الابتكار الاجتماعي
الاقتصاد السلوكي: النشأة والأسس النظرية، وبعض التطبيقات

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 20

الاقتصاد السلوكي: النشأة والأسس النظرية، وبعض التطبيقات

   د. علي بن صديق الحكمي

الاقتصاد السلوكي هو علم حديث نسبياً، تشكل نتيجة لاتحاد تم بعد عقود من التنافر بين علم الاقتصاد وعلم النفس، يهدف للتكامل بين علم النفس، وعلم الأعصاب، وعلم الاجتماع، وغيرها من العلوم السلوكية للوصول لفهم أفضل للكيفية التي يتخذ فيها الناس قراراتهم في الواقع، وأسباب قيامهم بتصرفات معينة، وإلى تطوير سياسات تحسن من عمليات اتخاذ القرار، ونتيجة لذلك التكامل، فإن الاقتصاد السلوكي يوسع مجال النظريات الاقتصادية بإدخال العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة للتوازنات العقلانية للمنافع والتكلفة، للوصول لفهم أعمق للقرارات التي يتخذها الأفراد والمجموعات والمؤسسات.

نظرة تاريخية لتطور علم الاقتصاد السلوكي

يشكل الاقتصاد السلوكي تحولاً كبيراً عن النظريات الاقتصادية التقليدية، التي تقوم على افتراض أن الإنسان كائن عقلاني أو راشد (Rational). فهي لا تعطي أهمية لتأثير العوامل الثقافية أو النفسية أو الاجتماعية في القرارات التي يتخذها أو تقلل من أهميتها. وقد ساد هذا الاعتقاد النظريات الاقتصادية لمدة طويلة، ولكن بدأ التشكيك في مصداقيته من مجموعة من العلماء والباحثين من علماء النفس وبعض فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى.

كان التأثير الأكبر في إبراز تأثير العوامل النفسية في اتخاذ القرار، والتأكيد على عدم كفاية النظريات الاقتصادية في شرح قرارات الإنسان وتفسيرها لهربت سايمون (Herbert Simon)، الذي قدم في عام (1968) مفهوم الرشد المحدود (Bounded Rationality)، والذي يؤكد فيه أن التفكير العقلاني وحده لا يفسر قرارات الإنسان، لأن الإنسان لا يتمتع برشد كامل، بل برشد محدود، فهو عندما يتخذ أي قرار، فإن مستوى الرشد يتأثر بعدة عوامل، منها: عدم كفاية المعلومات المتاحة (عدم اليقين)، وقدرته الذهنية على التعامل مع المعلومات، خاصة إذا كانت كثيرة أو متعارضة، والوقت المتاح لاتخاذ القرار (ضغط الوقت).

وقد شكل عقدا السبعينيات والثمانينيات بداية التشكل والبروز لأبحاث ونظريات ونماذج نفسية، تقدم بطريقة إمبيريقية تجريبية، تأثير العوامل النفسية في قرارات الإنسان عامة، فقد نشر كانيمان وتفرسكي (Kahnman & Tversky) في عام 1974، مقالاً بعنوان "الأحكام في حالة عدم اليقين: استراتيجيات مبسطة وتحيزات"، أظهرا فيه أن الأفراد يستخدمون استراتيجيات عقلية مبسطة (Heuristics)، وليس عمليات رياضية منتظمة الخطوات (Algorithms) في استخدام المعلومات، لاستنتاج أحكام، وبذلك فهم ينحرفون عن المبادئ الإحصائية، التي يعتمد عليها علماء الاقتصاد معياراً لتحديد القرارات الراشدة. ونشر العالمان في عام 1979 بحثاً آخر قدما فيه نظرية جديدة، أطلقا عليها اسم (Prospect Theory) تفسر اتخاذ القرار تحت وضع المخاطرة. ولم تكن أعمال باحثين آخرين، مثل بول سلوفيك Paul Slovic، تقل أهمية عن نظريات كانيمان وتفرسكي، بل إن بعضهم يرى أن الدراسة التي أجراها سلوفيك، وأظهرت أن الإنسان قد يعكس قراراته وتفضيلاته (Preference Reversal) إذا قدمت له البدائل بصيغة مختلفة، هي واحدة من أكبر التحديات التي وجهت للنظريات الاقتصادية، التي تفترض أن قرارات الإنسان راشدة ومطَّردة.

أما الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي فقد مثلت العصر الذهبي للأبحاث، التي تتناول التأثيرات النفسية في القرارات الاقتصادية، إذ أصبحت أكثر قبولاً من علماء الاقتصاد، بل إن بعضهم أسهم بفاعلية في العلم الجديد (الاقتصاد السلوكي)، والذي أصبح من أهم المجالات التي تحظى بقبول واسع في الأوساط الاقتصادية، وأسست لها برامج للدراسات العليا في جامعات مرموقة، واتسع نطاق الاعتماد على أبحاثها ليشمل السياسات العامة، والاقتصاد، وأسواق المال، والصحة، والشؤون الاجتماعية، والتعليم وغيرها.

كيف يتخذ الناس قراراتهم وأحكامهم تحت ظروف عدم اليقين؟

إن فهم كيفية اتخاذ الناس قراراتهم في الواقع عنصر مهم في علم الاقتصاد السلوكي، فإذا كان أحد أهدافه تحسين القرارات، التي تتخذ بما يعود بالمنفعة للأفراد والمجتمعات والمنظمات، فإن فهم الاستراتيجيات التي يستخدمها الناس والتحيزات وأخطاء التفكير التي يقعون فيها أساسي جداً لتحقيق ذلك، وبما أن قائمة التحيزات والأخطاء العقلية، التي تم التعرف عليها طويلة جداً، فسوف يقتصر الحديث على بعض منها.

تأثير تأطير القرار Decision Framing

أولى الخطوات لاتخاذ أي قرار هي صياغة المشكلة، أو ما يطلق عليه تأطير القرار (Decision Framing).  فالصياغة تؤثر في البدائل التي توضع، وفي القرار المتخذ أيضاً. وما يحدث في كثير من الأحيان أن متخذي القرار ينزعون لقبول المشكلة بالصياغة التي قدمت لهم، والمضي مباشرة في البحث عن الخيارات والبدائل، ولا يبذلون الجهد الكافي لوضع المشكلة في الإطار الصحيح، ولذلك فالقرار قد "يؤطر" بنحو يدفع لاختيارات محددة.

الثقة المفرطة

وهي اعتقاد لا مبرر له عند الفرد "أو المجموعة" في صحة أحكامه وقدرته على توقع الأحداث المستقبلية، والثقة المفرطة تعد من أكثر التحيزات، التي يقع فيها متخذو القرار في جميع المجالات، وتظهر في القرارات الشخصية والإدارية والاستثمارية والطبية وغيرها، حيث تدفع لإصدار أحكام لا تقوم على أساس تحليل منهجي للبيانات والمؤشرات، بل على عوامل ذاتية تمثل ثقة متخذ القرار في أحكامه وقراراته.

خديعة التكلفة الغارقة والالتزام المتصاعد

يشير مصطلح خديعة التكلفة الغارقة Fallacy The Sunk Cost إلى الموقف الذي يتحكم فيه استثمار سابق في نوعية القرار المستقبلي الذي يتخذه المرء، والتزام الإنسان بالاستمرار في الاستثمار في مشروع، بالرغم من أن المؤشرات تدل على أنه غير ناجح، أو لا يحقق الأهداف المرجوة منه. وهذا يؤدي لما يسمى بـ "الالتزام المتصاعد" فكلما زاد الاستثمار في المشروع، زاد الالتزام والتمسك به.

التفاؤل المفرط، وسلوك القطيع

يؤكد عالم الاقتصاد روبرت شيلر Robert Shiller، أن طبيعة الإنسان والعوامل النفسية هي ما يفسر ما يحدث الهزات العنيفة في أسواق الأسهم، فهو يرى أن فقاعة المضاربة ترتفع بناء على "حماسة المضاربين" وتفاؤلهم المفرط، وعندما تساورهم الشكوك حول المستقبل، يبدؤون بالتفكير في البيع، وحين الانخفاض في السوق، يتخوفون من أن الآخرين قد تكون لديهم الشكوك نفسها كذلك، فيدخلون في سباق معهم: من الذي يبيع أولاً؟ ولذلك فالهبوط الحاد لأسواق الأسهم قد يحدث بصورة سريعة جداً، كما يشير شيلر إلى أنه حتى المستثمرون الأذكياء كانوا يشترون في أثناء الفقاعة المضاربية بأسعار عالية دون إعطاء الاهتمام الكافي للأخطار الممكنة.

تأثير العاطفة

تؤثر العوامل العاطفية (حبنا أو كراهيتنا أو تخوفنا من شيء معين) في القرارات التي نتخذها في مختلف المجالات، وعلى إدراكنا للمخاطر والمنافع من الخيارات المختلفة. وقد أطلق على هذا التأثير "استراتيجية العاطفة" The Affect Heuristic ففي دراسة للحكمي وسلوفيك (1994) وجدا أن العوامل العاطفية تؤثر بنحو مهم في تقديرنا للأخطار والمنافع، فقد ظهرت علاقة عكسية بين إدراك المخاطر وإدراك المنافع، فعندما ننظر إلى خيار معين على أنه مرتفع المنافع، فإننا ننزع للتقليل من أخطاره، والعكس صحيح، ولا يعود هذا لأسباب عقلانية تعتمد على البيانات والمعطيات، بل تلعب العاطفة دوراً كبيراً في ذلك.

تحيز الإثبات

يعد تحيز الإثبات Confirmation bias من أهم التحيزات التي تقود أحكامنا وقراراتنا للخطأ، إذ ينزع الإنسان للبحث عن المعلومات، التي تؤكد وتثبت أفكاره المسبقة، وفي الوقت نفسه يتجاهل المعلومات التي تناقضها، ويلاحظ هذا التحيز في سلوك بعض متخذي القرار، الذين ينزعون في الغالب للبحث عن المعلومات التي تؤكد أفكارهم المسبقة وتؤيد قراراتهم، ويتجنبون المصادر التي قد تتعارض معها.

استراتيجية الإتاحة

ومن العوامل النفسية ذات العلاقة بالعمليات العقلية المؤثرة في القرارات وإدراك الأخطار، ما أطلق عليه كانيمان وتفرسكي اسم استراتيجية الإتاحة، The Availability Heuristic، وهي تعني أن الأحداث البارزة التي نتعرض لها، ويسهل استدعاؤها من الذاكرة، في أحكامنا وقراراتنا حتى لو كانت احتمالات حدوثها ضعيفة جداً. فانهيارات أسواق المال التي حصلت عامي 2003 و 2008، والتي كانت سريعة وقاسية، تعزز من توقعاتنا أن انهيارات مشابهة ستحدث لا محالة، بالرغم من اختلاف العوامل الاقتصادية والأساسيات في وقت لاحق.

المحاسبة العقلية

وهي فكرة أن الناس يعاملون المال بأسلوب مختلف بناء على السياق، فعلى سبيل المثال: يكون الناس أكثر استعداداً لقيادة السيارة إلى الطرف الآخر من مقر إقامتهم لتوفير 30 ريالاً من عملية شراء قاموا بها بمبلغ 80 ريالاً، ولكنهم لا يقومون بنفس الجهد لتوفير 30 ريالاً على عملية شراء بقيمة 1000 ريال، على الرغم من أن الجهد المبذول (قيادة السيارة لنفس المسافة) ومقدار المال المدخر (30 ريالاً) هما في الواقع متماثلين.

كراهية الخسارة

كراهية الخسارة تحيز معرفي عرفه كانيمان وتفيرسكي على أنه ميل الأشخاص بشدة إلى تفضيل تجنب الخسائر مقارنة بالحصول على مكاسب مكافئة. ويعزى ذلك إلى أن ألم فقدان شيء ما، أقوى نفسياً بما يصل إلى الضعف تقريباً من متعة اكتسابه، فخسارة المال، على سبيل المثال، أسوأ من اكتسابه، ولذلك يميل الفرد عند اتخاذ قراراته إلى تجنب الخسارة مما قد يمنعه من اتخاذ قرارات ذات عوائد مجزية، لأنها تحوي نسبة من المخاطرة، حتى ولو كانت المخاطر قد درست بعناية.

 

من استعراض التحيزات والأخطاء السابقة تبرز مجموعة من الاستنتاجات التي شكلت توجهات علم الاقتصاد السلوكي لاحقاً، ومن أهمها:

  1. إن النماذج الاقتصادية التقليدية لا يمكن أن تفسر اتخاذ الناس لقراراتهم في الواقع، وبذلك فإن من الضروري أخذ العوامل النفسية والاجتماعية والبيئية وغيرها في الحسبان.
  2. إن التحيزات في أخطاء القرار هي جزء من العمليات العقلية والتفكير، ولا يمكن تجنبها في الكثير من الأحيان، فهي كما يشير كانيمان في كتابه "التفكير: سريع وبطيء" نتيجة لعمليات آلية تحدث دون وعي من الإنسان أو إرادة منه.
  3. إن تحسين القرار ممكن عند وعي متخذ القرار للتحيزات والأخطاء التي يمكن الوقوع فيها، وإن التدريب والممارسة وتوظيف أنظمة دعم القرار يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في الفرد والمنظمات.
  4. إن تغييرات بسيطة في البيئة أو عرض الخيارات لمتخذ القرار يمكن أن يكون لها تأثير كبير في سلوكه وقراراته.

ثالر وعلم الاقتصاد السلوكي

قدم عالم الاقتصاد ريتشارد ثالر Richard Thaler، والذي يعده الكثيرون مؤسس علم الاقتصاد السلوكي، بناء على ما توصل له كانيمان وتفرسكي وغيرهم من علماء النفس، عدة دراسات تجريبية تؤكد انحراف سلوك الناس عن توقعات النماذج الاقتصادية التقليدية بطرق يمكن التنبؤ بها، فعلى سبيل المثال: قد لاحظ أنه وصديقاً له كانا على استعداد للتخلي عن الذهاب إلى مناسبة رياضية بسبب عاصفة ثلجية، لأنهما حصلا على تذاكر مجانية، ولكن لو كانا قد اشتريا التذاكر بنفسيهما، لكانا أكثر ميلاً للذهاب، على الرغم من أن قيمة التذاكر ستكون نفسها، بغض النظر عن مصدرها، وأن خطر القيادة في عاصفة ثلجية بالمستوى نفسه، وهذا مثال "لمغالطة التكلفة الغارقة"، التي عرِّفت سابقاً في هذا المقال.

مفهوم الحفز

من أهم إسهامات ثالر في علم الاقتصاد السلوكي كتابهMisbehaving: The making of behavioral economics، والذي شرح فيه تطور علم الاقتصاد السلوكي، وكتابه الآخر مع زميله كاس سنستاين Cass Sunstein "الحفز" Nudge والذي قدما فيه تطبيقات لتحسين القرارات ذات العلاقة بالصحة، والثراء، والسعادة للأفراد والمجتمعات. ومصطلح Nudge"" يُعَرَّف في معاجم اللغة الإنجليزية بـ "الدفع برفق" أو مجرد اللمس للحصول على انتباه شخص آخر، ويشير كذلك لـ "الوكز" برفق لإحداث سلوك معين، ويمكن توظيف هذا التعريف المعجمي لشرح المفهوم باللغة العربية، إذ لم يصل المهتمون العرب بالاقتصاد السلوكي إلى ترجمة دقيقة لمفهوم Nudge، فقد قدمت عدة ترجمات، مثل: الوكز أو الحفز وغيرها، ولذلك سنختار في هذا المقال ترجمته على أنه "الحفز" مع التأكيد على أن المفهوم يتضمن "الدفع أو التوجيه برفق، وأحياناً بنحو غير مباشر" وهذه سمة مهمة يجب أخذها باهتمام في تصميم برامج الحفز. فالحفز وفقاً لثالر وسنستاين يعني أداة يمكن استخدامها لتوجيه الأفراد والمجموعات إلى اتخاذ قرارات أفضل، من خلال توظيف ما توصل إليه علم النفس من أساليب للتأثير في الآخرين، وتغيير الاتجاهات والعادات، وكذلك ما توصلت إليه الأبحاث في مجال تحيزات التفكير الإنساني وأخطائه، من ذلك المفاهيم والاستراتيجيات المبسطة، التي يستخدمها الناس في الواقع والمذكور بعضها أعلاه. فالحفز يهدف إلى "تغيير سلوك الناس بطريقة يمكن التنبؤ بها، دون منع أي خيارات أو تغيير حوافزهم الاقتصادية تغييراً كبيراً".

ولذلك فإن "الحفز" هو تدخل يبنى على تحليل للسلوك الإنساني، من ذلك العادات، والأعمال الاعتيادية، والتحيزات التي تدخل في اتخاذ القرار. ومن خصائص الحفز أنه تدخل مجاني أو ذو تكلفة منخفضة جداً (مثل إرسال رسائل عن طريق البريد الإلكتروني، أو تقنيات التواصل الأخرى، أو إعادة ترتيب وضع معين بحيث يدفع الناس للسلوك المرغوب، ونحو ذلك)، كما أنه لا يطلب من الناس سلوك مباشر، ولا يمنعه، فكما يقول Sunstein: "فإن وضع الفواكه على مستوى نظر العين يعد من أساليب الحفز، ولكن منع المأكولات غير المفيدة لا يدخل في مفهوم الحفز".

الرؤى السلوكية: الحفز لقرارات أفضل

من المصطلحات واسعة الاستخدام في علم الاقتصاد السلوكي مصطلح "الرؤى السلوكية" Behavioral Insights، وقد أطلق أولاً في المملكة المتحدة عند إنشاء "فريق الرؤى السلوكية" Behavioral Insights Team لتحسين الحياة والمجتمعات، من خلال مساعدة جميع مستويات الحكومة، والقطاع الخاص، والعمل الإنساني، والقطاع الثالث، للتعامل مع التحديات التي تواجههم، وتوظيف العلوم السلوكية لتحقيق ذلك.

ويؤكد مفهوم الرؤى السلوكية أن السياسات العامة والبرامج يجب أن تستفيد من نتائج الأبحاث النفسية والاجتماعية وغيرها من العلوم ذات العلاقة، وأن تبنى على شواهد وأدلة علمية، وغالباً تنتج الرؤى السلوكية عن تجارب معملية أو ميدانية يجري التعيين فيها للمجموعات (مثل المجموعة التجريبية والضابطة) بطريقة عشوائية، لدراسة أثر التدخلات (أو البرامج) في المجموعة التجريبية مقارنة بالمجموعة الضابطة، وهذا تحول كبير في صناعة السياسات، واتخاذ القرارات ذات النطاق الواسع، وفي تطبيق البرامج التنموية والمجتمعية وغيرها. فبعد أن كانت تبنى على مجرد افتراضات لم يتحقق منها عن سلوك الناس وتأثير التدخلات والبرامج فيهم، إلى الاعتماد على شواهد (رؤى سلوكية) بنيت على أسس علمية. وهذا لا يضمن فقط الوصول لإمكانية أكبر لنجاح التدخلات في إحداث الأثر المطلوب، بل يسهم في ترشيد الإنفاق، وتجنب الآثار غير المرغوبة، التي قد تنتج عن تدخلات لم تدرس آثارها علمياً.

أمثلة من تطبيقات الاقتصاد السلوكي في مختلف مجالات الحياة:

السياسات العامة

تمثل السياسات العامة خارطة طريق تستخدمها الحكومات، لتوجيه أنظمتها وقوانينها وإجراءاتها وأولوياتها وقراراتها، للتعامل مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية وذات العلاقة بالصحة والتعليم والبيئة... وغيرها، وبما أن السياسات العامة تؤثر مباشرة في حياة الإنسان ورفاهيته، فإن من أهم تطبيقات الاقتصاد السلوكي تحسين صياغة السياسات العامة وتنفيذها وتقييمها، بهدف جعلها أكثر فاعلية وكفاءة وقابلية للتقبل من المجتمع وأفراده، وفهم الأخطار والمنافع التي قد تنتج عنها. فالاقتصاد السلوكي يأخذ في الحسبان السلوك البشري كما هو في الواقع، ولذلك فهو يساعد على تقديم سياسات عامة، وصناعة قرارات تعود بالمنفعة على الفرد والمجتمع، وتقلل من المخاطر قدر الإمكان.

وقد اتجهت الكثير من الحكومات من أنحاء العالم إلى دمج الاقتصاد السلوكي في عملية صنع السياسات العامة، فأنشأت الحكومة البريطانية عام 2010 فريق الرؤى السلوكية، وفي عام 2014 أنشأت الحكومة الأمريكية فريق العلوم الاجتماعية والسلوكية (يشار إليهما بوحدات الحفز (Nudge Units ووجهت لاحقاً الهيئات الحكومية إلى تجربة التدخلات ذات التكلفة المنخفضة، والتي يمكن أن تؤدي لزيادة الفاعلية والكفاءة للسياسات والبرامج، كما شجعت على دمج الأفكار المستمدة من العلوم السلوكية والاجتماعية من أجل تحقيق الأهداف. وتوالى بعد ذلك إنشاء وحدات الحفز في دول أخرى، وأصبحت مساهمتها في صنع السياسات العامة ذات تأثير في جودتها وفاعليتها.

التعليم

بالرغم من التطبيقات الكثيرة للاقتصاد السلوكي في مختلف مجالات الحياة، إلا أن تطبيقه في التربية والتعليم لم يحصل على الاهتمام الكافي من المؤسسات التعليمية والمختصين في التربية، وذلك بالرغم من الإمكانية العالية للاستفادة من منهجياته وأساليبه، لتحسين نواتج التعلم وسلوك الطلاب وانضباطهم ورفاهيتهم، وجودة التعليم عموماً، وفي مراجعة لبعض التجارب في هذا المجال وجد أن تغييرات بسيطة في تقارير نتائج الاختبارات تؤدي إلى تحفيز الطلاب، لأخذ مقررات جامعية وهم ما يزالون في المدرسة الثانوية. ففي دراسة أولية في منطقة أوكلاند بولاية كاليفورنيا على الطلاب، الذين أخذوا اختبار القدرات الدراسية الأولي Preliminary Scholastic Aptitude Test، (وهو اختبار يطبق في الولايات المتحدة الأمريكية على طلاب الصف الأول من المرحلة الثانوية، ويتنبأ بقدرتهم على النجاح في مقررات جامعية)، وجد أن الطلاب الذين حصلوا على درجات الاختبار نفسها، والذين تلقوا رسالة شخصية، تفصّل إمكاناتهم للنجاح في المقررات المتقدمة، كانوا أكثر توجهاً، وبنسبة 49 نقطة مئوية، للمشاركة في تلك المقررات مقارنةً بأولئك الذين حصلوا على تقرير بدرجاتهم فقط. كما كان الطلاب الذين تلقوا الرسالة التفصيلية أكثر نزعة بنحو ملحوظ لأخذ المزيد من الاختبارات واجتيازها بدرجات أعلى.

المجال الصحي

استخدمت منهجية "الحفز" لتحسين نمط الحياة، ولتشجيع الأفراد لاتباع نظام غذائي صحي، ومكافحة السمنة، وممارسة الرياضة. وقد أورد ثالر وسنستاين في كتابهما (Nudge) مثالاً لذلك يتعلق بتغيير بنية الاختيار (أي البيئة التي تتخذ فيها القرارات) في مطاعم المدارس، لتحسين وجبات الأطفال الغذائية، إذ أظهرت الأبحاث اللاحقة أن التعديلات الطفيفة في المطاعم، والتي تهدف لزيادة سهولة الخيارات الصحية وجاذبيتها يمكن أن تزيد من استهلاك الفاكهة والخضراوات لدى طلاب المدارس (على سبيل المثال: تغييرات بسيطة، مثل: إعطاء أسماء جذابة لخيارات الخضار بدلاً من الأسماء الحقيقة) ، كما  عدلت بعض سلاسل المطاعم المشروبات والأطباق الجانبية الافتراضية في وجبات الأطفال إلى خيارات أكثر صحة (على سبيل المثال: تغيير المشروب الذي يوضع مع الوجبة من المشروبات الغازية إلى الماء ، أو الطبق الجانبي الافتراضي من البطاطا المقلية إلى شرائح التفاح).

قطاع الأعمال

الشركات ومؤسسات الاستثمار تهدف إلى تقليل تكلفة أعمالها ورفع أرباحها، ولتحقيق ذلك يجب أن تتخذ عمليات اتخاذ قرار منتظمة قدر الإمكان، لتجنب الوقوع في تحيزات وأخطاء الأحكام واتخاذ القرار، وأحد أبرز الأمثلة هو المتعاملون في أسواق الأموال، إذ يقعون أحياناً، كما أشير سابقاً، في التفاؤل المفرط وسلوك القطيع. ومن التطبيقات في قطاع الأعمال تحسين عمليات استخدام البيانات للتوقعات المستقبلية، فقد يقع جامعو البيانات ومحللوها في تحيز التأكيد، إذ ينزعون لجمع البيانات، التي تؤكد افتراضاتهم المسبقة، أو الاقتصار على عدد محدود زمنياً من البيانات، وتجاهل النزعات طويلة المدى، Long-term trends ومن ثم اتخاذ القرارات بناء على معلومات متحيزة ولا تمثل الواقع، ولذلك فإن زيادة وعي المختصين في هذا المجال يساعد على تجنب الأخطاء والتحيزات وتوظيف البيانات للوصول إلى أحكام وقرارات أفضل.

القطاع الخيري وغير الربحي

يوفر الاقتصاد السلوكي رؤى ذات تطبيقات فعالة لتحفيز التبرع الخيري، وذلك من خلال فهم العوامل النفسية، التي تؤثر في سلوك العطاء عند الأفراد، مما يمكن المؤسسات الخيرية من تصميم حملات جمع تبرعات أكثر فاعلية، فعلى سبيل المثال: وجدت بعض الدراسات  التي أجراها سلوفيك وزملاؤه أن الإعلانات التي تهدف لجذب المتبرعين لمساعدة الأطفال المتضررين من الكوارث، هي أكثر فاعلية عندما يقدم الإعلان صورة لطفل واحد فقط، بدلاً من صورة تقدم عدداً كبيراً من الأطفال، وأحد التفسيرات لذلك أن الناس تتعاطف أكثر مع حالة واحدة، وتشعر بأن مساعدتها ستؤدي إلى تأثير أكبر في تحسين حالتها، في حين قد لا يحصل ذلك الشعور نحو الأعداد الكبيرة.

ويعد تطبيق منهجية "أعط المزيد غداً" مثالاً ناجحاً لتطبيق الاقتصاد السلوكي في الأعمال الخيرية، إذ يطلب من المانحين الالتزام بزيادة تبرعهم في تاريخ مستقبلي، وتأجيل الزيادة، ليقلل التأثير المالي الفوري في المانح، وقد وجدت إحدى الدراسات أنه يمكن باستخدام هذا الأسلوب تحقيق زيادة كبيرة في متوسط التبرع، كما كشفت بيانات المتابعة للمتبرعين أن تأثير ذلك مستمر على المدى الطويل.

اعتبارات أخلاقية في الاقتصاد السلوكي

علم الاقتصاد السلوكي يشكل تغييراً أساسياً في التوجهات (Paradigm Shift) للتعامل مع القضايا الاجتماعية والبيئية والاقتصادية، ويتمتع باهتمام كبير في الوقت الراهن، وقد أدى هذا للتوسع في أبحاثه وتزايد المهتمين به، ليس فقط من المؤسسات الأكاديمية والبحثية، بل من القطاع التجاري، إذ أنشئ عدد من الشركات التي تعمل في هذا المجال لأغراض تجارية. وكما يقول Baddeley, 2017: فإن استخدام العلوم السلوكية في السياسات وأساليب "الحفز" ينطوي على بعض المخاطر، لأنه أصبح كموضة “fashionable” قد لا يلتزم بعض العاملين فيها بمعايير البحث العلمي، وإن هناك حاجة لمزيد من الدراسات لمعرفة فاعلية برامج "الحفز" واستمرار آثارها الإيجابية على المدى الطويل، وإنها قابلة للتطبيق على نطاق واسع من المجتمع.

ولذلك وكأي علم ما زال في طور التأطير النظري والمنهجي، من الضروري أخذ بعض الجوانب المنهجية والأخلاقية في الحسبان، حتى لا يفقد العلم التركيز على المنهجية العلمية وأخلاقيات البحث العلمي، ومن أبرز الاعتبارات التي تشغل اهتمام الأوساط العلمية حالياً ما يلي:

الالتزام بمعايير البحث العلمي ذات العلاقة بتصميم التجارب السلوكية، وخاصة فيما يتعلق باختيار العينات، وتطبيق التدخلات، وتحليل البيانات. فتعميم نتائج الدراسات، التي اعتمدت على عينات غير ممثلة للمجتمع الأصلي، أو متحيزة، أو لم تعيَّن بنحو مناسب للمجموعة التجريبية أو الضابطة، قد ينتج عنه سياسات أو برامج لا تؤدي الغرض منها، أو قد تقود لنتائج عكسية.

نزعة بعض البرامج في الاقتصاد السلوكي إلى عدم نشر النتائج التي تظهر آثاراً سلبية للتدخلات السلوكية، أو تلك التي لا تصل إلى فروق ذات دلائل إحصائية بين المجموعة التي طبق عليها تدخل معين والمجموعة الضابطة التي تقارن بها، والاقتصار على نشر الدراسات التي تصل لنتائج إيجابية وتقع في الاتجاه الذي يتوقعه الباحث. وهذا يعني أن جانباً من الحقيقة ينشر، مما قد يكون مظهراً لتحيز التأكيد، الذي يدفع الإنسان للبحث فقط عن الشواهد التي تدعم توقعاته وأفكاره المسبقة، وإلى التقليل من أهمية تلك التي تعارضها.

قد يستخدم "الحفز" لأغراض تجارية بحتة لا تلتزم بصحة الأفراد وسلامتهم واستخدامهم لمواردهم بما يحقق أهدافهم، ومن الأمثلة لذلك استخدام "الحفز" للترويج لمنتج أو فكرة ما، من خلال فرض من يطبق برامج "الحفز" ما يريده. وكما يؤكد "ثالر" على ضرورة أن يقوم الممارسون "بالحفز نحو الخير" وأن يتوفر سبب وجيه للاعتقاد بأن السلوك الذي يشجَّع سيعزز رفاهية أولئك الذين يحفَّزون، ولذلك فإن من الممارسات الجيدة محاولة الفهم العميق للبيانات المتوفرة حول أهداف "الحفز" ومدى منفعتها للمستهدفين.

من المهم التركيز على أن "الحفز" يجب ألا يسلب الأفراد حريتهم في الاختيار، فالأساس في برامج الحفز هو تصميم البدائل بطريقة تدفع "برفق" للاختيار الأفضل، دون فرض بديل معين عليهم، ولذلك يبقى القلق من أن تحاول برامج الحفز التحكم في سلوك الآخرين بأسلوب غير مباشر.

خاتمة

الاقتصاد السلوكي هو علم ما زال في إطار التشكل، وأمامه مراحل طويلة ليصل إلى مرحلة النضج، ومع ذلك فإن تأثيراته الإيجابية في السياسات، والبرامج، وتحسين جودة الحياة للمجتمعات في جميع أنحاء العالم تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، ولذلك فإن من الضروري التركيز على بناء القدرات البشرية، والكوادر البحثية التي يمكن أن تسهم في جهود المؤسسات المجتمعية بجميع قطاعاتها، لتحسين سياستها وبرامجها، كما أن تأسيس أقسام الاقتصاد السلوكي وبرامج الدراسات العليا في الجامعات ومراكز الأبحاث المتقدمة سوف يساعد البرامج التنموية على تحقيق أهدافها.

ومن المهم التنويه كذلك إلى ما أشار إليه بادلي “Baddeley” في كتابه عن الاقتصاد السلوكي، أنه مع أهمية الاقتصاد السلوكي والرؤى السلوكية وبرامج "الحفز" في مساعدة الناس لاتخاذ قرارات أفضل، إلا أن هذا يجب ألا يدفع لتجاهل تأثيرات السوق وفشل المؤسسات، فالاعتماد على أحد هذين الجانبين من المعادلة، أو إعطائه وزناً أكبر، وإغفال أهمية الجانب الآخر، أو إعطائه وزناً أقل في التأثير سيؤدي إلى عدم فاعلية السياسات العامة، فالجانبان يكملان بعضهما كأدوات لصناعة السياسات، ولا يمكن أن يحل أحدهما محل الآخر، فالتوازن بين الجانبين والتنسيق بينهما سيؤدي إلى سياسات أكثر فاعلية.

 

مراجع المقال ولقراءات إضافية ومواقع ذات علاقة:

Kahneman, D., & Tversky, A. (1979). Prospect theory: An analysis of decision under risk. Econometrica, 47(2), 263-292.

Tversky, A., & Kahneman, D. (1974). Judgment under uncertainty: Heuristics and biases. Science, 185(4157), 1124-1131.

Kahneman, D., Slovic, P., & Tversky, A. (Eds.). (1982). Judgment under uncertainty: Heuristics and biases. Cambridge University Press.

Thaler, R. H. (2015). Misbehaving: The making of behavioral economics. New York, NY: HarperCollins Publishers.

Shiller, R. J. (2000). Irrational exuberance. Princeton, NJ: Princeton University Press.

Alhakami, A. S., & Slovic, P. (1994). A psychological study of the inverse relationship between perceived risk and perceived benefit. Risk Analysis, 14(6), 1085-1096.

Kahneman, D. (2011). Thinking, fast and slow. New York, NY: Farrar, Straus and Giroux.

Baddeley, M. (2017). Behavioral Economics: A Very Short Introduction. Oxford.

Thaler, R. H., & Sunstein, C. (2008). Nudge: Improving decisions about health, wealth, and happiness. Penguin.

Kahneman, D. (2011). Thinking, fast and slow. Farrar, Straus and Giroux.

Ariely, D. (2008). Predictably irrational: The hidden forces that shape our decisions. HarperCollins.

Sunstein, C. and Thaler, R. 2008. Nudge. Yale University Press.

Compassion Fade: Affect and Charity Are Greatest for a Single Child in Need : https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0100115

Applying Behavioral Economics to Public Health Policy  www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4871624/

Small 'Nudges' Can Push Students in the Right Direction https://www.edweek.org/leadership/small-nudges-can-push-students-in-the-right-direction

https://news.uchicago.edu/explainer/what-is-behavioral-economics

www.bi.team

https://thedecisionlab.com/

On Your Best Behavior: How to Nudge Ethically https://www.behavioraleconomics.com/on-your-best-behavior/

Give more tomorrow: Two field experiments on altruism and intertemporal choice

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0047272711000764

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...