الابتكار الاجتماعي
الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الإسلامي

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 20

الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الإسلامي

   مروان حيَّاني

المقدمة:

يعد علم الاقتصاد السلوكي فرعاً من علم الاقتصاد، ومحور اهتمامه يتركز في دراسة كيفية اتّخاذ الأفراد والمنظمات للقرارات الاقتصادية، وذلك من خلال دمج مبادئ علم النفس مع مبادئ علم الاقتصاد، وبعبارة أخرى، يُحاول علم الاقتصاد السلوكي فهم السلوكيات البشرية، والتأثيرات النفسية والاجتماعية التي تُؤثّر على اتخاذ القرارات الاقتصادية.

يهدف الاقتصاد السلوكي عموماً إلى تنمية القوة التفسيرية والتنبؤية للنظرية الاقتصادية، من خلال تزويدها بدوافع نفسية أكثر معقولية، وهذا الأمر بات توجهاً عالمياً يتنامى بصورة مستمرة، وذلك لأن الاقتصاد السلوكي يعمل على إعادة صياغة السياسات العامة في العديد من المجالات، إما عن طريق مساندة أدوات السياسة التقليدية، أو عن طريق اقتراح أساليب مبتكرة لحل التحديات التي تواجه تطبيق تلك السياسات، ومن ناحية أخرى فإن نمط الاستهلاك في أي مجتمع يعكس تصور وقيم ومعتقدات هذا المجتمع. (Mahmutoğlu. 2023)

ومن منظور الاقتصاد الإسلامي فإن الإطار المرجعي لنظرية سلوك المستهلك في الإسلام يتأسس على ثوابت عقدية ومذهبية وأخلاقية، تكشف عن النموذج المرجعي الذي يحدد السلوك الاستهلاكي المتوازن، ويضبط تعامله الأفقي والعمودي مع ذاته ومجتمعه وبيئته، وذلك لأن نظرية سلوك المستهلك من المنظور الإسلامية جزء من النظرية الاقتصادية العامة، التي تحكم سلوك المسلم وتصرفاته، وهي نظرية تكاملية تجمع بين مطالب الروح والجسد، وبين مطالب الفرد والجماعة، ومطالب الدين والدنيا. (معصر، 2016)

لن أتعمق في الحديث عن مفهوم الاقتصاد السلوكي ونشأته ومراحل تطوره وأبرز المبادئ التي يقوم عليها كل من الاقتصاد السلوكي والإسلامي فكل ذلك معروف ومنتشر في البحوث والدراسات، وإنما سأحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء باختصار على أبرز النقاط التي يتفق فيها كل من الاقتصادين السلوكي والإسلامي، والنقاط التي تعد موضع اختلاف بينهما، وذلك بهدف تحديد أثر كل منهما على سلوك المستهلك، والاستفادة من تلك المقارنة في اتخاذ قرارات اقتصادية أفضل تتناسب مع البيئة الإسلامية التي تعمل فيها أغلب المؤسسات الاقتصادية العربية.

أولاً: نقاط الاتفاق بين الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الإسلامي

1. عدم امتلاك الإنسان للرشد الكافي في القرارات الاقتصادية:

يقرر الاقتصاد السلوكي أن قرارات الإنسان لا تكون رشيدة في معظم الأوقات، لكن لها ما يبررها بناءً على العديد من العوامل النفسية، وبالنظر إلى الاقتصاد الإسلامي نجده يتفق مع هذه النقطة مع الاقتصاد السلوكي من حيث عدم امتلاك الإنسان للرشد الكافي في بعض الظروف، كما يتضح ذلك في قوله تعالى: ﴿وَٱبۡتَلُوا۟ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغُوا۟ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدًا فَٱدۡفَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ﴾ [النساء ٦]. فقد قيدت الآية دفع الأموال بامتلاك الرشد، وهذا مبدأ مهم جداً.

2. ضرورة ترشيد سلوك الإنسان:

يلتقي كل من الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الإسلامي في فكرة ترشيد السلوك فيما يتعلق بالمستهلك، فالاقتصاد من ناحيته يسعى لتعظيم الإنتاجية وتحسين أنماط الاستهلاك، وبالمقابل نجد ذلك أيضاً في الاقتصاد الإسلامي الذي يدعو إلى العديد من القواعد الأخلاقية منها الرشد والأمانة والصدق والتوسط في الإنفاق كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ یَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومًا مَّحۡسُورًا﴾ [الإسراء ٢٩]، وقوله تعالى حكاية على لسان شعيب عليه السلام: ﴿وَیَـٰقَوۡمِ أَوۡفُوا۟ ٱلۡمِكۡیَالَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُوا۟ ٱلنَّاسَ أَشۡیَاۤءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ﴾ [هود ٨٥]، وهذا يتوافق تماماً مع ما يؤكده الاقتصاد السلوكي من ضرورة وجود معايير أو ضوابط أخلاقية تحكم سلوك المستهلك، خلافاً للاقتصاد الكلاسيكي الذي يفتقر للبعد الأخلاقي في الكثير من جوانبه.

3. تأثير العوامل المحيطة على السلوك الإنساني:

يتأثر السلوك الإنساني في رؤية كلٍ من الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الإسلامي بالعوامل الاجتماعية والثقافية والبيئية المحيطة بالإنسان، فالإنسان يكتسب قيمه واتجاهاته من المواقف الحياتية من والديه أولاً ثم من المجتمع المحيط الذي يعيش فيه، لتتكون لديه لاحقاً شخصيته المستقلة التي تتمتع بسلوك خاص يظهر من خلال علاقاته الاقتصادية على المستوى الشخصي أو المهني، ويمكن الاستئناس بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:  (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ، فأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، أوْ يُنَصِّرانِهِ، أوْ يُمَجِّسانِهِ) [أخرجه البخاري ومسلم]، وهذا يدل دلالة صريحة أن الإنسان يولد صفحة بيضاء ثم تتلون تلك الصفحة بألوان الحياة.

بالإضافة إلى النقاط السابقة توجد العديد من النقاط التي يمكن أن نلمس فيها ملامح اتفاق بين الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الإسلامي، كالحد من النزعة الفردية للإنسان، والتأمل في النفس البشرية، وغيرها العديد من نقاط الاتفاق التي لا حاجة لسردها اكتفاءً بما تقدم من نقاط رئيسية.

ثانياً: نقاط الافتراق بين الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الإسلامي

هناك العديد من نقاط الافتراق بين الاقتصاد السلوكي والإسلامي، وفيما يأتي نذكر أبرزها بصورة موجزة:

1. مرجعية الاقتصاد:

بالنسبة للاقتصاد السلوكي فإن أسسه وضوابطه الحاكمة تعتمد على مرجعية بشرية، أي أن مرجعيته هي عقل الإنسان وتجاربه، فالأصل في الاقتصاد السلوكي أنه ولد من الاقتصاد التقليدي وانطلق من مبادئه إلا أنه وضع ضوابط لها كمبدأ الحرية المطلقة وغيرها، أما الاقتصاد الإسلامي فهو يختلف تماماً عن الاقتصاد السلوكي، لأن الاقتصاد الإسلامي رباني المصدر، أي أن الشريعة الإسلامية هي الحاكمة على آلياته ووسائله، فالربا وإن كان عقداً مربحاً ومباحاً في الاقتصاد التقليدي، إلا أنه وفق المرجعية الإسلامية يعد عقداً محرماً حتى وإن كان برضا الطرفين، لأن المرجعية ليست إنسانية وإنما ربانية ﴿وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟﴾ [البقرة ٢٧٥].

2. أسبقية المبادئ:

إن العديد من المبادئ الاقتصادية التي ينادي بها الاقتصاد السلوكي المعاصر كالرشد والتوسط وغيرها من المبادئ قد سبق إليها الإسلام قبل خمسة عشر قرناً، فالدعوة إلى الاعتدال والتوسط بين الإسراف والتقتير مثلاً مبدأ أصيل في الاقتصاد الإسلامي مستمد من قول تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَنفَقُوا۟ لَمۡ یُسۡرِفُوا۟ وَلَمۡ یَقۡتُرُوا۟ وَكَانَ بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان ٦٧]، بالإضافة إلى مبدأ مهم متعلق بحرمة أكل أموال الآخرين إلا من خلال الكسب المشروع المبني على التراضي بين الأطراف، كما في قوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰ⁠لَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ﴾ [النساء ٢٩]، فكل هذه المبادئ التي ثبت من خلال التجربة البشرية أنها مبادئ عادلة وذات نفع اقتصادي وأثر إيجابي على سلوك المستهلك أكدها الاقتصاد الإسلامي قبل الاقتصاد السلوكي بناءً على الأوامر الإلهية التي جاءت من الخالق سبحانه وتعالى.

3. الأثر الاجتماعي:

إن الاقتصاد السلوكي بصورة عامة إنما يدرس الجانب النفسي لدى المستهلك ويراعيها في تعاملاته الاقتصادية من باب تحقيق المصلحة الذاتية للفرد في المقام الأول، وانطلاقاً من العديد من المبادئ الاقتصادية التي تنادي بأهمية العمل والكسب الشخصي للإنسان بعيداً عن أي قيود دينية أو اجتماعية أو حكومية كالمبدأ الفرنسي الشهير الذي نادى به فنسنت دي جورناي " laissez-faire, laissez-passer"، الذي يعني بالعربية "دعه يعمل دعه يمر"،[1] إلا أن الاقتصاد الإسلامي يختلف تماماً في هذه النقطة، حيث أنه يحث المستهلك على تحقيق مصلحته ومصلحة الآخرين في نفس الدرجة، ولا يجوز لأي مسلم الإضرار بالآخرين في سبيل تحقيق مصلحته الشخصية انطلاقاً من القاعدة الإسلامية الشهيرة "لا ضرر ولا ضرار"، وكل ذلك تحت رقابة المجتمع المسلم، والحكومة المسلمة، لذلك كان من الواجب على المسلم الحرص على مصلحة أبناء مجتمعه بقدر حرصه على مصلحته الشخصية، لذلك نجد في الإسلام عدداً من العقود المالية التي يتجلى فيها جانب الأثر الاجتماعي بصورة واضحة بعيداً عن المنافع الشخصية، كالقرض الحسن، والوقف بمختلف أشكاله، والهبة، والصدقات التي تكون لمختلف أبناء المجتمع من الأقارب أو الجيران أو المحتاجين، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا یَأۡتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن یُؤۡتُوۤا۟ أُو۟لِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ [النور ٢٢].

4. الحرية المالية:

يعتمد الاقتصاد السلوكي مبدأ الحرية المالية للفرد، أي أن الشخص لا يمنع من مطلق حريته فيما يريد إلا أنه ينبه لما فيه ضرر عليه في الحاضر أو المستقبل دون أي نوع من التقييد لحريته. أما الاقتصاد الإسلامي فإنه يقر بالحرية المالية للفرد ويعتبرها أحد الثوابت التي تمنح كل إنسان حرية التصرف فيما يملك، لكن هذه الحرية في الاقتصاد الإسلامي مقيدة بمقاصد الشريعة وضوابطها العامة، فلا يجوز التصرف بما يهدر الأموال في شراء المحرمات أو إتلاف المال عن عمد أو حتى التصرف ممن لا يملك القدرة العقلية الكافية لإدارة أمواله، ومن هنا أجيز الحجر على السفيه في الفقه الإسلامي، وكذلك حدد الفقهاء مجموعة من الخيارات الجائزة في عقود البيع التي وإن كانت تقيد الحرية إلا أنها تمنع الضرر عن البائع والمشتري، كخيار الشرط أو العيب أو المجلس أو غيرها، كما جاء في الحديث عن ابن عمر: "أنَّ رَجُلًا ذَكَرَ للنبيِّ ﷺ أنَّه يُخْدَعُ في البُيُوعِ، فَقالَ: إذا بايَعْتَ فَقُلْ لا خِلابَةَ" [أخرجه البخاري ومسلم]، أي أنه من حق المشتري أن يشترط على البائع رد المبيع إن تبين له أنه تعرض لأي نوع من أنواع الخديعة (الخلابة) كما ورد في الحديث، وذلك لأن المنظور الإسلامي للمال أنه أمانة عند صاحبه أودعها الله عنده، وعليه أن يتصرف في هذه الأمانة ضمن الإطار الذي حدده الشرع وعدم الخروج عنه، وإلا تعرض صاحبه للعقاب لما يلحقه من ضرر لنفسه وللآخرين.

5. البعد الديني:

يرتبط أثر تصرفات الفرد في الاقتصاد السلوكي بالحياة الدنيا فقط، أي أن جميع المسؤوليات المالية تنتهي بانتهاء حياة الإنسان، لذلك فالسلوكيات الاقتصادية للإنسان مرتبطة بالمنافع المؤقتة حال حياته، أما الاقتصاد الإسلامي فإنه يرتبط ببعد ديني، وهذا البعد الديني يفرض على الإنسان الإحساس بمسؤوليته عن تصرفاته المالية في الدنيا والآخرة، فالمسلم يؤمن أن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، لذلك فإنه يمتنع عن الانغماس في أي معاملات مالية محرمة حتى وإن كان لها نفع مادي دنيوي وذلك خوفاً من الجزاء الأخروي، وهذا فارق جوهري جداً ما بين الاقتصاد السلوكي والاقتصاد الإسلامي لأن هذا البعد له أثر كبير على توجيه المستهلك ودفعه للحرص على التوازن بين ما هو مادي وما هو روحي، وبين ما هو دنيوي وما هو أخروي.

الخاتمة:

كما مر معنا فإن الاقتصاد السلوكي بوصفه فرع من الاقتصاد التقليدي فإنه استمد منه العديد من المبادئ العامة وحاول ضبطها وتهذيبها من خلال إخضاعها لمبادئ علم النفس في تفسيره للسلوك الاقتصادي، وهذا لم يخرجه عن كونه يعمل وفقاً للمبادئ الاقتصادية العامة التي تغلِّب جانب المنفعة الشخصية المادية على حساب باقي الاعتبارات الاجتماعية أو الدينية التي عمل الاقتصاد الإسلامي على ترسيخها كجزء من مبادئه التي تقوم على ثنائية الحلال والحرام، وهذا ما يجعل استفادة المسلم من الاقتصاد السلوكي مشروطة بألا تخالف مبدأً من مبادئ الاقتصاد الإسلامي الذي يخضع لمرجعية ربانية يتعدى أثرها الحياة الدنيا وصولاً إلى الدار الآخرة.

 

المراجع:

  • Mahmutoğlu, E. (2023). Davranışsal İktisada Karşı İslam İktisadı ve Tüketici Davranışı Üzerindeki Etkisi, Maruf İktisat İslam İktisadı Araştırmaları Dergisi, 3(1), s.45-80
  • معصر، عبد الله، نظرية سلوك المستهلك في الاقتصاد الوضعي والاقتصاد الإسلامي، جريدة ميثاق الرابطة الالكترونية، العدد ٢٣٨، ٢٠١٦م، https://2h.ae/VwoV
  • www.cafepedagogique.net


شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...