights: مجموعة من المفاهيم والأدوات المستمدة من علم النفس السلوكي والاجتماعي لفهم تصرفات الناس وآلية اتخاذ القرارات في حياتهم وكيفية التأثير فيها.
  • الحفز  Nudge: التغييرات في تصميم الخيارات لتوجيه اختيار الناس نحو اتخاذ قرارات أفضل بأسلوب متوقع دون تقييد لاختياراتهم.
  • الاقتصاد السلوكي Behavioral economics: العلم المعني بتحليل القرارات الاقتصادية والمالية للأفراد والمؤسسات عن طريق دراسة العوامل الاجتماعية والفكرية.
  • السياسات العامة Public Policy: ترجمة أولويات الحكومات أو المنظمات ومبادئها إلى سلسلة متسقة من البرامج لتنفيذ الأهداف الاستراتيجية ومعالجة الاحتياجات وإحداث التغيير المنشود.
مجالات

الأدوات التقليدية كاللوائح والضرائب والإعانات ليست دائمًا فعالة في تغيير السلوك الاجتماعي، كما يقول جون كامينسكي، الزميل الفخري في مركزIBM  للأعمال الحكومية، ويبين أهمية توظيف البصائر السلوكية وبعض المجالات التي تساهم فيها بشكل كبير، في مقالته "لماذا تحتاج الحكومات إلى الاستفادة من الإمكانات الثورية للعلوم السلوكية"، وهي:

تحليل وتصميم السياسات العامة

تصميم وابتكار الحلول

تصميم تجربة العملاء

طرق إشراك المواطنين

تقييم وإدارة المخاطر

تحسين مشاركة الموظفين

 تقييم وحماية الأمن السيبراني

تقييم البرامج والمبادرات

فروقات

Screenshot 2024-01-13 171956.png

خطوات

ابتكر فريق الرؤى السلوكية منهجية TESTS الخاصة بتصميم تجارب البصائر السلوكية والمتمثلة في خمس خطوات هي:

  1. تحديد الهدف: تحديد السلوكيات المراد تغييرها في مجتمع معين.
  2. استكشاف السلوك: فهم السياق الذي تمارس فيه السلوكيات المستهدفة والعوائق التي تحول دونها.
  3. تصميم التجربة: تصميم تدخلات وفق إطار البصائر السلوكية مبنية على استكشاف السياق لتوجيه الخيارات نحو السلوكيات المستهدفة. 
  4. اختبار الحل: اختبار تلك التدخلات وتقييمها بدقة.
  5. توسيع النطاق: تنفيذ تدخلات ناجحة على نطاق أوسع لتحقيق تأثير مجتمعي أكبر.
مواصفات

تعزيز فاعلية البصائر السلوكية في توجيه الأشخاص لاتخاذ الخيارات المرغوبة يتطلب أن تتصف بصفات أربعة حسب إطار“EAST" الذي وضعه فريق الرؤى السلوكية والمعروف، وهي:

  • سهل: يميل الناس إلى أخذ الخيارات الافتراضية وينفرون من الخيارات التي تتطلب العديد من الخطوات حتى لو كانت عدة نقرات على موقع إلكتروني، قلل الجهد المطلوب وستجد زيادة في معدلات الاستجابة.
  • جذاب: يستجيب الناس لما يُلفت انتباههم، استخدم الألوان والصور وصمم الحوافز المحددة وفق احتياجات الفئة المراد توجيه اختياراتها.
  • اجتماعي: تتحرك دافعية الناس لفعل ما يرون معظم الناس يفعلونه، أظهر فعل الآخرين للسلوك المطلوب لتحفيز البقية للاحتذاء بهم؛ فالطبيعة الاجتماعية تندفع وراء ذلك.
  • التوقيت المناسب: يستجيب الناس للحوافز الآنية أكثر من اللاحقة، اعمل على توفيرها ولو بشكل بسيط، واحرص على اختيار التوقيت المناسب لتفعيل البصائر السلوكية، فردود الأفعال تختلف باختلاف توقيت التنبيهات.

Screenshot 2024-01-13 172010.png

مميزات

يندر الحديث عن توظيف البصائر السلوكية في القطاع غير الربحي، رغم احتياجه الشديد لمثل أدواته ومناهجه. ومن المساهمات المثرية الورقة البحثية التي نشرها مركز التنمية العالمية بعنوان "التصميم السلوكي: نهج جديد لسياسة التنمية"، قدمت رؤية واسعة لاستخدام رؤى الاقتصاد السلوكي لتصميم برامج ومنتجات وسياسات أفضل في التنمية، بحجة أن البرامج الناجحة تعتمد على الأشخاص للتصرف والاختيار بطرق معينة، والبرامج التنموية ليست استثناء.

علم الاقتصاد السلوكي يمكن أن يساعد صانعي السياسات ووكالات المعونة والمؤسسات غير الربحية والشركات وأي شخص آخر يصمم أو ينفذ البرامج التنموية؛ فهو يساعدنا على فهم سبب تصرف الناس واختياراتهم كما يفعلون. ومعالجة المشكلات التنموية باستخدام البصائر السلوكية يؤدي إلى تشخيص أفضل، مما يؤدي بدوره إلى حلول مصممة بشكل أفضل.

هنا بعض المجالات في العمل التنموي التي أرى الأثر الكبير الذي سيحدث فيها عندما تُفعّل فيها البصائر السلوكية:

  • تعزيز الثقة الاجتماعية تجاه الجمعيات.
  • تحسين التقارير والأدلة حول التأثير والفعالية.
  • تحفيز التبرع بفهم دوافع تبرع الناس.
  • الوصول للمستفيدين بأدوات أكثر مناسبة.
  • إقناع المانحين في دعم التكاليف الأساسية.
  • استقطاب المتطوعين بخطاب أكثر جاذبية. 
إجراءات

تنقسم منهجيات الحكومات والمنظمات في تشكيل فرق البصائر السلوكية إلى ثلاثة مناهج "المركزي، واللامركزي، والهجين"، إلا أنها كلها تعتمد على إجراءات تأسيس مشابهة. قدمت منظمة الصحة العالمية دليلًا عن إنشاء وحدات البصائر السلوكية في مجال الصحة، والذي يمثل إرشادات عامة يمكن تعميمها على مختلف المجالات، حيث يوفر الدليل التوصيات بشأن الإجراءات الرئيسية الثمانية التي يجب العمل عليها لتأسيس وحدة خاصة بالبصائر السلوكية في المنظمات:

مهارات

تصميم تجارب البصائر السلوكية يتطلب عددًا من المهارات التي قد لا تجتمع في شخص واحد، وبالتالي من المهم العناية بها عند تشكيل الفرق الخاصة بوحدات البصائر السلوكية، وكذلك من المفيد جدًا الاطلاع عليها ولو بشكل جزئي لمختلف العاملين في تصميم السياسات والمبادرات المجتمعية.

  • علم السلوك: دراسة علم النفس وفهم التحيزات السلوكية لا يكفي، بل تحتاج إلى الفهم العميق للنظريات الكامنة خلف تلك التحيزات، وترجمة تلك النظريات إلى بصائر فعالة تتكيف مع متغيرات الواقع.
  • البحث والتقييم: يعتمد تصميم البصائر السلوكية على دراسة السياق المراد التأثير فيه، وبالتالي فهي محتاجة إلى إنشاء تدخلات سلوكية قائمة على البحث والاختبار والتقييم. 
  • السياسات والبرامج العامة: عكس البيانات المستفادة من دراسة السياق على هيئة سياسات عامة وتدخلات برامجية يحتاج إلى إدراك لكيفية عمل المنظمات وتصميم الحلول العامة وتنفيذها. 
في الختام

البصائر السلوكية ليست سوى أداة من مجموعة أدوات صناعة السياسات وتصميم البرامج ورسم التدخلات، ولا تكفي عوضًا عن غيرها من المنهجيات والأدوات، فهي أداة مكملة ولكن بنسبة تأثير عالية. وإذا كانت منهجيات الابتكار مفيدة في حل المعضلات ومعالجة أصعب التعقيدات، فأدوات البصائر السلوكية مفيدة جدًا في تقبّل الابتكارات، وحل التحديات الصغيرة والمشاكل الجزئية التفصيلية.

تسمح وحدات البصائر السلوكية بتحقيق نتائج أفضل باستخدام الأدلة والبيانات للوصول إلى خطط تغيير تتفوق على الخطط المبنية وفق أدوات التدخل التقليدية، فالبصائر السلوكية تساهم في سد الفجوة بين النوايا الحسنة لخدمة المجتمع والإجراءات التي تحقق ذلك على أرض الواقع.

هذه المادة ليست دعوة للانتقال إلى موجة البصائر السلوكية والانشغال بها عن تحقيق الأثر التنموي المراد والمطلوب، وإنما هي دعوة للاستزادة من هذا المجال المهم وتطعيم البرامج التنموية به والاستفادة من أدواته في الوصول إلى المستفيدين والتأثير بهم وتوجيه قراراتهم نحو الخيارات الأرشد. 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...