الابتكار الاجتماعي
السياحة بين الصلابة الكولونيالية والسيولة الاستهلاكية

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 14

السياحة بين الصلابة الكولونيالية والسيولة الاستهلاكية

   عبيدة دباغ

في بداية هذا المقال يتبادر إلى ذهني مشهد من أحد الأفلام الوثائقية عن ألبانيا، يخبرنا مقدم البرنامج ما يلي:

في الموروث الشعبي الألباني يحكى أن بلدة في ألبانيا ثار أهلها عندما علموا أن فندقاً سوف يشيد على أراضيها، ذهب الأهالي لعمدة البلدة للشكوى قائلين: لسنا بخلاء لكي يذهب الضيف للسكن في فندق بدلاً من منازلنا. ويكمل مقدم البرنامج ليقول: هذه الحكاية تلخص طبيعة هذا الشعب الألباني الكريم، حيث لا تشعر أبداً أنك غريب، بل أنت ضيف غال وعزيز.

وموقف الألبانيين هذا من الفنادق، يعكس منظومة فكرية وأخلاقية محددة من مفهوم السياحة، ومن مفهوم الآخر الغريب، ويعكس فلسفة معينة للتعامل مع الغريب، فلو فكرنا عميقاً لوجدنا أن الألبانيين محقون في استيائهم من وجود فندق في بلدتهم، ذلك أنه يجدر ألا ننسى حقيقة بسيطة يمكن تلخيصها على صيغة سؤال كالتالي:

 متى كان السائح غير ضيف غريب يجب أن نكرمه لكيلا يشعر بغربته؟ ولكن سؤال آخر يكمن، هل هذا التعريف للسائح بأنه ضيف ويجب إكرامه هو ما ينطبق على التعريفات المعاصرة للسائح؟ هل مفهوم السياحة المعاصر والمتمركز حول الغرب (euro-centric) يخدمنا في تعريف السائح على أنه ضيف يجب إكرامه؟ على كل حال، أدع القارئ يتساءل ويجيب بنفسه.

ولكني أكمل مع القارئ لأوضح بعض المفاهيم، التي يمكن أن تعكس صورة مناقضة لتلك التي تكلمنا عنها في المفهوم الألباني عن السائح الضيف، وعليه أقول: عزيزي القارئ، هل تعلم أن الفرنسيين يوماً ما اخترعوا ما سوف أطلق أنا عليه في هذه المقالة بالسياحة الكولونيالية[1]؟

نعم... سياحة كولونيالية! حيث يأتي الغريب إلى أرضك ويحتلها، ولكي يستجم وينعم بالرخاء ولا يتلوث صفاء أفكاره "الحضارية"[2]، فإنه يبني حارات ومناطق له ولعائلته، ويعزل الشعب الأصلي عنها. نعم، حتى إن هذا السائح الاستعماري قد يبني لنفسه شوارع أحياناً ذات طراز إسلامي يعكس ثقافة البلد، محولاً (أي السائح المستعمر) البلد إلى صندوق من عجائب الدنيا، الذي يبهج هذا السائح دون أن يضطره إلى التعامل مع "غوغاء" سكان البلد المحليين. كما حدث في حي الأحباس في المغرب، أو كما يطلق عليه المغاربة اسم حي الحبوس، يعود تاريخ هذا الحي إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، بناه الفرنسيون ليعزلهم عن المحيط المغربي، وللمفارقة فإنهم بنوه على طراز الهندسة الإسلامية، لكي يستمتعوا بصفاء تلك الهندسة وجمالها دون أن يتعرضوا -في نظرهم- لملوثات بصرية قد تأتي من سكان البلد الأصليين.

إن مثل هذه السياحة الكولونيالية ما تزال قائمة بعقلية تنعكس في التخطيط المحلي للسياحة في بعض الدول، مثل سنغافورة وتايلاند، حيث يحوَّل البلد إلى منتجع مسلٍّ معزول عن السكان المحليين، خاص بهؤلاء الأوروبيين المتقاعدين، الذين يأتون إلى البلد دون اختلاط حقيقي مع سكانه، سوى أنهم يجلسون على شواطئ هذه البلدان ويتنعمون بفنادقها ونواديها، دون أن يشوَّش صفاؤهم بمشكلات السكان المحليين.

وهذه إحدى الاستراتيجيات التي يصفها عالم الاجتماع الكبير زيجمونت باومان، بالإشارة إلى الأنثروبولوجي الشهير ليفي شتراوس، في كتابه "الحداثة السائلة"، في التعامل مع الآخر الغريب، حيث يصف باومان استراتيجيتين للتعامل مع الغرباء ويقول:

"تكمن الاستراتيجية الأولى في "تقيؤ" الأغيار، ولفظهم بصفتهم غرباء[3] وأجانب، لا ينتمون إلى المكان بأي حال من الأحوال، فيحظر عليهم الاتصال الجسدي والحوار والتفاعل الاجتماعي وأشكال الاتصال كافة، وتتخذ تلك الاستراتيجية بعض الأشكال المتطرفة، مثل الاحتجاز والترحيل والقتل، وأما أشكالها الحديثة "المعدلة" فتتمثل بالعزل المكاني، والفيتو الحضري، والسماح لأفراد بعينهم بدخول فضاءات معينة دون سواهم"، (باومان، 2012، ص: 161).

وقبل أن أنتقل للحديث عن الاستراتيجية الثانية في التعامل مع الغرباء، أود أن أشير إلى أن الاستراتيجية الأولى هذه نسميها بالسياحة الصلبة، وهي تتطابق مع ما سميناه السياحة في طورها الاستعماري الصلب، حيث يُقصى الغرباء (ومن المؤسف أنهم السكان المحليون في الحالات التي تكلمنا عنها من قبل)، إذ يلعب إقصاؤهم دوراً في تنقية المناطق السياحية، لتغدو مناطق آمنة خالية من تلوث السكان المحليين ومشكلاتهم.

وفي سبيل توضيح تلك الخريطة السياحية الصلبة القائمة على استبعاد الملوث، للإبقاء على العنصر السياحي نقياً، نشير إلى قصة يرويها باومان بنفسه عندما كان بزيارة في أحد البلدان، فيخبرنا التالي:

"وقد كنت في رحلة لإلقاء محاضرة في إحدى المدن، التي تقع جنوب القارة الأوروبية، مدينة تكتظ بالسكان، وتتسم بأطرافها المترامية، وبنشاط أهلها، فالتقيت في المطار بمحاضِرة شابة، ابنة لأبوين من المدينة نفسها، وهما ثريان ذوا درجة علمية عالية وذوا خبرة، فعرضت علي أن تقلني بسيارتها إلى الفندق، وأسفت أن الرحلة لن تكون سهلة، وقد تستغرق وقتاً طويلاً، فلا مفر من الطرق المزدحمة، التي تؤدي إلى وسط المدينة، وتعاني الازدحام المروري الدائم، وبالفعل استغرقت الرحلة ساعتين تقريباً. ويوم رحيلي عن المدينة عرضت علي مرشدتي أن تعود بي إلى المطار، ولكني شكرت لها معروفها وعطفها، وفضلت أن أستقل سيارة أجرة، نظراً لمعرفتي بمدى الإرهاق الذي تسببه قيادة السيارة في تلك المدينة، ولكن في هذه المرة، أوصلني سائق سيارة الأجرة إلى المطار في أقل من عشر دقائق، إذ سار بي في طرق متعرجة تمر بأحياء عشوائية مهملة بائسة، تعيش ظروفاً مزرية، وتعج بأناس غير متحضرين، يبدو أنهم عاطلون عن العمل، وبأطفال متسخين يرتدون أسمالاً بالية. ولم يكن تأكيد تلك المرشدة عدم وجود مخرج لتفادي زحام وسط المدينة ادعاءً من طرفها، بل كان وفاءً والتزاماً بالخريطة الإدراكية، التي انطبعت في مخيلتها عن المدينة، التي ولدت وعاشت فيها هذا العمر الطويل، فتلك الخريطة لم تدون الشوارع البشعة في "الأحياء الفظة"، التي مرت بها سيارة الأجرة التي أقلتني، ففي خريطتها الإدراكية، لم تكن تلك الأحياء وشوارعها سوى فضاءات خالية بكل بساطة". ويكمل باومان ليعلق على ذلك: "فحذف مثل هذه الأماكن من الخريطة يسمح لبقية الأماكن في المدينة من أن تتصدر المشهد وتزخر بالمعاني" (باومان، 2012، ص:165). أي بعبارة أخرى: إن استبعاد تلك المناطق عن أعين السياح هو استراتيجية تكسب من خلالها المنطقة السياحية امتيازات ثقافية طبقية فريدة، تجعل منها منطقة سياحية للأجانب بامتياز، إذ يغدو استبعاد الآخر "غير المتحضر"[4] نواة التخطيط السياحي الصلب الكولونيالي[5]، ويمكن القول: إنه إذا كان يمكن عدُّ الاستراتيجية الأولى هي استراتيجية الإقصاء العنصري[6]، فإن الاستراتيجية الثانية[7] التي يكلمنا عنها باومان تسمى استراتيجية هضم الآخر الغريب، وهنا تغدو عكس الأولى التي تتجلى  باستبعاد الغريب ولفظه، وإذا ما أردنا أن نستعير تعبير المسيري، نحن نمر في عصر الانتقال من عنصرية التمييز إلى عنصرية المساواة[8] العمياء القائمة على أساس أننا كلنا بشر متساوون ما دمنا كلنا نستهلك وندفع نقوداً.

فالمجتمعات المعاصرة تدعي أنها دخلت في مرحلة المحبة والسلام وما بعد الكولونيالية، ومن ثم فإن التعامل مع الخوف من الآخر لم يعد يأخذ هذه الأشكال الاستبعادية الفظة الكولونيالية، بل إن التعامل مع الاختلافات الثقافية أصبح بصلابة أقل وسيولة أكثر، حيث ترسم الخريطة السياحية السائلة (على خلاف الخريطة السياحية الصلبة الاستبعادية) من خلال خلق مساحات سياحية تبتلع كل الثقافات، وتحيدها وتدمجها في بوتقة واحدة، وبذلك يجتمع الناس في هذه المساحات السياحية من كل الثقافات، دون التجمع بشكل يهدد كل ثقافة على حدة، ذلك أن الجميع تم ابتلاعهم وابتلاع ثقافاتهم في هذه المساحات (أو "لا أماكن" كما يشير إليها باومان) والجميع يلتقي بسلام كاذب، لأن الجميع لم يعد لديه شيء ليقوله عن ثقافته الخاصة، ومن ثم نجد تجمعاً شكلياً للثقافات دون وجود حوار جاد حقيقي بينها.

ومن ثم يبتلع الخوف من الثقافات الأخرى أمام منطق الفضاءات الاستهلاكية، التي تجمع الجميع دون أن توحدهم، هكذا ومن منظور السياحة السائلة يغدو الجميع متساوين أمام السوق من خلال الاستهلاك، وتصبح القاعدة التي توفق بين ابن البلد مع الغريب السائح هي أنه مادام الجميع يشتري، فالجميع متساوون، ومن ثم يصبح هذا هو منطق السياحة السائلة في خلق مناطق من "لا أماكن" داخل البلدان، لتجعل منها بلداناً سياحية بامتياز، وعن مفهوم "لا أماكن" السياحية التي تنتشر في عصر السياحة السائلة، نتوقف قليلاً مع باومان ليطلعنا على خصوصية هذه الـ "لا أماكن" وما أشهرها، إذ يقول:

("لا مكان" يقبل حتمية نزول الغرباء به أوقاتاً طويلة ممتدة، وهكذا يجعل حضور الغرباء جسدياً لا غير، بألا يختلف كثيراً من الوجهة الاجتماعية عن الغياب، أو يكون الحضور والغياب سواء، وبذلك يأتي "لا مكان" ليلغي ذاتية المارة، أو يرتقي بها أو يجعلها هي والعدم سواء، وقد يتنوع النزلاء المؤقتون في "لا مكان"، ويكون لكل منهم عاداته وطموحاته، وتكمن البراعة في عدم الاكتراث بتلك العادات والطموحات خلال الإقامة في "لا مكان"، فينبغي لهؤلاء النزلاء، مهما كانوا مختلفين، أن يتبعوا الآداب السلوكية نفسها، وينبغي أن تكون إرشادات النمط السلوكي الموحد موضحة لهم جميعاً، وذلك بصرف النظر عن اللغات التي يفضلون الحديث بها أو اعتادوا أن يستخدموها في أنشطتهم اليومية، فالتصرفات كافة التي يقوم بها النزلاء، أو لا بد من أن يقوموا بها في "لا مكان" ينبغي أن تجعلهم جميعاً يشعرون كما لو كانوا في بيتوهم، في حين ينبغي على أي منهم ألا يتصرف كما لو كان فعلاً في بيته. فـ"لا مكان" فضاء يخلو من السمات الرمزية التي تكشف عن الهوية أو العلاقات أو التاريخ، ومن أمثلة "لا مكان" المطارات الجوية، والطرق السريعة، والغرف الفندقية، ووسائل النقل العام وغيرها، فلم يشغل "لا مكان" من قبل مثل هذا الحيز الشاسع على مدار التاريخ). (باومان،2012، ص:163).

بالنهاية يمكن القول: في حين أن السياحة الصلبة الكولونيالية قائمة على استبعاد الدخيل "غير الحضاري" بهدف الحفاظ على نقاء البيئة السياحية وصفائها للضيوف، فإنه بالمقابل السياحة السائلة، التي تعتمد على ابتلاع الجميع (وليس على استبعادهم كما حالة السياحة الصلبة)، تضعف الهوية الثقافية للأماكن التي يزورها السياح، من خلال خلق فضاءات لا مكانية محايدة الثقافة، مثل الفنادق والمطارات والمطاعم، حيث يصبح السائح في هذه الحالة مجرد مستهلك في بيئة مجهولة بلا هوية أو تمييز ثقافي، من ثم يؤدي إلى تقليل التفاعل الثقافي العميق بين السياح والمجتمعات المحلية، وفقدان الفرص للتعارف الحقيقي بين الشعوب.

وهنا بعد إشارتنا إلى السياحة الكولونيالية، التي تشترط إبعاد الملوثات المحلية، لتطهير المكان وتهيئته للسياح، أتوقف عند حادثة شخصية حدثت معي في إحدى المرات، ويمكن من خلالها توضيح السياحة الكولونيالية الاستبعادية، اضطررت لمدة أن أزور مراراً إحدى المدن الساحلية المشهورة، خلال تلك الزيارات، كنت أجد المدينة قد فقدت هويتها، بسبب ازدحامها بالسياح، ولكن في إحدى المرات، اضطررت للذهاب إلى هذه المدينة في طقس بارد قليلاً، أي في غير موسم السياحة، حيث لا يوجد سياح بكثرة، وخلال تلك الزيارة كان لي تجربة مختلفة تماماً، فعندما زرت الشاطئ في ذلك الوقت من السنة، وجدت أن الزوار السياح الذين اعتدت رؤيتهم قد اختفوا، وبدلاً من أن أرى الخيام البحرية الأنيقة والحقائب الملونة ذات الماركات الشهيرة، وكراسي التخييم العملية، التي يمكن طويها بعد المغادرة تلك الخاصة بالسياح، رأيت الشاطئ وقد امتلأ بالسكان الأصليين للمدينة، الذين يجلسون على الأرض فوق أغطية منزلية بسيطة وممزقة أحياناً، يتناولون الطعام والمكسرات والبسكويت، ويحتسون الشاي، وينزلون إلى الماء بلباسهم الاعتيادي، لكي يبللوا أقادمهم ويستمتعوا، فجأة اختفى ذلك المشهد "الأنيق والمصطنع" للسياح، الذين يمتلكون أدوات سباحة محترفة وملونة بألوان مدروسة وأنيقة.

والمفاجأة حصلت عندما جلست أنا وعائلتي بجانب إحدى العائلات المحلية من سكان المدينة، الأصليين الحقيقيين، وتفاجأنا بلطف السيدة التي دعتنا بكل حماسة وإصرار وبلغتها الأم غير المفهومة لنا لتناول البزر وشرب الشاي مع عائلتها، منذ ذلك اليوم أدركت أن هذه المدينة قد استبعد سكانها الأصليون الحقيقيون، من أجل صناعة مشهد سياحي أنيق، من ثم لم نكن قادرين على التعرف على هذه المدينة وثقافة سكانها الأصليين إلا في فصل الشتاء، عندما يختفي السياح، وتعود المدينة لتعكس كرم سكانها الأصليين، وتعكس مشهد أغطيتهم المنزلية، التي على الرغم من أنها من منظور كولونيالي للحضارة تبدو غير منسقة، وبطانياتهم غير أنيقة، إلا أنها تعكس الدفء والمحبة بكل معنى الكلمة، وعند هذه اللحظة علمت أني أنا الآن لأول مرة سائح حقيقي يتعرف على المدينة وكرم أهلها.

أليس السائح بالنهاية، كما رأينا من خلال موقف الألبانيين، ليس أكثر من مجرد ضيف غريب يجب إكرامه لكيلا يشعر بغربته؟

وعليه أود أن أقول لك -عزيزي القارئ- إذا كنت ترغب في أن تحظى بتجربة سياحية حقيقية وعميقة لبلد ما، فعليك أن تزور ذلك البلد في موسم ليس سياحياً.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...