الابتكار الاجتماعي
التنمية الثقافية مقدمة للتنمية المستدامة

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 19

التنمية الثقافية مقدمة للتنمية المستدامة

لما كانت الثقافة هي مجمل النشاط الإنساني في حقول الإبداع الفكري والأدبي والفني، على تعدد أوجه هذا الإبداع وتشعب نواحي هذه الحقول، وكان العمل الثقافي عموماً شديد الارتباط بالمناخ الاجتماعي، وبالوضع الاقتصادي العام، فإن قيام التنمية الثقافية على النحو الذي يحقق التقدم الثقافي والازدهار الفكري، ويكفل تطور المجتمع، هو أمر مرهون بإيجاد الدوافع الموضوعية والحوافز الذاتية لدى الأفراد والجماعات، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، والتي من شأنها أن تطلق القدرات، وتفجر المواهب، وتحرك الملكات للإبداع وللابتكار وللإنتاج الفكري الذي ينعش الحياة، ويمتع الإنسان، ويساهم مساهمةً فعالة في تطور المجتمع فكرياً وثقافياً، وفي رقيه اجتماعياً.

وفي هذا المقال سنتناول مفهوم التنمية الثقافية، والتطور التاريخي لهذا المفهوم، وأهداف التنمية الثقافية، ودور المؤسسات الثقافية في تحقيق التنمية الثقافية المستدامة.

 

مفهوم التنمية الثقافية

إن التنمية الثقافية هي عملية تكاملية ما بين الأفراد والمؤسسات والمجتمعات، تستهدف بناء الإنسان ومحيطه الاجتماعي والمادي ودعمه لتحقيق الأفضل معنوياً ومادياً، بحسب رؤية واضحة وأهداف متسقة معها، تؤمن بها الأمة، وتندفع لتحقيقها بإرادة وفاعلية وفق نموذج مناسب.

وهي بهذا تتضمن عدة أمور:

●      الرؤية الواضحة المنطلقة من هوية الأمة وقيمها.

●      الأهداف المتسقة مع الرؤية.

●      الإرادة والفاعلية الناتجة عن إيمان الأمة بالرؤية واقتناعها بالأهداف.

●      الأنموذج المناسب الذي يستثمر تجارب الآخرين، ويراعي خصوصية الأمة ثقافياً ووضعها تاريخياً، ويطور تجربته باستمرار.

إن التنمية ذات البعد الإنساني، سواء من حيث إنجازها أو غاياتها، يتطلب إنجازها تغييراً في الشخصية الفردية ومحيطها الاجتماعي، وغايتها نقل الفرد والمجتمع إلى ظروف أفضل قيمياً ومادياً بما يحقق الكرامة، والحرية، والعدالة، والإنتاجية، إذ إن الجانب المادي أو الاقتصادي وحده -وإن أدى إلى تغيير- فلن يحقق نجاحاً ما لم يكن مصحوباً بتغيير ثقافي ممنهج.

 

التطور التاريخي لمفهوم التنمية الثقافية

ظهر مفهوم التنمية الثقافية أول مرة في أفريقيا، حيث ارتبط بحركـات التحـرر من الاحتلال،  وقد حمل المفهوم في البداية الطابع الخطابي، حاملاً معه بذور البحث عن الهوية الثقافية، ومنذ 1970 أخـذ المفهوم طابعه الأكاديمي إثر المؤتمر الذي عقدته منظمة اليونسكو في "البندقيـة " حـول الجوانـب المؤسسـية والإدارية والمالية للسياسات الثقافية، حيث صيغ مفهوم التنمية الثقافية بوضوح لأول مرة علـى أسـاس توسيع المفهوم الاقتصادي للتنمية وإصلاحه، ومن ثم تعميق مضمونه في السياق الخاص للمنظمة الأوروبيـة، أولاً مـن خلال المؤتمر الذي عقد على مستوى الحكومات حول السياسات الثقافية الأوربية في "هلسنكي" عام 1972، ومن ثم توسيع استخدام المفهوم في أفريقيا من خلال مؤتمر "أكرا" سنة 1975، وأمريكـا اللاتينيـة والكاريبي من خلال مؤتمر "يوغوتا" 1978.

ومن ثم اتسع مفهوم التنمية ليشمل الجانب الثقافي كونه بعداً أساسياً مـن أبعـاد التنمية، وقد تحولت التنمية الثقافية في مجرد نظرة حماسية إلى مبدأ حركي، فقد أشار مدير عـام منظمـة اليونسـكو "أمادو مهاتما" في مؤتمر 1975 في "أكرا" إلى أن مدى هذا التحول هام جداً، فإن كان النمو الاقتصادي عاملاً أساسياً فـي التنمية، فإن الاختيارات الثقافية بخاصة هي التي تحدد بوجه خاص وضعها لخدمة الأفراد والمجتمع، بهدف إشـباع حاجاتهم وتطلعاتهم المشروعة.

 

أهداف التنمية الثقافية

تسعى التنمية الثقافية إلى تحقيق جملة من الأهداف والغايات ومن ضمنها:

●      نقل الموروث الثقافي عبر الأجيال للمحافظة على المجتمع العربي وتوسيع ثقافته وتأمين استمراره.

●      تخليص الثقافة المحلية وتنقيتها مما لصق بها من الشوائب والبدع والعادات السلبية، التي تعمل على ترسيخ التخلف، وتحسين هذه الثقافة، وإرساء دعائم الصالح منها، والمحافظة على ذاتيتها وشخصيتها المتميزة.

●      تجديد الثقافة المحلية بتطوير العناصر القابلة لذلك وتحسينها، وتوفير الوسائل والسبل الممكنة لتحقيق ذلـك مع المحافظة على الأصل، وترسيخها في شخصية أفراد المجتمع.

●      تأصيل جذور التثقيف الذاتي بين الأفراد وتسهيل طرق ذلك، وتوفير الوسائل المساعدة عليه كافة، وتهيئة البيئـة والمناخ الفكري والفني ونشر الوعي الثقافي بين الفئات العامة والخاصة، وبناء مواطن واع ومثقف قادر علـى مواجهة كل التيارات والعقبات التي يمكن أن تواجهه.

●      تكوين الفكر المبدع القادر على التقدم العلمي والتقني، والاهتمام بالمواهب العلمية وتشجيعها، وتوفير الإمكانات كافة لها، وتوفير الجو المناسب لنموها.

 

دور المؤسسات الثقافية في تحقيق التنمية الثقافية المستدامة

تعد المؤسسات الثقافية إحدى الوسائل والآليات الهامة لتحقيق التنمية الثقافية، كما أنها تعد من المؤشرات الخاصة بها، إذ تلعب دوراً مهماً في عملية التنمية، وهذه المؤسسات تتسم بالتعدد والتنوع، فهناك:

●      المؤسسات الثقافية الرسمية: وهي تضم مؤسسات التوجيه الحكومية والتي تتعلق بالعديد من الوزارات كوزارة الثقافة، والإعلام، والتعليم العالي، وتتمثل مهمتها في رسم الاستراتيجيات المنبثقة من فلسفة الدولة، كما تتضمن أيضاً بعض المؤسسات الحكومية الأخرى ذات الإدارة المستقلة كالمراكز والجمعيات، وهي لا تقوم بدور توجيهي مباشر، ولكنها تمثل مكاناً وملتقى لممارسة النشاطات الثقافية.

●      المؤسسات الثقافية غير الرسمية: وهي تقوم بدور تنموي مواز للدور الذي تقوم به المؤسسات الرسمية، وهي تشكل جزءاً من مؤسسات المجتمع المدني، والتي يقصد بها الروابط والفنانون التشكيليون والنقابات.

●      المؤسسات الثقافية الأجنبية: وهي مؤسسات تأخذ شكل المراكز الثقافية، وتتبع دولتها، مثل المركز الثقافي الفرنسي وغيره من المراكز، وتلعب تلك المراكز دوراً بارزاً في تحقيق التنمية الثقافية فهي إحدى الآليات الهامة لنشر الثقافات، وتحقيق التنمية الثقافية، وبناء الإنسان فكرياً وروحياً وثقافياً، وذلك من خلال العديد من الفعاليات والأنشطة التي تقدمها تلك المراكز كالندوات، والمؤتمرات، والأمسيات الشعرية، ومعارض الفنون التشكيلية، والتي تساهم مساهمة فعالة في مجال التنمية الثقافية ورفع الوعي الثقافي وبناء الإنسان.

 

وأخيراً يمكننا القول:

إن التنمية الثقافية هي الجانب الجوهري أو الأساس في العملية التنموية وذلك على أن الثقافة: هي المحيط الاجتماعي الذي يعكس الحضارة، ويشكل الشخصية الفردية، فمن خلالها تظهر جميع الجوانب المؤثرة في صياغة المجتمع وأفراده، من عقائد، وقيم، ومعارف، وتشريعات، وعادات، وأعراف، وغير ذلك من العناصر التي يتشكل منها أسلوب حياة المجتمع، ويؤدي دوراً عظيماً في فاعليته، وطريقة استثماره لموارده، وتوجيهه لطاقاته، وأداء الواجبات واستيفاء الحقوق.

ومن ثم فالتنمية الثقافية قاعدة متينة من أسس التنمية الشاملة المستدامة، والتي لا تتحقق إلا إذا كانت الثقافة مثمرة منتجة، ولذلك فإن التنمية الثقافية لا تقوم من فراغ، ولا تتحقق طفرة، وإنما هي نتاج تفاعل مجموعة من العوامل يكمل بعضها، إذا ما توفرت بالقدر اللازم، وتكاملت بالصورة المطلوبة، أدت إلى بروز العناصر الفاعلة في تحقيق التنمية الثقافية على النحو الذي يتناسب مع الجوانب الأخرى للتنمية.

 

 

المراجع

د. عبد الله بن حمد العويسي. (2011). التنمية الثقافية وأثرها في بناء الإنسان. كلية الشريعة – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 28.

عبد العزيز بن عثمان التوجيري. (2015). التنمية الثقافية من منظور إسلامي. الرباط: المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو.

إيمان يوسف البسطويسي، محمد جلال حسين، و أماني فاروق الحناوي. (2020). دور المراكز الثقافية في تحقيق التنمية الثقافية المستدامة. المجلة العربية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، 20.

زينب زموري. (2014). ماهية التنمية التنمية الثقافية دراسة تحليلية. مجلة العلوم الإنسانية والإجتماعية، 8.

 

https://ndf.gov.sa/ar/cultural-development/

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...