الابتكار الاجتماعي
الاقتصاد السلوكي بين حرية الاختيار والأبوية التحررية

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 20

الاقتصاد السلوكي بين حرية الاختيار والأبوية التحررية

   عبيدة دباغ

تمهيد:

قبل بدء رحلتنا مع القارئ نشير إلى كتاب سويدي شهير جداً بعنوان هل "السويدي إنسان؟ التضامن والاستقلالية في السويد الحديثة" (Är svensken människa? gemenskap och oberoende i det moderna Sverige) للكاتبين السويديين الشهيرين هنريك بيريغرين (Henrik Berggren) والكاتب لارس تراجورد ( Lars Trägårdh). صدر الكتاب في السويد في عام 2006، وأصبح له تأثير كبير في النقاش العام حول الهوية السويدية والمجتمع السويدي الحديث. والكتاب يستكشف التوتر بين مفهومي "الانتماء" و"الاستقلالية" في المجتمع السويدي. المؤلفان يناقشان كيف أن الثقافة السويدية تمزج بين القيم الجماعية والفردية، وكيف أن هذا التوازن بين المجتمع والفرد يشكل هوية السويديين. إليك بعض النقاط الأساسية حول الفلسفة السويدية التي يعكسها الكتاب:

  • الاستقلالية: يؤكد الكتاب على أن الثقافة السويدية تقدر الاستقلالية الشخصية كثيراً، هذا يتضمن الحرية الفردية، والمسؤولية الذاتية، والاستقلال المالي. يُنظر إلى الاستقلالية كونها عنصراً مركزياً في الحياة السويدية، حيث يُشجع الأفراد على الاعتماد على أنفسهم واتخاذ قراراتهم الخاصة.
  • الانتماء: في الوقت نفسه يشير الكتاب إلى أن السويديين يقدرون الانتماء إلى مجموعة والمساهمة في المجتمع بنحو واسع. يشمل هذا نظام الرفاهية الاجتماعية الشامل، الذي يدعم الأفراد ويعزز الشعور بالانتماء والتضامن الاجتماعي.
التوتر بين القيمتين:

يستكشف الكتاب كيف أن التوتر بين هذين المفهومين (الاستقلالية والانتماء) قد خلق نموذجاً فريداً للمجتمع السويدي، ويناقش كيف أن السياسات الاجتماعية والاقتصادية في السويد تسعى لتحقيق توازن بين دعم استقلالية الأفراد وتعزيز التضامن الاجتماعي. طبعاً، ومن البداية، قد يلفت العنوان نظر القارئ، إذ يطرح العنوان سؤالاً غريباً عما إذا كان الإنسان السويدي هو "إنسان". فالعنوان مستفز ويثير التساؤل، وهو يستخدم وسيلة لجذب الانتباه إلى التساؤلات العميقة حول الهوية السويدية، والخصائص الثقافية للسكان، ويلمح إلى البحث عن الإنسانية في الهوية السويدية، وكيف يمكن فهم الإنسان السويدي في سياق التوتر بين الاستقلالية والانتماء. ويمكن أن يكون العنوان نوعاً من الرد على النقد الموجه للسويديين، والذي مفاده أن السويديين قد يبتعدون عن بعض القيم الإنسانية بسبب تركيزهم الكبير على الاستقلالية والفردانية. وبالطبع يقتضي منا هذا أن نتوقف مع القارئ أكثر لنشرح له دوافع الكاتبين لكتابة العنوان بهذا النحو.

يهاجم الكتاب تلك النظرة النمطية التي اشتهرت بين سكان أوروبا والعالم جميعاً، والتي مفادها أن السويدي هو شخص تعرض لغسيل دماغ من حكومته، لكي يستجيب للقوانين التي تحكمه، وأنه شخص لا يستطيع أن يقول: "لا" للأنظمة التي تحكمه، وهو شخص يعيش منعزلاً وجامداً وبلا علاقات، وضحية لنظام الهندسة الاجتماعية، الذي عمل على تنميط الحياة السويدية. ومن خلال هذا الكتاب يحاول الكاتبان أن يقدما تبريراً للفلسفة السويدية، والدفاع عن الإنسان السويدي كونه إنساناً، إذ إن الفكرة الرئيسية للكتاب تدور حول مفهوم أن "الحب الحقيقي هو الذي يحرر الآخر"، ويستخدم هذا المفهوم كمدخل لفهم العقد الاجتماعي السويدي، إذ إن العقد الاجتماعي السويدي يسعى إلى تحرير الفرد من الاعتماد على الآخرين، وذلك من خلال دولة الرفاه، التي تتكفل بالجوانب الاقتصادية، فعندما يحرر الناس من الحاجة إلى الدعم المادي من بعضهم، فإن الروابط بينهم تبقى قائمة فقط بدافع الحب الحقيقي، وليس بسبب الحاجة أو الاعتماد المادي. بمعنى آخر يسعى النظام إلى بناء مجتمع، حيث تكون العلاقات بين الأفراد مبنية على الحرية والاختيار الحر بدلاً من الضرورة المادية.

أما النقد الموجه إلى فكرة العقد الاجتماعي السويدي يركز على محاولة تحرير الفرد من الاعتماد على الآخرين، ويطرح تساؤلات حول فاعلية هذه الفلسفة، إذ يرى النقد الموجه للسياسة السويدية أن الفكرة الأساسية في هذا العقد الاجتماعي تسعى إلى تحقيق استقلالية الفرد التامة من خلال نظام الرفاه الاجتماعي، ومع ذلك هذا النهج يعكس نوعاً من الفردية المطلقة، التي قد لا تكون عملية أو مفيدة في الحياة الواقعية.

ذلك أنه في الواقع الاعتماد المتبادل بين الأفراد هو جوهر أي مجتمع، البشر بطبيعتهم يحتاجون إلى التعاون والمساعدة المتبادلة، سواء في الأمور المادية، أو العاطفية، أو الاجتماعية. فعندما يسعى النظام إلى تحرير الفرد بالكامل من الاعتماد على الآخرين، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تمزيق أواصر العلاقات بين الناس.

وأيضا يوجَّه النقد إلى مفهوم الهندسة الاجتماعية السويدية، والتي هي العملية التي تسعى من خلالها الحكومات أو المؤسسات إلى تشكيل السلوك الاجتماعي للأفراد، من خلال سياسات وبرامج اقتصادية مصممة بعناية، في السياق السويدي تستخدم الهندسة الاجتماعية لتحرير الأفراد من الاعتماد المادي على الآخرين، إذ توفر الدولة الرعاية الصحية، والتعليم، والإعانات المالية. من سلبيات الهندسة الاجتماعية كما يرى النقاد أن هذا النهج يمكن أن يؤدي إلى شعور الفرد بأنه مجرد عنصر في نظام ضخم، مما يقلل من إحساسه بالقيمة الذاتية والإبداع الشخصي. البيروقراطية الزائدة وتدخل الدولة المستمر في حياة الأفراد قد يؤديان إلى شعور بالاغتراب والإحباط. ببساطة بينما تسعى الهندسة الاجتماعية والعقد الاجتماعي السويدي إلى تعزيز استقلالية الفرد، يمكن أن تكون العواقب سلبية إذا أغفلت أهمية العلاقات والروابط الاجتماعية، التي تعد أساسية لرفاهية الإنسان والمجتمع كله.

ولنلخص أهم الحجج والانتقادات والآراء التي وجهت للكتاب ولفلسفة الرفاهية الاقتصادية للدولة السويدية، وأثرها في سلوكيات البشر. عموماً يمكن تلخيص التناقضات في تطبيق الفردانية في سياسات دولة الرفاهية السويدية من خلال منظورين مختلفين: التناقضات النظرية بين الفردانية ودولة الرفاهية، والتحليل الفلسفي مقابل الواقع العملي.

1. التناقضات في تطبيق الفردانية في سياسات دولة الرفاهية:

الفكرة الأساسية هنا هي أن السياسات السويدية تهدف إلى تعزيز الفردية من خلال إنشاء دولة الرفاهية، دولة الرفاهية تسعى إلى تقديم الرعاية الاجتماعية لجميع المواطنين، مما يعني توفير الحاجات الأساسية، مثل الصحة، والتعليم، والإعانات المالية. ومع ذلك يوجد تناقض جوهري بين هذه السياسات والفردانية المطلقة، فالفردانية المطلقة تعني تحرير الفرد من الاعتماد على الآخرين، في حين تعتمد دولة الرفاهية على التضامن والتعاون بين أفراد المجتمع لتقديم تلك الخدمات. هذا التناقض يظهر بوضوح عندما نفكر في كيفية أن تعزيز الفردية يمكن أن يؤدي إلى تقليل الحوافز للتعاون المجتمعي والتضامن، إذا كان الأفراد يعتمدون على الدولة لتلبية جميع احتياجاتهم، فقد يشعرون بأنه لا داعي للتعاون مع الآخرين، مما قد يؤدي إلى زيادة الفجوة الاجتماعية، وتأثير سلبي في الفئات الضعيفة التي تعتمد على دعم المجتمع.

2. التحليل الفلسفي مقابل الواقع العملي:

الفكرة هنا هي استخدام الكتاب لتحليل التوتر بين الفضائل الاجتماعية والرغبات الفردية في الحرية من خلال الاستشهاد بفلاسفة كبار، مثل: كانط، وروسو، وتوكفيل، هؤلاء الفلاسفة يقدمون إطاراً نظرياً لفهم التوتر بين متطلبات المجتمع ورغبات الفرد في الحرية، كانط يتحدث عن الحرية الفردية والمسؤولية الأخلاقية، وروسو يركز على العقد الاجتماعي والتوازن بين حقوق الفرد وواجباته تجاه المجتمع، وتوكفيل يشير إلى أهمية الفضائل المدنية والتضامن الاجتماعي. على الرغم من أن هذه التحليلات الفلسفية تضيف عمقاً للنص وتعزز من ثقله، فإنها قد لا تعكس تعقيدات الواقع العملي للحياة الاجتماعية والسياسية، الفلسفة توفر إطاراً نظرياً لفهم المفاهيم المجردة، لكن تطبيق هذه الأفكار في سياق السياسات العامة يتطلب مراعاة العديد من العوامل الواقعية، السياسات العامة تحتاج إلى توازن بين النظرية والتطبيق العملي، وتكييف الأفكار الفلسفية لتلبية احتياجات المجتمع المتغيرة والمعقدة. باختصار النقد يسلط الضوء على التناقض بين تعزيز الفردانية من خلال دولة الرفاهية في السويد، ويشير إلى التحديات التي تواجه تطبيق هذه الأفكار في الواقع العملي، مع التركيز على أهمية الفلسفة في تقديم إطار نظري لفهم هذه التوترات، في حين يظل التطبيق العملي بحاجة إلى تكييف وتوازن مع الظروف الواقعية، يكمن النقد أيضاً في التركيز المفرط على فكرة الحرية الفردية، دون تقديم رؤية متوازنة لكيفية تحقيق هذا المفهوم في سياق المجتمع الأوسع، فالفلسفة السويدية تبدو متناقضة عندما تشيد بالفردانية وتعتمد على نظام دولة الرفاهية، الذي يقوم على التعاون والتضامن. ومن ثم من الضروري تقديم مقاربة متوازنة تراعي التفاعل بين الفرد والمجتمع، والاعتماد المتبادل بين الأفراد كجزء أساسي من الحياة الاجتماعية.

على الرغم من الانتقادات التي تشير إلى أن سياسات دولة الرفاهية السويدية قد تؤدي إلى العزلة الاجتماعية بسبب تركيزها على الفردانية، تدعي الرؤية السياسية السويدية أنها تسعى لتحقيق توازن بين الاستقلالية والانتماء، وليس تعزيز العزلة، وتركز الفلسفة السياسية والاقتصادية السويدية على أن النظام الاجتماعي السويدي يهدف إلى تمكين الأفراد اقتصادياً بدلاً من عزلهم، الفكرة هنا هي أن التركيز على الاستقلالية يهدف إلى تعزيز الاعتماد على الذات، والتمكين الشخصي، وليس بالضرورة التقليل من قيمة العلاقات الإنسانية. بمعنى آخر الهدف هو أن يكون الأفراد قادرين على الاعتماد على أنفسهم واتخاذ قراراتهم الخاصة، مما يمنحهم القوة والسيطرة على حياتهم.

باختصار الأيديولوجيا السويدية تقدر الاستقلالية الشخصية كثيراً، والتي تتضمن الحرية الفردية، والمسؤولية الذاتية، والاستقلال المالي. فالاستقلالية تعد عنصراً مركزياً في الحياة السويدية، حيث يشجع الأفراد على الاعتماد على أنفسهم واتخاذ قراراتهم الخاصة، بهذه الطريقة تعزز القدرة الشخصية للأفراد، مما يسمح لهم بالمساهمة مساهمة فعالة في المجتمع مع الاحتفاظ بحريتهم الفردية.

أولاً: في [1] السرد (تجربة خصخصة الضمان الاجتماعي السويدي[1] من منظور الاقتصاد السلوكي):

كما رأينا أعلاه في السياق السويدي تعني الاستقلالية الشخصية القدرة على اتخاذ القرارات الشخصية بحرية ومسؤولية. تعزز هذه القيمة في المجتمع السويدي، حيث يُشجَّع الأفراد على تحمل مسؤولية قراراتهم الخاصة دون التدخل الزائد من الآخرين أو الهيئات الحكومية، هذا يعكس نهجاً يشجع على الاعتماد على الذات، وتعزيز الحرية الفردية في اتخاذ الخيارات المتعلقة بالحياة الشخصية والمهنية والمالية.

والآن دعونا نستمع لرأي علم الاقتصاد السلوكي في سياسة السويد، التي تشجع الأفراد على تحمل مسؤولية قراراتهم الشخصية دون تدخل من الآخرين والحكومات، (أي: دون تدخل ما يسمى بعلم الاقتصاد السلوكي "سلطة أبوية").

نتوقف عند دراسة حالة خاصة بخصوص خصخصة الضمان الاجتماعي السويدي، الذي يشير إليه كتاب "التنبيه: تحسين القرارات بشأن الصحة والثروة والسعادة" (Nudge: Improving Decisions About Health, Wealth, and Happiness). هذا الكتاب هو عمل بارز في مجال الاقتصاد السلوكي، وقد كتبه ريتشارد ه. ثالر، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، بسبب مساهماته في الاقتصاد السلوكي، وكاس سونشتاين.

يستكشف الكتاب كيفية تأثير البيئة والسياق في قراراتنا، ويقدم مفهوم الـ "Nudges" أو الحيل الذكية، التي تساعد على تحسين القرارات الفردية دون اللجوء إلى التشريعات أو التدخلات القوية، يعتمد الكتاب على فكرة أن البشر غالباً ما يتخذون قراراتهم بطريقة غير عقلانية أو تلقائية، ويمكن توجيههم نحو خيارات أفضل بواسطة تنبيهات بسيطة وغير مجبرة.

من بين الأمثلة التي يطرحها الكتاب، يذكر كيف يمكن للحكومات والمؤسسات تنظيم البيئة المحيطة بالأفراد، لتشجيعهم على اتخاذ قرارات أكثر صحة، مثل تنظيم ترتيب الخيارات المتاحة أو تقديم معلومات بطريقة تسهل اتخاذ القرار، فالكتاب لا يقتصر على النظرية فقط، بل يقدم أيضاً أمثلة تطبيقية ودراسات حالة من مختلف المجالات، مما يجعله مفيداً لأي شخص يهتم بفهم كيفية تحسين السلوكيات البشرية بطرق بسيطة وفعالة.

الكتاب يعد من الأعمال المؤثرة في السياسات العامة والاقتصاد السلوكي، إذ يستخدم مفاهيم نفسية واقتصادية لشرح كيفية تحسين القرارات في مجالات مثل: الصحة والمالية والتقاعد، الآراء النقدية حول الكتاب تبرز مدى تأثيره وأهمية الأفكار التي يطرحها في العديد من جوانب الحياة العامة والخاصة.

عموماً يعد كتاب "التنبيه" واحداً من الأعمال المهمة في الاقتصاد السلوكي، ويوفر نظرة مثيرة ومفيدة عن كيفية فهم قراراتنا اليومية وتعزيزها بنحو أكثر ذكاء، في الكتاب يتعامل بأسلوب نقدي مع سياسات توسيع الخيارات، مثل تلك التي طبقت في السويد، والتي تفترض أن الأفراد يجب أن يكونوا مستقلين مادياً، ويتمتعون بالحرية الكاملة في اتخاذ قراراتهم المالية.

في هذا السياق يتناول الكتاب كيفية خطورة توسيع الخيارات دون تنبيهات أو توجيهات تساعد الأفراد على اتخاذ القرارات الأكثر فائدة لهم، لأنه في حالة توسيع الخيارات دون التنبيه، هناك خطر من أن الأفراد قد يختارون خيارات غير مفيدة لهم، وذلك بسبب تأثير العوامل النفسية والسياقية في اتخاذ القرارات، على سبيل المثال: إذا كان هناك توسيع في الخيارات المالية دون توجيهات تساعد الأفراد على فهم الخيارات المتاحة وآثارها المحتملة، فإن ذلك قد يتسبب في تعريض الأفراد للمخاطر المالية والصحية والنفسية، دون أن يكونوا مدركين تماماً لعواقب الخيارات التي يتخذونها. لذا الكتاب يؤكد على أهمية توفير توجيهات بسيطة وذكية، مثل التنبيهات السلوكية، التي تساعد الأفراد على اتخاذ قرارات مالية وغيرها، بما يعزز من رفاهيتهم الشخصية والاجتماعية بنحو أفضل. وفي كتاب "التنبيه" كما ذكرنا سابقاً يتناول تجربة خصخصة الضمان الاجتماعي في السويد مثالاً لكيفية تأثير تصميم الخيارات الاقتصادي في سلوك الأفراد والمجتمعات. تعد خصخصة الضمان الاجتماعي في السويد تجربة مهمة، لأنها تعكس استخدام مفهوم "النقد النفسي" الذي يناقشه الكتاب، النقد النفسي يشير إلى الكيفية التي بها تؤثر البيئة التي نشأنا فيها في قراراتنا وسلوكنا، وكيف يمكن تنظيم هذه البيئة لتحفيز سلوكيات أكثر رشداً وتحسيناً.

أما في السياق السويدي فقد خصخصت الحكومة جزءاً من نظام الضمان الاجتماعي، فمنحت المشتركين في النظام خياراً لتحويل جزء من مساهماتهم إلى حسابات خاصة خارج النظام الرسمي، صمم هذا النظام لتحفيز الأفراد على التحكم باستثماراتهم، مما يسهم في زيادة استقلاليتهم المالية في المستقبل.

نقد أيديولوجيا الراديكالية في تعزيز قدرة الفرد السويدي على الاستقلال المادي، وتشجيعه على الخيارات، يمكن أن يتم من خلال عدة نقاط مبنية على مفهوم هندسة الخيارات والنقد السلوكي، كما يقدمه كتاب "التنبيه":

  1. التأثيرات النفسية والسياقية في اتخاذ القرارات: يوضح الكتاب كما ذكرنا سابقاً، كيف أن البشر غالباً ما يتخذون قراراتهم بطرائق تتأثر بالعوامل النفسية والسياقية، على سبيل المثال: التوسيع في الخيارات دون توجيهات، قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة أو مرتجلة، خاصة إذا كانت الخيارات المتاحة معقدة أو غير واضحة.
  2. الخطر من الاختيارات الخاطئة: ينبغي أن تقدم الخيارات بطريقة تساعد الأفراد على اتخاذ قرارات صحيحة ومدروسة (يسمى في علم الاقتصاد السلوكي: "تصميم الخيارات")، إذ إن ترك الأفراد لأنفسهم في وضع يتطلب معرفة تامة بكل التبعات المالية والاجتماعية قد يؤدي إلى تبني خيارات يمكن أن تضر بمستقبلهم المالي والاجتماعي، أو بأحسن الأحول يؤدي بهم إلى الحصول على النتائج، التي ليست الأمثل (وهذا ما حصل في تجربة السويد الخاصة بخصخصة الضمان الاجتماعي).
  3. الحاجة إلى توجيهات بسيطة وذكية: من خلال تصميم الخيارات، يمكن للحكومات والمؤسسات تنظيم البيئة، بتوفير توجيهات بسيطة وذكية تساعد الأفراد على اتخاذ القرارات المالية الصحيحة، (يرى الكتاب أن التجربة السويدية فعلت عكس ذلك من خلال تحفيز المواطنين على اختيار صناديق استثمار غير حكومية، الصندوق الافتراضي)، على سبيل المثال: يمكن تصميم الأنظمة الضريبية والتأمينية بطريقة تشجع على التوفير والاستثمارات الذكية، دون أن تكون تلك النظم معقدة أو مرهقة للمواطن العادي.

ويجدر التنبيه أن الكتاب ليس فقط يتعارض مع السياسة السويدية من الناحية العملية، بل يدخل في صدام مع الأيديولوجيا السويدية أيضاً، إذ إن الأيديولوجيا السويدية صممت للحد من أي نزعة أبوية، حتى لو كانت جزءاً بسيطاً من التدخل لحماية الأبناء (أو المواطنين في حالتنا هذه). بالمقابل يقترح كتاب "التنبيه" (Nudge) مفهوماً يتعارض مع هذا الهوس الخاص بالأيديولوجيا السويدية المتجسد بسعيها إلى إزالة أي بقايا لنزعة أبوية من دورها حماية الأبناء أو المواطنين. وبدلاً من ذلك يتبنى الكتاب مفهوم الأبوية التحررية (Libertarian Paternalism)، الذي يسعى إلى تحقيق توازن بين تعزيز حرية الاختيار للأفراد وتوجيههم نحو القرارات الأفضل لصالحهم، دون فرض إجبار أو تعسف.

استخدام مفهوم الأبوية التحررية في انتقاد سياسة السويد في تصعيد الخيارات بالمطلق، وتحفيز الأفراد بنحو أعمى على الاستقلال والاختيار يمكن أن يتمثل في النقد التالي:

بدلاً من تشجيع الأفراد على الاعتماد الكامل على أنفسهم في اتخاذ القرارات، يمكن أن تعتمد السياسات الحكومية على مفهوم الأبوية التحررية لتوجيه السلوك الاجتماعي بطريقة تجمع بين الحرية الفردية والتوجيه اللطيف، على سبيل المثال: يمكن تنفيذ سياسات توفر إرشاداً معقولاً أو تشجيعاً بناءً على اتخاذ قرارات مالية مستقلة، دون أن تكون هذه السياسات قاسية أو تفرض اختيارات معينة بطريقة قاطعة، ومن خلال ذلك يمكن أن تساهم هذه السياسات في تحسين النتائج الاجتماعية والاقتصادية، دون الحاجة إلى إزالة الحرية الفردية الكاملة في اتخاذ القرارات.

باختصار مفهوم "الأبوية التحررية" يمكن أن يعد بديلاً عن الأيديولوجيا المتطرفة السويدية، التي ترفض أي سلطة أبوية بالمطلق، وذلك لأن المفهوم يوفر توازناً بين الحرية الفردية والتوجيه، الذي يعد مفيداً أو مرغوباً للأفراد والمجتمع، في حين يرى النهج المتطرف السويدي أن التدخلات أو السلطات الأبوية لتوجيه الخيارات هي غير مرغوبة على الإطلاق، يعد مفهوم "الأبوية التحررية" الذي يقترحه الكتاب خياراً أكثر توازناً.

ثانياً: عرض المسألة (دراسة حالة):

قدمت السويد إصلاحات في مجال خصخصة الضمان الاجتماعي، حيث سمحت للأفراد باختيار صناديق الاستثمار الخاصة بهم لإدارة جزء من مساهماتهم التقاعدية[2]، وهذا يعد نوعاً من الخصخصة، حيث يسمح للأفراد بالاستثمار في الصناديق المدارة من شركات خاصة، بدلاً من الاعتماد فقط على الصناديق الحكومية.

يشير الكاتب[3] في البداية إلى أنه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2000، طرح جورج دبليو بوش مقترحاً للخصخصة الجزئية لنظام الضمان الاجتماعي، من خلال تخصيص جزء من ضريبة الرواتب لحسابات ادخار فردية. بينما كانت الولايات المتحدة تناقش هذا الاقتراح، بادرت السويد إلى تنفيذ نظام مشابه، ويرى الكاتب أن التجربة السويدية تقدم دروساً قيمة حول النتائج الكارثية، التي يمكن أن تحصل من توسيع الاختيارات الأعمى، وبذلك تنبهنا إلى أهمية تدخل الاقتصاد السلوكي في التصميم الدقيق للخيارات المتاحة للأفراد، إذ يتضح أن إتاحة الحرية في الاختيار (كما فعلت السويد) تتطلب بالمقابل توجيهاً مدروساً لتجنب القرارات غير المثلى (وهذا الذي لم تفعله السويد، بل فعلت عكسه كما سنرى في الشرح التالي).

ولا ينكر الكاتب أن السويديين قد أجادوا في بعض النواحي تصميم الخيارات، ولكن هناك خطأ ما ارتكبوه أدى إلى اختيار المواطنين لمحافظ استثمارية ليست جيدة بالقدر الممكن، إذ إن السويديين، وبسبب هاجس إعطاء الثقة للفرد المستقل، أغفلوا أن الفرد السويدي هو فرد بشري (Homo sapiens)، حسب تعبير الكاتب، وليس فرداً اقتصادياً محترفاً (Homo economicus)، وبذلك أهملوا أيضاً حقيقة أن هناك مجموعة من التنبيهات، التي كانت من الممكن أن تساعد المواطنين البشريين بطبيعتهم على الاختيار الأمثل.

ويقول الكاتب في وصف التجربة السويدية: "إنه إذا كان علينا استخدام عبارة واحدة لوصف تصميم الخطة السويدية، فإنها "داعمة للاختيار"، فالخطة كما يرى مثال جيد في الواقع على استراتيجية "تعظيم الخيارات فحسب"، إذ يستخدم المصممون الاستراتيجية التالية: امنح الناس أكبر قدر ممكن من الخيارات، ثم اتركهم يفعلون ما يحلو لهم[4].

ويصف الكاتب العناصر الرئيسية للخطة السويدية:

  1. اختيار المحافظ الاستثمارية: سمح للمشاركين بتكوين محافظهم الاستثمارية الخاصة، عن طريق اختيار ما يصل إلى خمسة صناديق من القائمة المعتمدة.
  2. الصندوق الافتراضي: اختير صندوق واحد (بعناية)، ليكون الصندوق الافتراضي لأي شخص لم يتخذ خياراً نشطاً.
  3. التشجيع على الاختيار الشخصي: شجِّع المشاركون من خلال حملة إعلانية ضخمة، على اختيار محافظهم الاستثمارية الخاصة بدلاً من الاعتماد على الصندوق الافتراضي، (وهذ ما يراه الكاتب أنه الخطأ الأبرز في الخطة السويدية).
  4. معايير الائتمان ودخول السوق: أي صندوق يستوفي معايير ائتمانية معينة يمكنه الدخول إلى النظام، مما يعني أن عدد الصناديق المتاحة للاختيار يتحدد بدخول السوق.
  5. توفير معلومات الصناديق: وفرت معلومات حول الصناديق، من ذلك الرسوم والأداء السابق والمخاطر، في كتاب لجميع المشاركين[5].
  6. إعلان الصناديق: سمح للصناديق (باستثناء الصندوق الافتراضي) بالإعلان عن نفسها للمشاركين.

ويعلق الكاتب، بأسلوب لا يخلو من التهكم، على هذه المزايا، فيقول:

"ولو كان المواطنون السويديون جميعهم اقتصاديين، لما كان أي من خيارات التصميم هذه مثيراً للجدل، فمزيج من حرية الدخول للسوق، والمنافسة غير المقيدة، وكثير من الخيارات الأخرى، يبدو رائعاً، ولكن إذا كان السويديون بشراً، فإن تعظيم الاختيار قد لا يؤدي إلى أفضل النتائج الممكنة. وكما تبين، لم يؤد"[6].

تصميم الخيارات:

الكاتب يوضح كيفية تصميم الخيارات المتاحة للمشاركين في النظام الاستثماري، ويبين الخيارات المختلفة التي كانت أمام المصممين السويديين، وكذلك الأسباب التي دفعتهم لاختيار بعض الخيارات دون الأخرى.

الخيارات هي على النحو التالي:

  1. لا يُمنح المشاركون أي خيار: الصندوق الافتراضي هو الصندوق الوحيد المخصص. 
  2. الخيار الافتراضي موجود، ولكن لا يشجَّع اختياره.
  3. اختيار الخيار الافتراضي موجود، ويشجَّع اختياره. 
  4. الخيار الافتراضي موجود، ولا يشجَّع على اختياره أو تثبيط اختياره. 
  5. الاختيار مفروض، لا يوجد خيار افتراضي، يجب على المشاركين اتخاذ خيار نشط، وإلا فسيخسرون مساهماتهم[7].

بعد قراءتك لهذه الخيارات -عزيزي القارئ- ماذا تعتقد أن مصممي الخيارات السويديين قد اختاروا؟

الخيار الأفضل -وفقاً للكاتب- يعتمد على مدى الثقة، التي يمنحها المصممون للمشتركين في قدرتهم على الاختيار الجيد باستقلالية، ولكن مع الانتباه إلى أن المشتركين بشريون ويمكن أن يخطئوا، إلا أن هذا الجانب لم يراعه مخططو الخيارات السويديون، أو ربما تجاهلوه لصالح أيديولوجيا تعزيز الثقة بالمواطنين، كونهم أشخاصاً مستقلين، يمكنهم الاعتماد على أنفسهم.

 يمكن القول: إن السويد تُعامل أحيانًا كفأر تجارب للعالم الغربي، حيث تجرب فيها الأفكار الغربية المتطرفة، مثل زيادة العزلة، والاستقلالية، وتفكيك المجتمع والأسرة، وتوسيع الخيارات إلى أبعد حد، هذه الأفكار لا تنفذ في مجتمعات ضخمة، مثل أمريكا، بسبب العواقب الوخيمة المحتملة، لذا تجرب في مجتمعات أصغر، مثل السويد.

الخيار 1: هذا الخيار لم يأخذ به المصممون السويديون، لأنه خيار "أبوي" وصائي، يلغي كل الخيارات الأخرى.

وقد تعتقد عزيزي القارئ، أن مصممي الخيارات السويديين، استجابة لأيديولوجيا الاستقلالية وتعزيز القدرة على الاختيار، قد اختاروا الخيار الأخير، إذ لا يوجد صندوق افتراضي حكومي، ويفرض على المشاركين اختيار محافظهم الاستثمارية بأنفسهم، وإذا لم يفعلوا ذلك، فإنهم قد يخسرون مساهماتهم، ولكن على الرغم من أن الاختيار الأخير يمكن أن يكون جذاباً ومتفقاً مع الأيديولوجيا السويدية، إلا أن الحكومة السويدية لم تتبناه. وبهذه الحالة الحكومة السويدية كانت على حق بعدم فرض الاختيار الإجباري للمحافظ الاستثمارية، لأن بعض المشاركين قد لا يتمكنون من الاستجابة لأسباب متعددة، ربما لأنهم خارج البلد، أو مرضى، أو حتى حمقى ببساطة، على حسب تعبير الكاتب.

ومن ثم إن حرمان هؤلاء الأشخاص من كل الفوائد أمر قاسٍ، وربما غير مقبول من الناحية السياسية أو المبدأ، كما أن الاختيار من بين أكثر من 400 صندوق ليس سهلاً على المشتركين، لذا لا بد السماح للمواطنين بالاعتماد على الخيار الافتراضي، الذي يقترحه الخبراء[8]، ويتساءل الكاتب: "لماذا يتعين على الحكومة أن تجبر مواطنيها على اتخاذ هذا الاختيار، في حين يفضل البعض الاعتماد على ما يقوله الخبراء، كما هو موضح في الخيار الافتراضي؟[9]".

أما الخيار الرابع الذي يتضمن إنشاء صندوق استثمار حكومي افتراضي، دون تشجيع معين عليه أو تحفيز لاختياره، يتعارض مع الأيديولوجيا السويدية، التي تنص على دعم استقلالية الأفراد، وزيادة قدرتهم على الاختيار للتحكم بحياتهم، إذ من المنطقي أن ينزلق المشتركون إلى اختيار الصندوق الحكومي الافتراضي، لأنه يعد آمناً، وصممه خبراء حكوميون برسوم أقل، لذا قرر المصممون السويديون أن يوفروا الصندوق الافتراضي الحكومي، ولكن من دون تشجيع مباشر عليه (الخيار الثاني)، أي: إنه اختار مصممو الخيارات السويديون الخيار الثاني، إذ شجِّع المشاركون بأسلوب نشط على اختيار محافظهم الاستثمارية الخاصة، عبر حملة إعلانية حكومية واسعة النطاق[10]، والجدير بالذكر أن الحملة الإعلانية لدفع الناس على الاختيار النشط[11] قد أتت بنتائج مثمرة، إذ اختار ثلث المشتركين محافظهم الاستثمارية الخاصة بهم، والجدير بالذكر أن الحملة الدعائية عندما توقفت فيما بعد سنوات، لوحظ انخفاض هائل في نسبة الذين اختاروا محافظهم[12]بأسلوب نشط (فعلياً).

والآن ومن خلال الجدول أدناه، ندعو القارئ لمراجعة نتائج اختيارات السويديين بين المحافظ الاستثمارية الفعلية، التي كوَّنوها بأنفسهم، والمحفظة الافتراضية، التي اختيرت لهم إذا لم يتخذوا أي قرار.

Screenshot 2024-08-20 125630.png

الشكل 1: مقارنة الصندوق الافتراضي بمتوسط المحافظ المختارة فعلياً[13].

الجدول أعلاه يوضح الفرق بين أداء الصندوق الافتراضي الحكومي، والمحافظ الاستثمارية التي اختارها المشاركون بأنفسهم. من الجدول نلاحظ أن الصندوق الافتراضي الحكومي صممه محترفون بعناية، فقد وزعت استثماراته بنسبة 35% في الأمريكيتين، 20% في أوروبا، 10% في آسيا، و17% فقط في السويد، في المقابل 48% من الذين اختاروا محافظهم الاستثمارية بأنفسهم استثمروا داخل السويد، وهذا يظهر تحيزاً كبيراً يعرف في العلوم الاقتصادية بـ "التحيز للوطن"، فيرى الكاتب أن السويديين بوصفهم بشراً عاديين يميلون إلى الاعتقاد بأن الاستثمار "في الوطن" هو خيار منطقي، وهذا يعكس طبيعتهم البشرية. فالفكرة هي أن الناس يشعرون بالراحة في الشراء أو الاستثمار فيما يعرفونه جيداً، ومع ذلك عندما يتعلق الأمر بالاستثمار، فإن هذه الاستراتيجية ليست دائماً منطقية أو مربحة، كما يرى الكاتب، بمعنى آخر مجرد الاعتقاد بأنك تعرف شيئاً جيداً لا يعني أن الاستثمار فيه هو الخيار الأفضل[14]، في الواقع التنويع الجغرافي للاستثمارات قد يكون أكثر فائدة من التركيز على ما هو مألوف.

 ويشير الأمر بالنهاية إلى أن هذا التحيز يعكس بشرية السويديين وعدم احترافيتهم في اتخاذ القرارات الاستثمارية. ولتوضيح سوء هذا الاختيار يذكر الكاتب أن السويد تمثل نحو 1% فقط من الاقتصاد العالمي، وبذلك المستثمر العقلاني في الولايات المتحدة أو اليابان سيستثمر نحو 1% من أصوله في الأسهم السويدية، فمن غير المنطقي أن يستثمر المستثمرون السويديون 48 مرة ضعف هذه النسبة، مما يدل على سوء اختيارهم مقارنة بالصندوق الافتراضي المصمم من خبراء[15].

والجدول أعلاه يوضح أيضاً أن نسبة ضئيلة (4.1%) فقط من الأموال الموجودة في المحافظ الاستثمارية، التي اختارها المشاركون بأنفسهم مرتبطة بمؤشر، نتيجة لذلك فإن الرسوم التي يدفعها هؤلاء المشاركون النشطون تكون أعلى بكثير، إذ تبلغ 0.77% مقارنة بنسبة 0.17% التي يفرضها الصندوق الافتراضي[16].

من الجدول نلاحظ أن 60% من الأموال تدار بأسلوب سلبي، مما يعني أن مديري المحافظ يشترون ببساطة مؤشراً للأسهم، ولا يحاولون التغلب على السوق، هذا النوع من الإدارة يعرف بصناديق المؤشرات، وهي تتميز بأنها رخيصة، إذ تكون الرسوم التي تفرضها على المستثمرين أقل بكثير من تلك التي تفرضها الصناديق التي تحاول التغلب على السوق. بعبارة أخرى الصناديق التي تدار بأسلوب سلبي تكون أكثر اقتصاداً، وبتكلفة أقل على المستثمرين، مقارنة بالصناديق التي تحاول تحقيق أداء أفضل من السوق[17].

بعد الاستعراض السريع لهذه الحقائق، التي يبينها الجدول، يلخص لنا الكاتب القضايا التالية:

  1. "باختصار فإن أولئك الذين اختاروا المحافظ الاستثمارية لأنفسهم، اختاروا تعرضاً أعلى للأسهم، وإدارة أكثر نشاطاً، وتركيزاً محلياً أكبر بكثير، ورسوماً أعلى"[18].
  2. "وكان أسوأ ما يميز الخطة السويدية هو قرار تشجيع المشاركين على اختيار حقائبهم الاستثمارية[19]".
  3. وفي المواقف المعقدة، قد تكون الحكومة قادرة بالفعل على تقديم بعض التلميحات المفيدة، تذكَّر درساً رئيسياً، إذا كان القرار الأساسي صعباً وغير مألوف، وإذا لم يحصل الأشخاص على تعليقات سريعة عندما يخطئون، فمن المشروع، بل وحتى الجيد، التنبيه قليلاً"[20].
  4. "في هذا السياق، كان من الأفضل للحكومة أن تقول شيئاً من هذا القبيل: “لقد صممنا برنامجاً يحتوي على مجموعة شاملة من الأموال لتختار من بينها، إذا لم تشعر بالارتياح عند اتخاذ هذا القرار بنفسك، فيمكنك استشارة أحد الخبراء، أو يمكنك اختيار الصندوق الافتراضي، الذي صممه خبراء لأشخاص مثلك"[21].

خلاصة:

إن تطبيق سياسة "الأبوية التحررية" في الاقتصاد السلوكي يتعارض كثيراً مع السياسة السويدية المتطرفة لتعظيم الخيارات وعدم التدخل الأبوي، دراسة الحالة التي عرضناها تبين أن السويديين وقعوا ضحية لأيديولوجيا تعظيم الخيارات ودعم استقلال الفرد والابتعاد عن أي وصاية. النتائج أظهرت أن اختياراتهم كانت سيئة مقارنة بالصندوق الافتراضي الذي صممه خبراء. من ثم يدعو الاقتصاد السلوكي إلى تبني المنظور الذي يعترف بأن البشر العاديين ليسوا اقتصاديين محترفين، بل هم بشريون، ومن ثم يحتاجون إلى مساعدة وتوجيه. هذا التوجيه يجب أن يكون بطريقة مخففة، كما تقترح نظرية "الأبوية التحررية"، التي تهدف إلى مساعدة الناس على اتخاذ قرارات أفضل دون فرض خيارات عليهم بقوة.

وتوضح دراسة الحالة السويدية كيف أن الأيديولوجيا القائلة بأن الروابط الاجتماعية يجب أن تستند إلى الحب المتبادل، بدلاً من الاعتماد الاقتصادي المتبادل، قد أدت إلى نتائج غير متوقعة. هذه الفلسفة، التي تدعو إلى عدم التدخل الأبوي والتشجيع على الاستقلالية التامة، تهدف إلى تعزيز حرية الفرد والمسؤولية الشخصية. ومع ذلك فإن التحليل العميق للنتائج يكشف عن أن هذا النهج قد ساهم في زيادة العزلة الفردية، وأدى إلى تأثيرات سلبية في النسيج الاجتماعي على صعيد الانتحار والتفكك الأسري والانعزال.

لقد أدت هذه الأيديولوجيا إلى تبني سياسة لا أبوية بوجه متطرف، حيث قلِّص دور التضامن الاجتماعي ودور البشر في توفير الدعم والتوجيه لبعضهم، هذا الأمر انعكس سلباً على قرارات الأفراد، فالاختيارات الفردية غير المدروسة تأتي غالباً نتيجة لغياب التوجيه المناسب.

إن الفلسفة القائلة: إن الناس يجب أن يسلكوا بناء على استقلاليتهم، دون توجيه أبوي، قد تكون مثالية على الورق، لكنها في التطبيق العملي قد تفتقر إلى الواقعية. يتضح أن البشر، في واقع الأمر، يحتاجون إلى دعم وتوجيه في مجالات متنوعة، إن الأيديولوجيا التي ترفض أي شكل من أشكال الإعالة أو التدخل تضع الأفراد في مواجهة تحديات كبيرة، قد لا يكونون مستعدين لمواجهتها بمفردهم.

بذلك يمكن القول: إن تبني سياسات لا أبوية بنحو مفرط، دون مراعاة الحاجة الفعلية للدعم والتوجيه، قد يؤدي إلى نتائج كارثية، هذه النتائج تدعو إلى إعادة التفكير في أيديولوجيا التحرر من الأبوية.



[1]  كل المعلومات الواردة عن هذا الموضوع هي مستمدة من كتاب:

Thaler, R. H., & Sunstein, C. R. (2008). Nudge: Improving Decisions About Health, Wealth, and Happiness. Yale University Press.

[2]  فكرة عامة عن المساهمات التقاعدية:

نظام التقاعد الحكومي: في هذا النظام تُجمع المساهمات وتُدار بواسطة الحكومة. يعتمد الأفراد على الحكومة لتوفير دخلهم التقاعدي.

نظام التقاعد الخاص: في هذا النظام يُسمح للأفراد باستثمار مساهماتهم التقاعدية بأنفسهم في صناديق استثمارية خاصة.

النظام المختلط: يجمع بين النظامين الحكومي والخاص، حيث يدار جزء من المساهمات بواسطة الحكومة وجزء آخر بواسطة الأفراد من خلال استثماراتهم الخاصة.

أما عن كيفية تشكل المساهمات التقاعدية فإنه يوجد مثال شهير وهو الاقتطاع الإجباري من الرواتب، حيث يتم اقتطاع نسبة معينة من راتب الموظف شهرياً.

[3]  هما كاتبان في الحقيقة: ثالر وسنشتاين.

[4] المصدر السابق: ص: 145_146

[5] المصدر السابق: ص: 146

[6] المصدر السابق: ص: 146.

[7] المصدر السابق: ص: 146_147

[8]  المصدر السابق: ص: 147

[9] المصدر السابق: ص: 147

[10] المصدر السابق: ص: 148

[11]  يعد اختيار الصندوق الافتراضي اختياراً غير نشط أو فعلي.

[12]  هنا يمكن ملاحظة أثر الهندسة الاجتماعية في تعزيز الحريات أو تخفيضها، بعبارة أخرى: إن السويديين ليسوا أحراراً من ذواتهم، ولكنهم صمموا وهندسوا على أن يكونوا أحراراً.

[13]  راجع الصفحة :150من المصدر السابق.

يجدر التنويه أن الكاتب أضاف ملاحظة أسفل الجدول هي كالتالي:

"يقارن الجدول بين الصندوق الافتراضي ومتوسط المحافظ المختارة بشكل فعال. البيانات المتعلقة بتوزيع الأصول مأخوذة من البيانات المتعلقة بحيازات الصناديق من Morningstar. الرسم هو نسبة التكلفة السنوية لأصول الصناديق. الأداء اللاحق هو العائدات على مدى فترة ثلاث سنوات بعد الإصلاح (31 أكتوبر 2000 حتى 31 أكتوبر 2003). تم استخدام الحصص السوقية للصناديق بعد اختيارات المحفظة في عام 2000 كأوزان لحساب خصائص متوسط المحفظة المختارة بفعالية".

[14] المصدر السابق: ص: 151

[15] المصدر السابق: ص: 151

[16] المصدر السابق: ص: 151

[17] المصدر السابق: ص: 149

[18] المصدر السابق: ص: 151

[19] المصدر السابق: ص: 155

[20] المصدر السابق: ص: 155

[21] المصدر السابق: ص: 155

 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...