الابتكار الاجتماعي
أغبوغبلوشي وتصدير المشكلات البيئية: هل هو ابتكار؟

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 15

أغبوغبلوشي وتصدير المشكلات البيئية: هل هو ابتكار؟

   عبيدة دباغ

تمهيد:

لا بد أن الكثير منا قد سمع عن الحل المالتوسي (نسبة إلى العالم مالتوس) لمشكلة نقص الغذاء في الكرة الأرضية، ولا بد أن الكثير ممن يقرؤون هذه المقالة الآن قد واجهوا نظرية مالتوس في أثناء دراستهم في الثانوية أو الجامعة، وبالطبع العديد سمع عن البعد غير الإنساني لنظرية مالتوس والحلول الاستعمارية، التي استخدمت لتبرير السياسات القمعية والتوسعية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولهؤلاء الذين لم يسمعوا عن مالتوس ونظريته، نقول:

 توماس مالتوس، الاقتصادي الإنجليزي البارز، صاغ في عام 1798 أطروحته الشهيرة "مقالة حول مبدأ السكان"، فقد طرح فكرة أن النمو السكاني يتزايد بمتوالية هندسية، في حين أن الموارد الغذائية تنمو بمتوالية حسابية، هذا التفاوت كان يعني -حسب مالتوس- أن العالم سيواجه حتماً أزمات نقص في الغذاء، مما سيؤدي إلى المجاعات والحروب والكوارث الطبيعية، التي ستعيد التوازن بين عدد السكان والموارد المتاحة، ويرى بعض المعنيين أن هذه النظرية لم تكن مجرد إطار تحليلي اقتصادي، بل تحولت إلى أداة لتبرير السياسات الاستعمارية، التي سعت للسيطرة على الموارد والسكان في الأراضي المستعمَرة، مدعية أن السيطرة الأوروبية كانت ضرورة، لضمان إدارة أكثر فاعلية للموارد وللتعامل مع "التحديات المالتوسية".

وأوضح مالتوس أنه إذا لم يتخذ المجتمع إجراءات للتحكم في تكاثر السكان، وخاصة بين الفقراء، من خلال وضع قيود تتناسب مع قدرة المجتمع على إنتاج الغذاء، فإن "قوانين الطبيعة" ستتدخل لإعادة التوازن، وهذا من خلال انتشار الأمراض، ووقوع المجاعات، وزيادة الحروب نتيجة الصراع على الموارد، بفعل غريزة البقاء لدى الإنسان.

يعتقد مالتوس أن من مسؤولية الدولة أن تمتنع عن تقديم المساعدات الاجتماعية للفقراء، لأن هذه المساعدات لا تساعدهم فعلياً على تحسين أوضاعهم، بل تعيقهم عن إدراك أنهم السبب الأساسي في "المأساة" التي يعيشونها، من وجهة نظر مالتوس تقديم المساعدات يشجع الفقراء على الاستمرار في التكاثر دون مراعاة للموارد المحدودة المتاحة، مما يؤدي إلى تفاقم المشكلة بدلاً من حلها، وفقاً لمالتوس الدعم الاجتماعي يُعد مسكناً مؤقتاً يخفي جذور المشكلة بدلاً من معالجتها، مما يفضي إلى دورة مستمرة من الفقر والمعاناة، لذا يقترح مالتوس أن الحل يكمن في وضع قيود تحث الفقراء على التحكم في معدلات التكاثر، بما يتناسب مع قدرة المجتمع على إنتاج الغذاء، يرى مالتوس أن هذا النهج سيؤدي إلى استدامة الموارد وتحقيق توازن طبيعي، يحد من المجاعات والأزمات الاجتماعية[1].

في مقاله حول مبادئ السكان حث مالتوس على زيادة معدل الوفيات بين الفقراء، معتقداً أن الأطفال الذين يولدون بأعداد تفوق حاجة المجتمع ينبغي أن يموتوا، كان يعتقد أن الفقراء يساهمون في تفاقم المشكلة السكانية، وأن الحل يكمن في تقليل أعدادهم للحفاظ على الموارد وتحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي[2].

اعتمدت نظرية مالتوس السكانية لمدة طويلة بين الاقتصاديين حول العالم، مما أدى إلى نتائج كارثية على الصعيد الإنساني، استخدمت هذه النظرية لتبرير الإبادة الجماعية للعديد من الشعوب، حيث تعرضت بعض المجموعات العرقية المضطهدة، مثل السود والهنود في أمريكا، لعمليات تعقيم قسرية تحت ستار التطهير الطوعي، أحد الأمثلة البارزة لذلك هو تجربة التنمية السوفياتية، التي شرعت إبادات جماعية بحجة ضرورة تحقيق التراكم اللازم للتنمية والتقدم الصناعي[3].

هذه الأفكار المالتوسية استخدمت لتبرير سياسات قمعية وغير إنسانية، تضمنت الإبادة الجماعية والتطهير القسري، لم تكن هذه السياسات مدمرة فقط من الناحية الأخلاقية، بل أظهرت أيضاً قصوراً في معالجة القضايا السكانية بطرائق أكثر إنسانية، الإصرار على هذا النهج أدى إلى تفاقم المعاناة البشرية بدلاً من تقديم حلول حقيقية ومستدامة للمشكلات السكانية، تعكس هذه السياسات والتطبيقات العملية لأفكار مالتوس كيف يمكن للنظريات التي تعالج مشكلات، مثل البيئة والغذاء أن تستخدم لتبرير أعمال قمعية وانتهاكات في حق الإنسان، وبذلك ما كان يراه مالتوس على أنه حل ابتكاري ووجهة نظر علمية هو ليس أكثر من حل استعماري وغير إنساني، وهذا ينقلنا إلى موضوع مقالتنا، حيث سنناقش أحد الحلول المعاصرة الخاصة بالبيئة.

أولاً: مقدمة

مقالتنا هذه تتناول موضوعاً شائكاً، ويحتاج إلى تحقيق صحفي نحن لسنا بصدد القيام به، لكننا سنحاول التطرق إلى الموضوع من خلال استعراض سريع لبعض ما قيل عنه في المواقع الإلكترونية والمصادر البحثية. في هذه المقالة سأضع نفسي مكان أي قارئ عادي يحاول البحث عن القضية عبر محرك البحث جوجل "Google" للتعرف عليها بنحو أفضل، وبعد استعراض بعض الخرائط والنصوص المتوفرة على شبكة الإنترنت، سنناقش القضية المطروحة للإجابة عن السؤال الرئيسي للمقالة: هل تجاوزت الحلول البيئية المعاصرة البعد الكلاسيكي الاستعماري في عصر يدعي أصحابه بأنهم دعاة للبيئة المستدامة والحلول الابتكارية الإنسانية؟

ثانياً: في السرد

يجدر التنويه إلى أن القارئ يجب أن يتحلى بالصبر، لأننا قبل أن نستعرض صلب المشكلة الأساسية، سنستعرض بعض الحقائق والإحصائيات، التي ستشكل القاعدة الأساسية التي سنبني عليها حججنا فيما بعد.

في البداية نطرح على القارئ السؤال التالي (ليستعد القارئ، لأننا سنطرح عليه أكثر من سؤال قبل أن نصل إلى صلب الموضوع): ما أول الدول التي تخطر على بالك عندما يسألك شخص ما عن الدول التي تمتلك أجواء صحية وبيئة خضراء؟ بالطبع قد يخطر ببالك (كما قد خطر ببالي) في المقام الأول الدول الأوروبية، وأمريكا، وكندا، وأستراليا، أي باختصار: الدول الغربية.

ولنستعرض مع القارئ بعض النتائج، التي قد يصادفها على جوجل عندما يكتب العبارة التالية: ما الدول الحائزة على المراتب الأولى في امتلاك بيئة خضراء وصحية؟

ونستعرض للقارئ بعض النتائج التي صادفتنا بعد البحث عشوائياً، ونقدم لقطة الشاشة التالية من أحد المواقع:

 الصورة 1[4]

بناء على لقطة الشاشة السابقة نلاحظ كيف أن النتائج تتطابق مباشرة مع توقعاتنا، أنا والقارئ (بالطبع في حال سمح لي القارئ أن أصادر توقعاته). يشير موقع "وليام راسل" الشهير إلى الدول العشر الأولى من ناحية البيئة الخضراء، وهذه الدول -كما يبدو للقارئ- كلها تنتمي إلى أوروبا، وتشمل جميع الدول الإسكندنافية أيضاً.

لنطلع أيضاً على موقع آخر يزودنا بخرائط توضح لنا الدول الأقوى من ناحية البيئة الخضراء، ويوضح الموقع من خلال تقرير كتبته (برونتي ماكليلاند) وحدِّث آخر مرة في عام 2024، معنى عبارة "البيئة الخضراء"، إذ يشير الموقع إلى أن الدول ذات البيئة الخضراء هي كالتالي:

"يعكس كون الدولة "خضراء" مدى اهتمام الدولة بالحفاظ على البيئة الطبيعية، ومواردها وإعادة تدويرها، فضلاً عن صحة مواطنيها، ويظهر ذلك من خلال صنع السياسات وفاعلية التدابير الحالية"[5].

وفي الأسفل نطلع على خريطة تحدد الدول التي تتصدر كونها الدول العشر الأولى في "امتلاك البيئة الخضراء".

 Asset 8@4x.png

الصورة 2[6]

من خلال الخريطة يمكن ملاحظة كيف أن الدول العشر الأوائل وعلى رأسها السويد هي أيضاً تنتمي للدول الأوروبية باستثناء كوستاريكا، إذ يشير التقرير إلى أنها الدولة الوحيدة غير الأوروبية التي تتصدر بين الدول العشر الأوائل في امتلاك "بيئة خضراء".

واللافت في الأمر أن التقرير هذه المرة يؤكد بنفسه مدى توافق نتائجه مع استطلاعات رأي الناس حول توقعاتهم بشأن الدول الرائدة في امتلاك "بيئة خضراء"، إذ يشير التقرير إلى أن رأي الناس حول مدى صداقة الدول للبيئة واستدامتها يتفق عموماً مع الترتيب النهائي للدول الأكثر خضرة في التقرير، ذلك أن هناك دراسة أجريت في عام 2020 سألت 15,000 شخص من مختلف الجنسيات الذين يعيشون في 181 دولة عن مدى رضاهم عن جودة الهواء، والبيئة الطبيعية، والمياه والصرف الصحي، وتوفر السلع والخدمات الخضراء، وإمدادات الطاقة، وإدارة النفايات وإعادة التدوير. كما سئلوا عن مدى دعم الحكومات للسياسات البيئية واهتمام السكان المحليين بالقضايا البيئية، نتائج هذه الدراسة كانت مشابهة لترتيب الدول في التقرير النهائي، الذي أعد بناء على مؤشرات متعددة.

وبذلك وللمرة الثانية تتفق توقعاتنا، أنا والقارئ، مع النتائج التي عرضت في الموقع الذي بحثت عنه عشوائياً على جوجل (طبعاً هذا لا يشير بالضرورة إلى مدى صدق المعلومات وحياديتها العلمية)، بل وأكثر من ذلك، يقدم لنا الموقع هذه المرة المدى الكبير لتطابق النتائج مع توقعات الأشخاص الذين أجري استطلاع رأي لهم.

والأكثر من ذلك فإن التقرير في هذا الموقع يحاول أن يؤكد نتائجه من خلال أن ينوه إلى حقيقة مفادها: أن الدراسة اعتمدت على دمج بيانات من عدة مصادر ومؤشرات رئيسية، للحصول على صورة شاملة عن الدول الأكثر خضرة واستدامة بيئياً، وهذه المصادر هي:

مؤشر الأداء البيئي (EPI) من جامعة ييل: يقيم الدول بناء على 40 مؤشراً، تتعلق بتغير المناخ والصحة البيئية وحيوية النظام البيئي.

مؤشر المستقبل الأخضر (GFI) من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: يقيم التزام الدول بالمستقبل المستدام باستخدام 22 مؤشراً، منها سياسة المناخ وانبعاثات الكربون.

تقرير مركز الأبحاث المشتركة للاتحاد الأوروبي: يقدم بيانات عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لأكثر من 200 دولة وإقليم، من ذلك انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للفرد.

بيانات IQAir: توفر معلومات عن تركيزات الجسيمات الدقيقة PM2.5 لـ 117 دولة وإقليماً، وهي جسيمات دقيقة تؤثر في الصحة العامة.

بناء على هذه المصادر جرى تحليل الدول وترتيبها وفقاً لأدائها البيئي والالتزام بالاستدامة، مما أتاح تحديد الدول الأكثر خضرة واستدامة في التقرير السابق[7].

كان ذلك نظرة سريعة حول الدول الأكثر امتلاكاً لما يمكن تسميته "البيئة الخضراء"، أما بالنسبة لمدى استدامة البيئة، فنسأل القارئ مرة أخرى: عزيزي القارئ، ما الدول التي تعتقد أنها تحتل المرتبة الأولى من ناحية تبني سياسات استدامة بيئية؟

للإجابة نشير إلى تقرير آخر صادر عن ROBECO"" عام 2021، حيث تستعرض الدول التي تحتل المراتب الأعلى من ناحية مدى استدامة الحلول البيئية، إذ تشير الخريطة التالية إلى توزع الدول بناءً على مدى الاستدامة البيئية.

Asset 9@4x.png 

الصورة 3 [8]

من خلال النظر إلى الخريطة أعلاه يعطينا التقرير النتائج التالية:

بدءاً من خريف عام 2021 واصلت الدول الإسكندنافية الحفاظ على ريادتها العالمية في مجال الاستدامة، وبحصولها على درجة 8.91 في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية، تتصدر فنلندا الترتيب الحالي للمرة الأولى، متقدمة على جيرانها في بلدان الشمال الأوروبي السويد والدنمارك والنرويج وأيسلندا، وتأتي سويسرا في المركز السادس برصيد 8.53، متقدمة مباشرة على نيوزيلندا، تضم المجموعة الأعلى تصنيفاً 13 دولة، عشر منها تقع في أوروبا، وبصرف النظر عن نيوزيلندا، لم تدخل سوى أستراليا وكندا في قائمة البلدان عالية الأداء في الحوكمة البيئية، وعلى الرغم من التفاوتات فيما يتعلق بانبعاثات الكربون والسياسات المناخية في الإجمال، فإن كل هذه الدول تتمتع بملامح استدامة قوية ومتوازنة[9].

وبناء على النتائج السابقة نلاحظ أيضاً أن الدول التي تحتل المراتب الأولى بالنسبة للحوكمة البيئية المستدامة، تشمل بالغالب الدول الأوروبية، ولكن هذه المرة يضاف إليها دول غربية غير أوروبية أيضاً. باختصار يتصدر العالم الغربي مجدداً المراتب الأولى فيما يتعلق بالقضايا البيئية.

عند هذه النقطة وصلنا إلى سؤال آخر للقارئ، وقد طلبنا سابقاً من القارئ أن يكون صبوراً قبل أن نبدأ في مناقشة الموضوع الرئيسي. السؤال هو: ما الدول التي تعتقد أنها تنتج الحلول الأكثر ابتكارية على مختلف المستويات، سواء في المجالات البيئية أو العلمية أو الاجتماعية؟

وفي حال سمح لي القارئ أن أصادر على رأيه، فأنا أتوقع أن القارئ أيضاً سيجيب بأن الدول الغربية بالمجمل هي الأكثر تقدماً بما يتعلق بالحلول الابتكارية، وقبل أن أعرض على القارئ الخرائط التالية، أود أن أبلغه بأن توقعه صحيح، فبناء على البحث العشوائي في جوجل، نجد أن الدول الأكثر ابتكاراً غالباً ما تكون من الدول الغربية.

وفي الأسفل، عزيزي القارئ، الخريطة التي تؤكد توقعاتك:

 Asset 10@4x.png

الصورة 4[10]

وكما هو واضح تعرض الخريطة أعلاه مؤشراً عاماً لعام 2023 لأكثر الدول ابتكاراً، يجدر بنا أن نلاحظ أن الدول تصنف أعلى ابتكاراً  كلما كان لونها أخضر كاشفاً في الخريطة، وبذلك يظهر من خلال طريقة عرض الدول بالترتيب أسفل الخريطة، ومن خلال ألوان الدول داخل الخريطة أن الدول الأكثر ابتكاراً هي في الغالب الدول الغربية، مع وجود بعض الاستثناءات، مثل وجود دولتين من شرق آسيا.

بعد استعراض المواقع السابقة، يمكننا تلخيص الحقائق من خلال المثلث التالي، الذي يظهر تفوق الدول الغربية في المجال البيئي على ثلاثة مستويات:

Asset 13@4x.png

من خلال قراءة الشكل السابق يمكن أن نلاحظ أن التفوق في الحلول الابتكارية للدول الغربية أدى إلى تفوقها على مستوى الحوكمة البيئية، مما أدى بدوره إلى تفوقها على مستوى البيئة الخضراء.

ثالثاً: في عرض المسألة

 كعادتنا سوف نستمر في التصفح على جوجل، ولكن هذه المرة لأغراض مغايرة للأولى، إذ نبحث في الإنترنت عن دول أخرى، ففي أثناء بحثنا على الإنترنت، صادفنا مباشرة صوراً كان قد التقطها المصور (كيفن ماكلفاني)، ونستعرض للقارئ بعضها:

 3f35943b-2b33-4e16-ad8b-e24c3cb9fcb1-2060x1368.webp

الصورة 5[11]

 ad19504e-599f-4c0e-9ba8-8fc492e8dbc1-2060x1373.webp

الصورة رقم 6[12]

 74b3b300-d205-4c85-8ef9-d98685f55f35-2060x1368.webp

الصورة رقم 7[13]

والآن نستطيع أن نسأل القارئ السؤال التالي: عزيزي القارئ، هل تعتقد أن هذه الصور لها أي ارتباط بالعالم الغربي من قريب أو بعيد؟

قبل أن نجيب القارئ عما إذا كانت هذه الصور لها أي ارتباط بالعالم الغربي، سنطرح سؤالاً آخر: ما الكلمة المفتاحية التي تعتقد أنني استخدمتها في صندوق البحث الخاص بجوجل للحصول على هذه الصور؟

بالطبع، أنت محق عزيزي القارئ في توقعاتك، فأنا لم أكتب في جوجل: "ما أكثر الدول امتلاكاً لبيئة صحية"، بل في الحقيقة هذه المرة كتبت: "ما أكثر الدول تلوثاً في العالم؟".

لكي أشرح لك، عزيزي القارئ، عن هذه الصور، وفي أي دولة التقطت، سأوضح لك من خلال المواقع التي بحثت فيها على جوجل، من خلال اقتباسي لنص من نفس الموقع الذي أخذت منه الصور:

"يتوقع الأفراد الذين يتخلصون من السلع الإلكترونية أن يتم إعادة تدويرها بشكل صحيح، لكن جميع هذه الأجهزة تقريباً تحتوي على مواد كيميائية سامة، والتي حتى لو كانت قابلة لإعادة التدوير، تجعل القيام بذلك مكلفاً. ونتيجة لذلك أصبح التخلص غير القانوني من النفايات عملاً مربحاً، يوثق المصور (كيفن ماكلفاني) أغبوغبلوشي، وهي أرض رطبة سابقة في أكرا، غانا، والتي تعد موطناً لأكبر موقع لدفن النفايات الإلكترونية في العالم، الأولاد والشبان يحطمون الأجهزة للوصول إلى المعادن، وخاصة النحاس. هناك حيث تترافق الإصابات، مثل الحروق والجروح غير المعالجة وتلف العين ومشكلات الرئة والظهر، جنباً إلى جنب مع الغثيان المزمن وفقدان الشهية والصداع المنهك ومشكلات الجهاز التنفسي، ويموت معظم العمال بسبب السرطان في العشرينات من عمرهم".

وبعد هذا الاقتباس، نعتقد أننا لسنا مضطرين أن نشرح للقارئ المزيد عن مصدر هذه الصور، ومع ذلك نبقى ملزمين بالإجابة عن السؤال الذي طرحناه على القارئ في بداية هذه الفقرة، عن إمكانية وجود أي ارتباط للعالم الغربي مع هذه الصور.

وللإجابة عن هذا السؤال سنقتبس مرة أخرى (كما عودنا القارئ) من المزيد من المواقع التي تتحدث عن منطقة أغبوغبلوشي، والتي تعد مكباً للنفايات الإلكترونية، التي تجد الحكومات أنه من المكلف إعادة تدويرها، لذلك ترمى في هذه المنطقة، حيث يتضرر أهلها الفقراء وهم يبحثون بيأس عن قوت يومهم، من خلال محاولاتهم العشوائية لاستخلاص المعادن من تلك الأجهزة المرمية وبطريقة غير صحية، مما يؤدي إلى تدهور صحتهم ونهاية حياتهم.

وإليك الاقتباس التالي الذي يوضح لك، عزيزي القارئ، مدى إمكانية ارتباط مثل هذه الصور بالعالم الغربي، حيث يكتب (مايكل جيدلهاوزر) في مقدمة مقالته بعنوان "الدول الغنية تمارس استعمار النفاياتwaste colonialism"، ما يلي:

"لا تكتفي البلدان الصناعية بالاستعانة بمصادر خارجية في تنفيذ غالبية عمليات الإنتاج، التي غالباً ما تكون خطرة بيئياً في البلدان الفقيرة، بل إنها تتخلص أيضاً من كميات كبيرة من النفايات هناك. وستكون العواقب وخيمة على المناطق المتضررة وعلى العالم أجمع"[14].

بالطبع، مرة أخرى، هذا الاقتباس واضح بما يكفي ليعفينا من الشرح للقارئ عن مدى ارتباط الدول الغربية (والتي هي دول صناعية كما هو معروف) بهذه الصور، إذ تصدمنا مقدمة المقالة وعنوانها حتى.

إذ يشير الكاتب إلى أن هذه العملية التي تقوم بها الدول الصناعية (التي من المفترض كما رأينا سابقاً أنها من بين الدول الأكثر اهتماماً بالبيئة) لن تكون لها عواقب على المنطقة المتضررة نفسها فقط، بل على العالم أجمع، ويصدمنا أيضاً بالعنوان عندما يسمي هذه العملية "استعمار النفايات"، مما يعني أنه لا يكتفي باتهام الدول الغربية الصناعية فقط بأنها مذنبة بيئياً أمام العالم، بل يصنف ممارساتها على أنها نوع من الاستعمار الجديد، كما يصدمنا أنه لم يبرر تلك العلميات على أنها قد تكون عمليات غير قانونية يقوم بها بعض العصابات دون تدخل الحكومات الرسمية، بل وجه أصبع الاتهام مباشرة إلى الدول الصناعية على أنها تقوم بـ"استعمار الدول الفقيرة بالنفايات".

ولكن ليس (مايكل جيدلهاوزر) هو وحده الذي أطلق صفة الاستعمار على تلك الممارسات الخاصة برمي النفايات، بل نجد إشارات أخرى في مقالات عديدة، منها على سبيل المثال وليس الحصر، مقالة للكاتبة (أنيليس جاكسون) التي تحدثت أيضاً عن أغبوغبلوشي، حيث استخدمت جاكسون مصطلحاً آخر في مقالتها لوصف تلك الممارسة الخاصة برمي النفايات في الدول الفقيرة، وهو مصطلح "الاستعمار السام Toxic colonialism"[15].

لن ندخل في تفاصيل أكثر عن عمليات رمي النفايات الإلكترونية وملابساتها، وذلك لأنها قضية شائكة، وتتطلب تحقيقاً صحفياً، كما أشرنا في مقدمة المقالة، ولكن سنكتفي ببحثنا مع القارئ بأن نتصرف كأي باحث عادي يحاول أن يتصفح الإنترنت، حيث نرى أنه تطرق إلى هذه القضية (رمي النفايات) في عدة مواقع، وسنقدم للقارئ بعضاً من هذه المواقع كما فعلنا سابقاً عندما عرضنا أكثر من موقع يبرز اهتمام العالم الغربي بالبيئة.

وبناء على ذلك سأقتبس من أحد الأبحاث، لتوضيح بعض النقاط حول ظاهرة رمي النفايات ومدى ارتباطها بالمجتمع الغربي:

"إن الشحن غير القانوني للنفايات الإلكترونية من الاتحاد الأوروبي إلى بلدان العالم الثالث يقدم مثالاً على جريمة بيئية معقدة وخطيرة، حيث على مدى العقد الماضي أو أكثر، زاد نقل النفايات الإلكترونية عبر الحدود إلى بلدان العالم الثالث بشكل ملحوظ، تمت ترجمة اتفاقية بازل بشأن التحكم في حركة النفايات الخطرة والتخلص منها عبر الحدود إلى قانون الاتحاد الأوروبي }... {الذي  يحظر تصدير نفايات المعدات الكهربائية والإلكترونية (WEEE) إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك تشير التقديرات إلى أن حوالي 2 مليون طن من مخلفات المعدات الكهربائية والإلكترونية تغادر أوروبا بشكل غير قانوني كل عام"[16].

باختصار نحن لسنا مهتمين بإجراء تحقيق حول تورط الدول الغربية في عملية رمي النفايات، ولكن نرغب في طرح السؤال التالي: إذا كانت الدول الغنية هي الأولى في إيجاد الحلول الابتكارية في مجال البيئة، لماذا لم تجد حلاً لهذه المشكلة التي تهدد العالم بأسره حتى الآن؟ هل تتحول الحلول الابتكارية إلى أدوات استعمارية، مثل حلول تصدير المشكلات البيئية، عندما يتعلق الأمر بالدول غير الغربية؟

خلاصة:

والآن لنعد إلى المثلث الأول الذي رسمناه سابقاً، لنرسم مثلثاً ثانياً يمكننا من المقارنة معه:

Asset 13@4x.png

Asset 12@4x.png

من خلال المثلثات السابقة يمكن للقارئ أن يلاحظ أننا استبدلنا مربع "مستوى الحلول الاستعمارية" بمربع "مستوى الحلول الابتكارية".

من ثم يمكننا القول: إنه كما قلنا بأن ارتفاع مستوى الحلول الابتكارية مكّن العالم الغربي من رفع مستوى الحوكمة البيئية المستدامة، ومن ثم رفع مستوى "البيئة الخضراء"، بالمثل يمكن القول: إن تفوق العالم الغربي في الحلول الاستعمارية مكّنه من تحقيق حوكمة بيئية مستدامة بنحو أكبر داخل دوله، مما أعطاه فرصة أكبر لتحقيق بيئة خضراء مقارنة بالدول الأخرى.

فكما رأينا إن مجرد كتابة عبارة "الدول الأكثر استدامة بيئياً" على مربع البحث في جوجل قد أعطانا مباشرة نتائج لصالح الدول الغربية، فإننا نلاحظ أيضاً أنه عندما نبحث عن الدول الأكثر رمياً لنفاياتها في أفريقيا، فإننا سنتفاجأ بأنها هي الدول الغربية، على سبيل التوضيح أقتبس فقرة تظهر لنا مباشرة على الويكيبيديا عند محاولتنا للبحث عن قضية النفايات، ومن المسؤول عن رميها، وهي كالتالي:

"يتم جلب نفايات المعدات الكهربائية والإلكترونية، أو النفايات الإلكترونية، بشكل غير قانوني إلى الدول الأفريقية كل عام. يأتي ما لا يقل عن 250000 طن متري من النفايات الإلكترونية إلى القارة، ووفقاً للمختبرات الفيدرالية السويسرية لعلوم وتكنولوجيا المواد، فإن معظمها في غرب أفريقيا يدخل من أوروبا. تقوم الدول المتقدمة بتحويل الدول الأفريقية المتخلفة إلى سلعة باعتبارها أماكن لإلقاء نفاياتها الإلكترونية".

وبعد التأكد من الأبحاث التي تعتمد عليها الويكيبيديا، رأينا أن المعلومة صحيحة وموثقة في أبحاث متوفرة على مواقع شهيرة مثل JSTOR"[17]".

رابعاً: اقتراح حلول أكثر ابتكارية وغير استعمارية:

لكي أستطيع أن أقترح حلاً ابتكارياً فإنني سأتصرف كأي باحث عادي يبحث في الإنترنت، حيث صدمته الحقائق، ولذلك قرر أن يتابع بحثه ليرى ما الحلول التي اقترحت على شبكة الإنترنت بغاية التصدي لظاهرة استعمار النفايات هذه أو ما يسمى الاستعمار السام؟

من خلال البحث في شبكة الإنترنت سأحاول استعراض أحد الحلول الابتكارية لمواجهة هذه الظاهرة، المتمثلة في عملية نقل النفايات من الاتحاد الأوروبي إلى أفريقيا وغيرها.

في أثناء البحث واجهت كماً هائلاً من المقالات والأبحاث المحكمة، التي تتحدث عن عملية نقل النفايات، ليس فقط إلى أفريقيا، بل أيضاً إلى تركيا والصين وغيرها، وكانت هذه المقالات تحذر القارئ وتوعيه بنحو كبير بأن النفايات الإلكترونية التي يرميها هو تسبب ضرراً لأشخاص آخرين في دول أخرى.

 مثل هذه العبارات كانت:

الصورة رقم 8 [18]

وتعني هذه العبارة: "تنتهي النفايات الإلكترونية الأسترالية في مكب نفايات أفريقي سام، حيث يمزقها الأطفال".

 وعناوين أخرى مثل:

الصورة رقم 9[19]

وتعني هذه العبارة: "أجهزتك الإلكترونية القديمة تسمم الناس في مكب النفايات السامة في غانا".

وأيضاً نجد عبارات توعية مماثلة في نهاية الفيلم الغنائي القصير ل (ساشا رينبو) حول منطقة أغبوغبلوشي على النحو التالي:

 

الصورة رقم 10 [20]

حيث تعني هذه العبارة أعلاه:

"عندما تتخلص من هاتفك المحمول وجهاز الكمبيوتر والأجهزة المنزلية، فإنه غالباً ما تذهب نفاياتك في رحلة عبر المحيطات إلى أغبوغبلوشي".

وبالفعل يمكن القول: إن الباحث في هذا الموضوع يجد الكثير من التحذيرات والتوعية حول الموضوع، إلا أن هذه التحذيرات لا يمكن أن تعد أكثر من كونها حلاً وقائياً توعوياً، وليست على الإطلاق حلاً ابتكارياً يتصدى لظاهرة الاستعمار.

ومن ثم وبعد متابعة البحث عميقاً، عثرت على موقع يمكن أن يلهمنا إرهاصات حل ابتكاري وتوعوي حقيقي ضد ظاهرة استعمار النفايات، يتعلق هذا الموقع بأطلس العدالة البيئية، إذ يوفر الأطلس للعالم فرصة للتعرف على الدول وفقاً للصراعات البيئية التي تدور فيها، يحدد فريق أطلس العدالة البيئية دورهم بالعبارات التالية:

"أطلس العدالة البيئية العالمية (EJAtlas) يوثق ويصنف الصراعات الاجتماعية حول القضايا البيئية. وهي منصة تفاعلية عبر الإنترنت يتم تنسيقها وإدارتها من قبل فريق من الباحثين والناشطين. المحتوى والبيانات هي نتيجة عمل مئات المتعاونين في جميع أنحاء العالم، الذين يروون قصصهم الخاصة عن المقاومة البيئية أو يكتبون عما يشهدونه".

وفي جميع أنحاء العالم، تكافح هذه المجتمعات للدفاع عن أراضيها وهوائها ومياهها وغاباتها وسبل عيشها ضد الأنشطة الاستخراجية الضارة التي لها آثار اجتماعية وبيئية ثقيلة. ومع تحرك الموارد اللازمة لتغذية الاقتصاد العالمي عبر سلسلة السلع الأساسية (من الاستخراج والمعالجة والتخلص)، فإن التأثيرات البيئية تنتقل إلى الفئات السكانية الأكثر تهميشاً. وفي كثير من الأحيان، يحدث هذا بعيداً عن أعين المواطنين أو المستهلكين المعنيين.

يجمع EJAtlas قصص المجتمعات التي تناضل من أجل العدالة البيئية. ويهدف إلى جعل حركتهم أكثر وضوحاً، وتسليط الضوء على مطالباتهم وشهاداتهم، لتعزيز المساءلة الحقيقية للشركات والدول عن الظلم الذي يلحق بهم من خلال أنشطتها. يحاول EJAtlas أيضاً أن يكون بمثابة مساحة افتراضية لأولئك الذين يعملون في قضايا العدالة البيئية للحصول على المعلومات، والتواصل مع المجموعات الأخرى العاملة في القضايا ذات الصلة، وزيادة وضوح الصراعات البيئية" [21].

الخاتمة:

كما أكدنا مراراً وتكراراً، ليس هدفنا إجراء تحقيق صحفي حول قضية أغبوغبلوشي ورمي النفايات السامة، بل ما نرغب في التأكيد عليه في هذه المقالة هو أن الحلول البيئية المستدامة لن تكون فعالة إلا إذا ما أخذنا بالحسبان أننا نعيش في عالم مترابط، حيث يؤثر كل فرد في بيئته وفي الآخرين، وبذلك سعت المقالة لتوجيه التساؤلات حول تلك الإحصائيات المتاحة على شبكة الإنترنت حول الدول الرائدة بيئياً.

إذ يُطرح السؤال: لماذا تكون تلك الدول الأولى بيئياً هي نفسها الأولى في رمي نفاياتها داخل دول فقيرة؟ هل نحن الآن فعلاً في عالم يدعي سكانه السلام والاستدامة، ونتخلى تماماً عن أي ظواهر للاستعمار؟

ألا تذكرنا عملية تصدير المشكلات خارج أوروبا إلى الدول الفقيرة بالحل النرجسي المالتوسي (الذي ذكرناه في التمهيد) الذي يقتضي حد نسل الفقراء، والذي يلمح إلى الحروب بطريقة ما كحل من الحلول البيئية؟ 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...