الابتكار الاجتماعي
الابتكار السياحي... الماهية والتطبيق وأفضل الممارسات

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 14

الابتكار السياحي... الماهية والتطبيق وأفضل الممارسات

   كندة المعمار

تعد صناعة السياحة من أقدم الصناعات في العالم، ويتصف تاريخ هذه الصناعة بأنه طويل ومعقد، وقد تطور عبر القرون جنباً إلى جنب مع التقدم في النقل والتكنولوجيا والاتجاهات الاجتماعية.

وقد كان السفر قديماً يرتبط أساساً بالتجارة والحج، واستكشاف الحضارات، ثم بدأ الأثرياء الأوروبيون بالانطلاق في رحلات تعليمية، لاستكشاف المواقع الثقافية والتاريخية في أوروبا، وزيارة المدن والمتاحف والمواقع الأثرية، وأدى ظهور السكك الحديدية والبواخر إلى أن يكون السفر أكثر سهولة وأقل تكلفة، مما أتاح الفرصة لعدد أكبر من الناس للذهاب في رحلات سياحية، وكان هذا التطور دافعاً لتطوير الوجهات الساحلية، كالمنتجعات الساحلية والجبلية، من أجل أن تجتذب المزيد من السياح الباحثين عن الاسترخاء والاستجمام.

في أوائل القرن العشرين أحدث دخول الطيران ثورة في السفر، مما سمح للناس بالوصول إلى وجهات بعيدة في جزء صغير من الوقت، ودفع فيما بعد نحو ظهور عروض جديدة في السياحة، كالعروض الشاملة للنقل والإقامة، والتي يسرت السياحة حتى لأصحاب الطبقة المتوسطة، وشهدت على إثر ذلك الوجهات السياحية حول العالم، من الجزر الاستوائية إلى المدن التاريخية، طفرة في أعداد الزوار، مما أدى إلى تطوير البنية التحتية والمرافق السياحية.

مع مرور الوقت أدى الإنترنت والتقنيات الرقمية إلى إحداث تحول في صناعة السياحة، مما ساهم في تمكين منصات الحجز عبر الإنترنت، وتسويق الوجهات وتجارب السفر الشخصية، واكتسب سفر المغامرات -بما في ذلك أنشطة مثل المشي لمسافات طويلة، والغوص، ورحلات السفاري في الحياة البرية- شعبية بين المسافرين المغامرين الباحثين عن تجارب أصيلة، وساعد تطور العلوم الطبية، والخدمات العلاجية، إلى ظهور سياحة الاستشفاء، أو السياحة الطبية العلاجية، حيث يسافر الناس إلى الخارج لتلقي العلاج الطبي، وإجراء العمليات الجراحية والاستشفاء، ومع كثرة الممارسات السياحية، وتعدد جوانبها، وظهور بعض التداعيات البيئية والاجتماعية، مما دفع إلى ترويج ممارسات السياحة المستدامة، بما في ذلك السياحة البيئية، والسفر المسؤول اجتماعياً، والسياحة المجتمعية.

الابتكار والسياحة:

يتميز تاريخ صناعة السياحة بالتطور المستمر، مدفوعاً بالعوامل المجتمعية والاقتصادية والتكنولوجية المتغيرة، تعد السياحة اليوم واحدة من أكبر الصناعات في العالم، كما تساهم في التنمية الاقتصادية والتبادل الثقافي والترابط العالمي، ونظراً لارتباطها الوثيق بالتطور التكنولوجي الهائل والمتسارع، كان للابتكار دور كبير في تطوير الممارسات السياحية بأنواعها كافة، ويشير الابتكار السياحي إلى: التطوير والتنفيذ لأفكار وتقنيات واستراتيجيات تعمل على تحسين صناعة السياحة، مدفوعاً بالتكنولوجيا والإبداع، بما يشمل الحلول والتطورات الإبداعية، التي تعزز التجربة السياحية الشاملة، وتدفع النمو الاقتصادي، وتعزز الاستدامة، وتعالج التحديات الناشئة داخل القطاع، بحيث تؤدي إلى تحسين ما يسمى بتجربة السائح، وتعزيز شعوره بالرضا في أثناء تجربة السياحة.

ونظراً لتغير العملاء مع مرور الوقت، وتغير متطلباتهم، وتطلعاتهم بنحو متسارع، فقد أصبحوا يبحثون عن تجربة هادفة واستثنائية، دون الاكتفاء بسماع شرح موجز من مقدمي الخدمات السياحية، فقد باتوا يتمتعون الآن بإمكانية الوصول إلى خيارات متنوعة من الخدمات السياحية في جميع أنحاء العالم، حتى أصبح العرض المتضمن لغرفة فندق أو رحلة طيران رخيصة، لا يكفي للتميز من مقدمي الخدمات السياحية الآخرين.

كما أدى ظهور البيانات في الوقت الفعلي إلى تغيير ساحة اللعب، مما أتاح للعملاء إمكانية الوصول الفوري إلى المعلومات المتعلقة بالأسعار وجودة الخدمة، كما أصبح تصور المستخدم حول جودة الخدمة عاملاً رئيسياً يسهم في اتخاذ القرار.

ويظهر دور الابتكار في السياحة كمنهج لتحسين الطريقة التي يقدم بها مقدمو الخدمات خدمات السفر، من خلال التركيز على أن يكون العميل واحتياجاته في جوهر عملية تصميم الخدمات السياحية، مما يساعد على تصميم تجربة خدمة سياحية متميزة، وفي الوقت نفسه تقديم ميزة واضحة وقابلة للتطبيق.

يساعد الابتكار في القطاع السياحي على تطوير السياحة من خلال:

تطبيقات الابتكار في القطاع السياحي:

يمكن أن يأخذ الابتكار في القطاع السياحي الكثير من الأشكال، ومنها على سبيل المثال:

1. الابتكار في البرامج والخدمات والمنتجات السياحية: يعد الابتكار في الخدمات والمنتجات السياحية أمراً ضرورياً، لمواكبة تفضيلات المستهلكين المتغيرة، وتعزيز تجارب الزوار، والحفاظ على القدرة التنافسية في صناعة السياحة، وفيما يلي أمثلة عدة للخدمات والمنتجات المبتكرة في قطاع السياحة:

  • برامج السياحة الدينية: منها البرامج الخاصة، التي تطورها الشركات السياحية من أجل أداء مناسك الحج والعمرة، والتي تراعي تلبية احتياجات المستخدمين المتنوعة.
  • برامج السياحة العلاجية: وهي البرامج المخصصة لتوفير خدمات الرعاية الصحية، والاستشفاء، والتي تراعي تلبية الاحتياجات المتنوعة من حيث التكلفة، وأماكن العلاج، وأنواع العلاج المطلوب.
  • خدمات الاقتصاد التشاركي: ومنها تجربة الحجوزات ضمن بيوت السكان المحليين من خلال منصات الاقتصاد التشاركي، مثل (Airbnb)، والتي تربط المسافرين إلى بلد ما بخيارات إقامة يعرضها السكان المحليون على المنصة.

2. ابتكار عمليات التجارب السياحية: يتضمن الابتكار في العمليات السياحية تنفيذ استراتيجيات وتقنيات وممارسات جديدة، لتبسيط العمليات، وتعزيز الكفاءة، وتحسين رضا العملاء عموماً، وفيما يلي أمثلة عدة للممارسات المبتكرة في العمليات السياحية:

  • أنظمة الحجز الرقمية عبر الإنترنت: تنفذ وكالات السفر والفنادق ومنظمو الرحلات السياحية مواقع إلكترونية وتطبيقات للهواتف المحمولة سهلة الاستخدام، تتيح للمسافرين حجز أماكن الإقامة، ورحلات الطيران، والجولات والأنشطة بسلاسة.
  • أتمتة العمليات الروبوتية: يستخدم منظمو الرحلات السياحية ووكالات السفر برامج لأتمتة المهام المتكررة، مثل إدخال البيانات، ومعالجة الفواتير، وإنشاء مسارات الرحلة، مما يحرر الموظفين للتركيز على الأنشطة ذات القيمة الأعلى.
  • تطوير العمليات من خلال التحليل التنبؤي: تستفيد شركات السياحة من تحليلات البيانات وخوارزميات التعلم الآلي للتنبؤ بسلوك العملاء وتوقع الطلب، وتخصيص الحملات والعروض التسويقية، وتخصيص الموارد ومستويات التوظيف وإدارة المخزون، مما يؤدي إلى توفير التكاليف وتحسين الكفاءة التشغيلية.

3. الابتكار في التسويق للتجارب السياحية: يتضمن الابتكار في التسويق السياحي اعتماد استراتيجيات وتقنيات جديدة، للترويج للوجهات والمعالم السياحية وأماكن الإقامة للمسافرين، فيما يلي أمثلة عدة لممارسات التسويق المبتكرة في صناعة السياحة:

  • التسويق باستخدام الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز(AR) : تستخدم منظمات تسويق الوجهات (DMOs) ومجالس السياحة تقنية الواقع الافتراضي، لإنشاء جولات افتراضية غامرة للوجهات، مما يسمح للمسافرين باستكشاف مناطق الجذب والمعالم من أي مكان في العالم.
  • حملات المحتوى الذي ينشئه المستخدم: تتعاون العلامات التجارية السياحية مع المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي ومنشئي المحتوى، لعرض الوجهات والتجارب لمتابعيهم، والاستفادة من تأثيرهم ومصداقيتهم للوصول إلى عملاء جدد.
  • الاستهداف المعتمد على البيانات: يستخدم المسوقون السياحيون تحليلات البيانات وتقنيات تقسيم العملاء، لتحديد شرائح محددة من الجمهور واستهدافها، من خلال رسائل وعروض وتوصيات مخصصة بناء على تفضيلاتهم واهتماماتهم وسلوكهم.

4. الابتكار الاجتماعي في التجارب الثقافية السياحية: يتضمن الابتكار في التجارب الثقافية السياحية تطوير أساليب وأنشطة ومبادرات جديدة، توفر للمسافرين تفاعلات غامرة وحقيقية وذات مغزى مع الثقافة والتراث والتقاليد المحلية. فيما يلي أمثلة عدة للتجارب الثقافية المبتكرة في مجال السياحة:

  • برامج الانغماس الثقافي: ومنها البرامج السياحية، التي تعتمد على الإقامة مع العائلات والتبادلات الثقافية، حيث يقيم المسافرون مع عائلات أو مجتمعات محلية، ويشاركون في أنشطة الحياة اليومية، ويتعرفون على العادات والتقاليد والمأكولات، ويكتسبون مباشرة نظرة ثاقبة على الثقافة المحلية.
  • المعارض والمتاحف التفاعلية: وهي معارض تعتمد على الوسائط المتعددة، وتقنيات سرد القصص الغامرة، التي تجذب الزوار وتضفي الحيوية على معلومات التاريخ والفن والثقافة، وعمليات إعادة التمثيل التاريخية، ومتاحف التاريخ الحي، والجولات المصحوبة بمرشدين، بقيادة مترجمين فوريين للزائرين، وفرصة العودة بالزمن إلى الوراء، وتجربة الفترات والأحداث التاريخية مباشرة.
  • ورش العمل الثقافية السياحية: وتنطوي على مشاركة السياح في ورش عمل يقودها الحرفيون والخبراء المحليون، ويتعلمون من خلالها الحرف والمهارات والتقنيات التقليدية، مثل: صناعة الفخار والنسيج والطبخ والنجارة، ودروس في اللغات المحلية، وورش عمل لممارسة طبخ الأطباق المحلية، مما يوفر نظرة ثاقبة للثقافة والحياة اليومية للمجتمع المحلي.

5. الابتكار في تجارب السياحة المستدامة: مع تزايد المخاوف بشأن الحفاظ على البيئة والسياحة المسؤولة، تزايد الاهتمام بالابتكار في الحلول المستدامة، ويتضمن الابتكار في تجارب السياحة المستدامة التطوير والتنفيذ لممارسات وتقنيات ومبادرات جديدة تقلل من التأثير البيئي، وتدعم المجتمعات المحلية، وتعزز الحفاظ على الثقافة مع تعزيز تجارب الزوار. فيما يلي أمثلة عدة لممارسات السياحة المستدامة المبتكرة:

  • أماكن الإقامة الصديقة للبيئة: وذلك من خلال تطبيق الفنادق والمنتجعات ممارسات البناء المستدامة، مثل: استخدام المواد المتجددة، والإضاءة الموفرة للطاقة، وأنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء، والأسطح الخضراء، لتقليل البصمة الكربونية واستهلاك الموارد، وقد طوِّرت بعض المعايير والشهادات، التي تسعى أماكن الإقامة للحصول عليها، لتعزيز صورتها في الممارسات المستدامة، مثل شهادة (LEED) "شهادة الريادة في الطاقة والتصميم البيئي"، و(المفتاح الأخضر)، لإثبات التزامها بالاستدامة، وجذب المسافرين المهتمين بالبيئة.
  • السياحة المجتمعية: وتتضمن الإقامة مع العائلات وبيوت الضيافة، حيث توفر المجتمعات المحلية أماكن إقامة مع عائلات وبيوت ضيافة، مما يوفر للمسافرين تجارب ثقافية أصيلة مع توليد الدخل وفرص العمل للمقيمين، كما تعمل بعض المبادرات السياحية على تسهيل التبادل الثقافي والتفاعل بين المسافرين والمجتمعات المحلية، مثل الجولات القروية ودروس الطبخ وورش الحرف اليدوية.
  • النقل المستدام: وذلك من خلال المركبات الكهربائية والهجينة، حيث يستثمر منظمو الرحلات السياحية ومقدمو خدمات النقل في المركبات الكهربائية والهجينة للجولات والنقل وخدمات النقل، مما يقلل من انبعاثات الكربون وتلوث الهواء، كما تعمل بعض الوجهات على تعزيز خيارات النقل المستدامة، مثل برامج مشاركة الدراجات، والبنية التحتية الصديقة للمشاة، وأنظمة النقل العام التي تعمل بالطاقة النظيفة.

6. الابتكار في السياحة في أثناء الأزمات: عند حدوث أزمات من قبيل الكوارث الطبيعية أو الأوبئة، تعمل الشركات السياحية على التطوير والتنفيذ لاستراتيجيات وتقنيات ومبادرات جديدة، للتخفيف من المخاطر وضمان سلامة المسافرين، والحفاظ على صناعة السياحة خلال الأوقات الصعبة، وتشمل إدخال سياسات حجز مرنة، وبروتوكولات تركز على الصحة والسلامة، وتنويع العروض السياحية. فيما يلي أمثلة عدة للممارسات المبتكرة في السياحة في أثناء الأزمات الطبيعية والأوبئة:

  • التحديثات في الوقت الفعلي: تستخدم المنظمات والشركات السياحية المنصات الرقمية، مثل مواقع الويب ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهاتف المحمول، لتوفير تحديثات في الوقت الفعلي حول تحذيرات السفر وبروتوكولات السلامة والتغييرات التشغيلية، كما تساعد روبوتات الدردشة والمساعدون الافتراضيون الذين يعملون بالذكاء الاصطناعي المسافرين في الاستفسارات والإلغاءات وإعادة الحجز، مما يوفر دعماً وتوجيهاً شخصياً في أثناء الأزمات.
  • سياسات الحجز والإلغاء المرنة: تنفذ شركات الطيران والفنادق ومنظمو الرحلات السياحية سياسات حجز مرنة، مما يسمح للمسافرين بتغيير الحجوزات أو إلغائها دون تكاليف، استجابة للأحداث غير المتوقعة، مثل الكوارث الطبيعية أو الأوبئة، كما يقدم موفرو تأمين السفر تغطية لإلغاء الرحلات وانقطاعها وحالات الطوارئ الطبية المتعلقة بالأزمات الطبيعية والأوبئة، مما يوفر الراحة والاطمئنان للمسافرين.
  • بروتوكولات الصحة والسلامة: تحرص الشركات السياحية على تطوير بروتوكولات تتناسب مع الأزمات الطبيعية، والصحية، ومنها بروتوكولات التنظيف والتعقيم الصارمة، التي كانت تطبق في أثناء جائحة كوفيد-19، من ذلك زيادة وتيرة التعقيم، واستخدام المنتجات المضادة للميكروبات، وتنفيذ تدابير التباعد الاجتماعي، ونشر فحوصات درجة الحرارة والفحوصات الصحية، ومرافق اختبار كوفيد-19، للكشف عن الأمراض المعدية ومنع انتشارها بين المسافرين.

من خلال التجارب التي استعرضت يمكننا أن نلحظ أن تطور القطاع السياحي يرتبط بالتطور والتغير لاحتياجات السياح الدائم والمتسارع، ولا سيما في السنوات الأخيرة، وبعد التسارع الهائل للتكنولوجيا، والتكنولوجيا الرقمية، وتتجسد ممارسات الابتكار السياحي من خلال الارتكاز على العميل، للحصول على فهم أفضل لاحتياجاته، وتبني التغيير والتكييف بما يلبي تلك الاحتياجات والتوقعات المتطورة للعميل، ويضمن استمرارية صناعة السياحة واستدامتها على المدى الطويل، فيدفع النمو الاقتصادي، ويعزز القدرة التنافسية بين الوجهات السياحية، ويساهم في الرفاهية العامة للمجتمعات المضيفة.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...