الابتكار الاجتماعي
استراتيجيات الندج المبتكرة لتعزيز مشروعات الاستثمار الاجتماعي ومبادراته

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 20

استراتيجيات الندج المبتكرة لتعزيز مشروعات الاستثمار الاجتماعي ومبادراته

   د. إبراهيم داوالحاج

"الندج" (Nudge) ، مفهوم اقتصادي سلوكي طوره ريتشارد ثالر وكاس سنشتاين في كتابهما الرائد "الندج: تحسين القرارات المتعلقة بالصحة والثروة والسعادة" وهو مفهوم يشير إلى مجموعة من التقنيات الاقتصادية السلوكية المصممة للتأثير في قرارات الأفراد بطريقة يمكن التنبؤ بها، دون منع خياراتهم أو تغيير حوافزهم الاقتصادية جذرياً[1]، وتقوم تقنيات الندج على إدخال إشارات أو تعديلات بسيطة وغير مباشرة في البيئة المحيطة للأفراد، بغرض جعل بعض الخيارات أكثر جاذبية أو بديهية لهم، وتعتمد هذه الاستراتيجية على فهم دقيق للطبيعة البشرية، إذ تستخدم التحيزات المعرفية والنزعات الفطرية كأدوات للتأثير[2]، على سبيل المثال: تستغل تقنيات الندج الميل الطبيعي للأفراد نحو تفادي الخسائر ورغبتهم في الحفاظ على الوضع القائم، لتوجيه سلوكهم نحو اتخاذ قرارات مفيدة أو مرغوبة دون الشعور بالإجبار أو القيود[3]، ولذا تتسم استراتيجيات الندج بأنها غير قسرية، تحافظ على حرية الاختيار وتوجه السلوكيات برفق نحو نتائج مرغوبة، قد تطبق هذه الطرق في مجالات متعددة تشمل الصحة العامة والتخطيط المالي، مما يبرهن على تنوعها وكفاءتها[4].

ويؤكد ريتشارد ثالر وكاس سنشتاين أنه بفهم كيفية تفكير الأفراد وكيفية اتخاذهم للقرارات، يمكن للشركات والمستثمرين تصميم بيئات تحفز الأفراد نحو اتخاذ خيارات أكثر إفادة دون الحد من حريتهم في الاختيار، ويُظهر هذا المنهج كيف يمكن للتدخلات الصغيرة وغير المكلفة أن تحدث تغييرات كبيرة في سلوكيات الأفراد، من خلال توجيههم بنحو غير مباشر لاتخاذ القرارات المثلى.

في مجال الاستثمار الاجتماعي، يقدم الندج وعوداً بالغة الأهمية بفضل قدرته على التأثير بطريقة ملموسة وبكفاءة عالية في السلوكيات المجتمعية، على أن الاستثمارات الاجتماعية، التي تهدف إلى تحقيق فوائد أثر اجتماعي بالإضافة إلى العائدات المالية، غالباً ما تواجه عقبات مثل نقص الوعي، وقلة تفاعل المستثمرين ومشاركتهم، بالإضافة إلى التحيزات المعرفية، ولذا يمكن للندج أن يتغلب على هذه العوائق بكفاءة، من خلال اعتماد استراتيجيات شاملة، لتعزيز الاستثمار الاجتماعي على غرار استخدام الإعدادات الافتراضية لتوجيه المستثمرين، وتسويق مشروعات الاستثمار الاجتماعي، كما بينت دراسة أجراها مركز الاقتصاد السلوكي بجامعة كاليفورنيا أن التسجيل التلقائي في خطط الاستثمار متعددة الأبعاد من خلال اعتماد تقنيات الندج يزيد من معدلات المشاركة بشكل كبير ويرفع من أرباح المستثمرين ورواد الأعمال[5].

على غرار استخدام التقنيات والإعدادات الافتراضية في توجيه سلوك المستثمرين والمانحين، يمكن للندج أن يستفيد أيضاً من الأعراف الاجتماعية وتأثيرات الأقران، لتعزيز ثقافة الاستثمار الاجتماعي، إذ إن إعلام الأفراد بممارسات جيرانهم في توفير الطاقة واستخدام الندج للتأثير في محيط الأفراد أدى إلى انخفاض ملحوظ في استهلاك الطاقة، ولذا يمكن تطبيق استراتيجيات مماثلة في الاستثمار الاجتماعي، من خلال عرض نماذج من قادة المجتمع أو الأقران الداعمين للمشروعات الاجتماعية، لتعزيز معدلات المشاركة وترسيخ النهج الموجه نحو المجتمع للاستثمار[6].

ولهذا يظهر جلياً استخدام هذه التقنيات الدقيقة والفعالة في توجيه سلوكيات المستخدمين المختلفة وخياراتهم الاقتصادية، يقدم الندج مساراً عملياً ليس فقط لزيادة حجم الاستثمارات الاجتماعية، بل لضمان مساهمتها بفاعلية أكبر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مما يعزز الاعتراف المتزايد بالاقتصاد السلوكي، كأداة حاسمة في مقاربات صانعي السياسات والمخططين الاجتماعيين الرامين إلى تنمية قاعدة مستثمرين مسؤولين وواعين اجتماعياً.

أساسيات الندج في الاقتصاد السلوكي

الجذور النظرية للاقتصاد السلوكي

يتحدى الاقتصاد السلوكي النظرية الاقتصادية الشائعة، والتي تعد الأفراد صانعي قرار عقلانيين بالمطلق، وإنما يشير بدلاً من ذلك إلى الدور البارز الذي تلعبه العوامل النفسية والاجتماعية في التأثير على السلوك الاقتصادي للأفراد، ولهذا تركز مساهمات الاقتصاد السلوكي في الأبحاث الاقتصادية على دراسة التحيزات المعرفية والخطوات الاستدلالية، التي تؤدي بالأفراد غالباً إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية أو غير مثلى، علاوة على ذلك كان لدانيال كانيمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعمله مع عاموس تفيرسكي حول نظرية الآفاق، تأثير معتبر في تطوير الاقتصاد السلوكي، ويبين عملهما أن الأفراد يقدرون الخسائر والمكاسب بنحو مختلف، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات مالية، قد تبدو غير عقلانية من منظور الاقتصاد الكلاسيكي، هذا الفهم للسلوك الاقتصادي البشري له آثار عميقة في تصميم السياسات الاقتصادية والتمويل الشخصي، إذ يُعترف بأن القرارات الاقتصادية تتأثر بعوامل نفسية واجتماعية عميقة التأثير[7].

وتؤكد مفاهيم ونظريات الاقتصاد السلوكي على أهمية تحليل العوامل العاطفية والنفسية في فهم القرارات الاقتصادية، مما يمهد الطريق لاستراتيجيات مثل الندج، التي تستغل هذه العوامل بأسلوب فعال لتعزيز القرارات الأفضل، ومن بين المبادئ الأساسية لهذه النظريات الاقتصادية ما يلي:

العقلانية المحدودة: مفهوم قدمه هربرت سيمون ينطلق من أن الأفراد يتخذون قراراتهم ضمن قيود المعلومات المتاحة لديهم، والقدرات المعرفية لعقولهم، في نطاق الوقت المحدود المتاح لاتخاذ القرار، ويُظهر هذا المفهوم أن الأفراد لا يختارون دائماً البديل الأكثر عقلانية، مما يتعارض مع النظريات الاقتصادية الكلاسيكية[8].

الاستدلال: أدخل تفرسكي وكانيمان مفهوم الاستدلال، وهي الاختصارات العقلية، التي يستخدمها الأفراد لاتخاذ القرارات بسرعة و على الرغم من فائدتها، يمكن للاستدلالات أن تقود إلى انحرافات منهجية عن المنطق أو الاحتمال، مما يؤدي إلى تحيزات معينة[9].

التحيزات المعرفية: هناك العديد من التحيزات التي تؤثر في عملية اتخاذ القرار لدى الأفراد، ومنها على سبيل المثال: كثرة الإرشادات والمعلومات، أو كما وصفه تفرسكي وكانيمان "بالتوفر الإرشادي"، إذ تؤدي كثرة الإرشادات إلى المبالغة في تقدير أهمية المعلومات التي تكون متاحة بسهولة، كما يبين مفهوم النفور من الخسارة، وهو جزء من نظرية الاحتمالات، كيف أن الأفراد يفضلون بشدة تجنب الخسائر على الحصول على مكاسب مماثلة[10].

آليات وأساليب الندج في دعم الاستثمار الاجتماعي

في ظل تزايد الاهتمام بالاستثمار الاجتماعي ومشروعاته، التي لا تقتصر فائدتها على العوائد المالية فحسب، بل تمتد لتشمل الفوائد الاجتماعية والبيئية، تبرز آليات الندج كأدوات محورية في تعزيز هذا النوع من الاستثمار المؤثر، ويمكن اعتماد عدة آليات وأساليب مستخدمة في تقنيات الندج لتعزيز مبادرات ومشروعات الاستثمار الاجتماعي على غرار:

الخيارات الافتراضية

تُعد الإعدادات الافتراضية إحدى الطرق الذكية، التي تُستخدم لتحفيز الناس على المشاركة في مختلف البرامج والمشروعات ذات الأثر الاجتماعي، لأن الفكرة من وراء هذه الطريقة هي استغلال ميل الناس للبقاء على ما هم عليه، بدلاً من تغيير الحالة الراهنة وعدم المغامرة بتغيير منطقة الراحة، خاصة إذا كان ذلك يتطلب منهم جهداً إضافياً، على سبيل المثال: إذا كان الخيار الافتراضي في برنامج ما هو المشاركة في صندوق استثماري اجتماعي، فإن الأشخاص غالباً ما يستمرون في هذا الخيار، لأن الانسحاب منه يتطلب منهم اتخاذ خطوات إضافية.

لتوضيح ذلك بمثال: أظهرت دراسة أجراها عام 2001 مادريان وشيا أن تسجيل الموظفين تلقائياً في خطط مدخرات التقاعد قد زاد من نسبة المشاركين زيادة ملحوظة في صناديق التقاعد، لأن هذا الخيار الافتراضي كان يضمن مشاركة الموظفين وتسجيلهم تلقائياً في خطط التقاعد، ولهذا لم يُكلَّف الموظفون أي جهد إضافي للبدء في الادخار وتأمين برامجهم لما بعد التقاعد، والتي دائماً ما يهملها أغلب الموظفين الشباب[11]. وبالطريقة نفسها عند تطبيق هذا المبدأ على مشروعات الاستثمار الاجتماعي ومبادراته، فإذا كان الناس مسجلين تلقائياً في دعم المشروعات الاجتماعية مع إعطائهم خيار الانسحاب، فإن المشاركة تزداد بنحو كبير، مما يدعم بفاعلية الأهداف الاجتماعية والبيئية للبرنامج أو المشروع.

التبسيط وقياس ردود الفعل

تبسيط عملية المساهمة في مشروعات الاستثمار الاجتماعي ومبادراته تعد استراتيجية فعّالة لزيادة معدلات المشاركة وتعزيز التأثير الإيجابي لهذه الاستثمارات، لأن الأنظمة المعقدة والإجراءات البيروقراطية غالباً ما تعيق الأفراد من الانخراط بفاعلية، لذلك تعمل الإجراءات المبسطة على تقليل هذا العبء، وترفع العراقيل المعرفية والجهد اللازم للمشاركة في الاسثمار الاجتماعي، مما يجعل عملية الانخراط أكثر سلاسة، ويشجع على اتخاذ خطوات فعلية نحو المساهمة.

فضلاً عن ذلك تلعب الاستجابة السريعة والمرئية لمساهمات الفرد دوراً محورياً في تعزيز السلوك الإيجابي، لأنه غالباً عندما يتلقى الأفراد تغذية راجعة فورية وواضحة حول تأثير مساهماتهم، فإن ذلك يعزز انطباعهم بأهمية تلك المساهمات ويشجعهم على الاستمرارية وربما زيادة المشاركة، وتوضح الدراسات أن تصور الأفراد لنتائج أفعالهم يمكن أن يُحسّن من قراراتهم الاقتصادية والاجتماعية، ويجعلهم أكثر ميلاً لتبني سلوكيات مفيدة ومستدامة[12].

الأعراف الاجتماعية والالتزامات العامة

تأثير الأعراف الاجتماعية في السلوك يعد جانباً رئيسياً في دراسات الاقتصاد السلوكي، إذ تشير الأبحاث إلى أن الأفراد غالباً ما يتأثرون بأفعال أقرانهم ومعتقداتهم، هذا الأمر يأخذ بُعداً عملياً في مجال الاستثمار الاجتماعي، فعندما تعرض قصص أو تجارب الأفراد، الذين قاموا بمساهمات مؤثرة، يصبح من المحتمل أن يتبع الآخرون نمط سلوكهم، مدفوعين برغبة في الانسجام مع ما يبدو أنه السلوك المقبول أو المرغوب فيه ضمن مجتمعهم[13].

بالإضافة إلى ذلك يلعب التزام الفرد علنياً دوراً كبيراً في تعزيز هذه الظاهرة، فيبين روبرت سيالديني كيف أن الإعلان العام عن التزامات معينة يزيد من مسؤولية الفرد ويدفعه للالتزام أكثر بتلك الوعود، هذه الآلية تساعد على تعزيز الاتساق في السلوك، حين يشعر الفرد بضغط أكبر لمتابعة التزاماته خاصة إذا كان قد أعلن عنها علناً، مما يزيد من فرصة استمراره في دعم الاستثمارات الاجتماعية، وتعمل هذه الاستراتيجيات معاً على خلق بيئة تشجع على السلوكيات الاجتماعية الإيجابية وتعزز التزام الأفراد بمسؤولياتهم تجاه المجتمع[14].

الحوافز والمكافآت

تقديم الحوافز والمكافآت، سواء كانت مادية أو معنوية، يعد وسيلة فعالة لتحفيز الأفراد على زيادة مشاركتهم في الاستثمار الاجتماعي، الحوافز المالية، مثل الإعفاءات الضريبية، توفر مزايا ملموسة تشجع الأفراد على الاستثمار في المبادرات الاجتماعية، من ناحية أخرى تلعب الحوافز الرمزية، مثل الاعتراف العام أو شهادات التقدير، دوراً كبيراً في تعزيز الرضا الشخصي والشعور بالانتماء والتقدير ضمن المجتمع.

الباحثان جينيزي وروستيتشيني  وجدا في دراسة لهما أنه حتى الحوافز الصغيرة يمكن أن تحدث تغييراً كبيراً في سلوك الأفراد، هذا الاكتشاف يبرز كيف يمكن للحوافز، حتى تلك التي تبدو ضئيلة، أن تدفع الأفراد نحو اتخاذ خيارات تساهم بإيجابية في المجتمع، خصوصاً عندما تتوافق هذه الحوافز مع قيم الأفراد والأهداف الأوسع للمجتمع، ويُظهر هذا النهج قوة الحوافز في تعزيز الاستثمارات، التي تفيد الأفراد والمجتمع على حد سواء، ويؤكد على الحاجة إلى دمجها بشكل استراتيجي في برامج الاستثمار الاجتماعي[15].

تأثير النداءات العاطفية وقصص النجاح

النداءات العاطفية وقصص النجاح المتعلقة بالمشروعات والمبادرات الاجتماعية تمثل أدوات قوية لزيادة تأثير الندج في الاستثمار الاجتماعي، لأن عرض القصص التي تثير المشاعر وتبرز الفوائد الملموسة للمساهمات يمكن أن يحفز الأفراد كثيراً على العمل والمشاركة، وقد أكدت البحوث التي أجرتها جينيفر ليرنر وفريقها هذه الفرضية، حيث برهنت نتائج البحوث أن النداءات العاطفية تمتلك القدرة على تغيير المواقف والسلوكيات بنحو فعال، من خلال تأسيس اتصال عاطفي قوي بين الأفراد والقضايا التي تهمهم[16]، وفي سياق الاستثمار الاجتماعي، تعمل مشاركة القصص الفردية التي تُظهر كيف أثرت المساهمات بإيجابية في الأفراد أو المجتمعات بأكملها على تعزيز الرغبة بين الأفراد للانخراط والدعم المستمر، لأنه غالباً ما تُعطي هذه القصص صورة حية وملهمة للإمكانيات، التي يمكن تحقيقها من خلال الاستثمار الاجتماعي، ومن ثم تزيد من فاعلية الندج بتوجيه السلوك نحو تحقيق أهداف اجتماعية أكبر.

الهيكلة البيئية وهندسة الاختيار

تنظيم البيئة المادية أو الرقمية بطريقة تشجع على الاستثمارات الاجتماعية يمثل جانباً هاماً من الندج، وهو ما يُعرف بـ "هندسة الاختيار"، هذه الاستراتيجية تركز على تصميم السياقات التي يتخذ فيها الأفراد قراراتهم بنحو يجعل خيارات الاستثمار الاجتماعي أكثر سهولة ووضوحاً، من خلال تحسين تقديم هذه الخيارات، سواء عبر المنصات الرقمية، مثل المواقع الإلكترونية والتطبيقات المالية، أو عن طريق دمجها في الأنشطة اليومية، يمكن زيادة فرص التعرض لها وتحفيز المشاركة.

ريتشارد ثالر وكاس سنشتاين يوضحان كيف أن البيئات المصممة بعناية يمكن أن تحسن من جودة القرارات التي يتخذها الأفراد، دون الحاجة إلى الضغط أو الإكراه، من خلال هندسة الخيارات بشكل يبرز الفوائد ويقلل الجهد اللازم للمشاركة، يصبح الأفراد أكثر ميلاً لاختيار العمل على تحقيق أهداف اجتماعية وبيئية مهمة، هذه الممارسة لا تساعد فقط في تعزيز المشاركة الفعالة، ولكنها تعزز أيضاً التزام الأفراد بمواصلة دعم المشروعات الاجتماعية على المدى الطويل[17].

توقيت الندج

توقيت الندج يعد عنصراً حيوياً في تعزيز فاعليته، إذ يمكن أن يحدث تأثيراً كبيراً في استجابة الأفراد، مثلاً: طلب التبرعات لمشروعات تعليمية خلال أوقات التسجيل المدرسي، أو الدعوة لدعم المبادرات الصحية في أشهر التوعية المخصصة لقضايا صحية معينة، يمكن أن يزيد كثيراً من تفاعل الأفراد، لذا فإن الاستفادة من هذه "النوافذ الزمنية" التي يكون فيها الأفراد أكثر تقبلاً للمشاركة تجعل الندج أكثر تأثيراً[18].

التوقيت الاستراتيجي للندج في مشروعات الاستثمار الاجتماعي يعد أساسياً لتحقيق أقصى تأثير ممكن، لأنه من خلال تنسيق الندج ليتزامن مع اللحظات الحاسمة والمواقيت الأكثر تأثيراً، يمكن تحسين الاستجابة بنحو كبير، هذه الاستراتيجية تستفيد من الإدراك الدقيق للسياقات الزمنية، مما يساهم في تعزيز كفاءة الندج بنحو ملحوظ.

من خلال تحديد الأوقات التي يكون فيها الجمهور المستهدف أكثر استعداداً للتفاعل والمشاركة، تستطيع المنظمات والشركات الاجتماعية ضمان أن رسائلها تلقى الاهتمام والتفاعل المطلوبين، سواء كان ذلك من خلال استهداف توقيتات معينة لجمع التبرعات، مثلاً: خلال مواسم التخطيط المالي، أو توجيه الدعوات للمشاركة في المشروعات التعليمية في أثناء أوقات التسجيل المدرسي، يمكن لهذا التنسيق الزمني أن يلعب دوراً حاسماً في نجاح المبادرات الاجتماعية، هذا النهج يمكِّن المنظمات من تحقيق أهدافها بفاعلية أكبر، ويضمن أن الجهود المبذولة تؤدي إلى نتائج مثمرة ومستدامة، مما يعزز بنحو كبير من إمكانيات تحقيق التغيير الاجتماعي الإيجابي.

المراقبة وقياس الأثر

إنشاء حلقات ردود الفعل ضمن آليات الندج يعد جزءاً أساسياً لضمان استمرار فاعليتها على المدى الطويل، من خلال مراقبة النتائج وتفاعل الأفراد مع مشروعات الاستثمار الاجتماعي باستمرار، يمكن للمنظمات تقييم فاعلية الاستراتيجيات المستخدمة، وإجراء التعديلات اللازمة لتحسينها، على سبيل المثال: إذا لم تؤدِّ الآليات مثل التسجيل التلقائي في صندوق مجتمعي إلى زيادة المشاركة كما هو متوقع، فمن الممكن تعديل شروط التسجيل، أو تحسين استراتيجيات الاتصال بناء على ردود فعل المشاركين وتحليلات السلوك المُفصلة.

هذه الحلقات تساعد على فهم أفضل لكيفية تفاعل الجماهير مع الندج وتأثيره في سلوكهم، مما يمكن المنظمات من تحديد الجوانب التي تحتاج إلى تحسين استراتيجيات جديدة أكثر فاعلية وتطويرها، تسهم هذه العملية في تعزيز التغيير الإيجابي المستمر، وتضمن تكيف الندج مع التحديات الجديدة والتغيرات في البيئة أو المجتمع.

الندج التكيفي

الندج التكيفي يتضمن التعديل المستمر والديناميكي لاستراتيجيات الندج استناداً إلى التحليل الفوري للبيانات والتغذية الراجعة من المستخدمين، هذا النهج يتيح تكييف الندج ليلائم بدقة التفضيلات والسلوكيات الفردية، ما يسهم في تعزيز فاعليتها إلى حد كبير، وهذا بفضل التقنيات المتقدمة، مثل نماذج التعلم الآلي، يمكن تحليل بيانات التفاعل من المستخدمين بدقة، مما يسمح بتحسين الندج وتخصيصها، بما يتوافق مع احتياجات وتفضيلات المجموعات السكانية المتنوعة.

عن طريق هذه الآلية، يمكن للندج أن يصبح أكثر مرونة وفاعلية، محققاً تأثيرات أكبر في سلوك الأفراد وقراراتهم، إذ إن التعديلات التي تتم بناء على المعطيات الواقعية تضمن أن الندج لا يظل ثابتاً، بل يتطور بما يتماشى مع التغيرات في المجتمع والسوق، هذا التخصيص الفعال يزيد من احتمال استجابة الأفراد بإيجابية، مما يعزز من نجاح البرامج الاجتماعية والاقتصادية على المدى الطويل.

 التحديات والاعتبارات الأخلاقية للندج في الاستثمار الاجتماعي

تقنيات الندج على الرغم من فاعليتها في توجيه السلوكيات ودعم الاستثمار الاجتماعي، تطرح تحديات أخلاقية كبيرة تتمثل في مدى تأثيرها في الاختيار الحر واحترام استقلالية الفرد، لأن هذه التقنيات، برغم كونها خفية ومصممة للتأثير بنحو غير مباشر، قد تعد تلاعباً يمكن أن يؤدي إلى تقويض الموافقة المستنيرة، وهذا يطرح مشكلات أخلاقية، خصوصاً عندما تدفع الأفراد نحو قرارات قد لا تتوافق بالضرورة مع تفضيلاتهم الشخصية، ولكنها تخدم أهداف مصمم الندج[19].

القضايا الأخلاقية تتفاقم في السيناريوهات التي يمكن أن تؤدي الندجات إلى نتائج تفيد المصممين أكثر من المستفيدين، لذلك يؤكد سنشتاين على أن تطبيق الندج بطريقة أخلاقية يتطلب نيات حسنة وشفافية كاملة في تنفيذ هذه الاستراتيجيات، لأنه من الضروري أن تُنفذ تقنيات الندج بطريقة تعزز الرفاهية بناء على تقييم المستفيدين أنفسهم، وليس فقط وفقاً للمعايير التي يحددها مصممو الندج[20].

لضمان التطبيق الأخلاقي للندج في مجالات الاستثمار الاجتماعي، يجب على المنظمات والشركات تطوير آليات للمراقبة المستمرة والتقييم الذاتي، لضمان أن الأساليب المستخدمة لا تتجاوز حدود النفوذ الأخلاقي، وتحترم الحريات الشخصية للأفراد، من خلال توفير خيارات متعددة وشرح واضح لكل خيار، يمكن للمنظمات تحسين شفافية الندج وتقليل المخاطر المتعلقة بالتأثير غير الملائم في قرارات الأفراد.

الخاتمة

في هذا المقال عرضت كيفية استخدام الندج في تعزيز مشروعات في مجال الاستثمار الاجتماعي، مما يشمل كلاً من المبادرات الخاصة بالشركات والبرامج الحكومية، وقد أظهر الندج قدرة كبيرة على تشجيع السلوكيات المتماشية مع الأهداف الاجتماعية والبيئية، ومع ذلك يقدم الندج أيضاً تحديات أخلاقية، خصوصاً فيما يتعلق بإمكانية التلاعب في الاختيار والانتهاكات المحتملة لاستقلالية الفرد، ما يطرح تساؤلات حول الموافقة المستنيرة والاحترام للتفضيلات الفردية.

ومع تطور التكنولوجيا هناك فرص هائلة لدمج التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي مع استراتيجيات الندج لزيادة تأثيرها وانتشارها، هذه التقنيات توفر إمكانيات غير مسبوقة لتحليل البيانات السلوكية في الوقت الفعلي، مما يتيح إمكانية إنشاء أساليب أكثر تخصيصاً وملاءمة، ويتوقع أن تسهم الأبحاث المستقبلية في استكشاف كيفية تصميم المنصات الرقمية لتقديم الندج بطريقة أخلاقية ومراعية للتنوع الثقافي.

من المهم أيضاً أن تفكر الأطراف المعنية في تشكيل شراكات بين القطاعات لتجميع الموارد، وتبادل المعرفة، والابتكار في تطبيق الندج نحو الاستثمار الاجتماعي في سياق المملكة العربية السعودية ومنطقة الشرق الأوسط، لأن هذه الجهود المشتركة ستساهم في تحقيق الاستفادة القصوى من قدرة الندج على التأثير بإيجابية في النتائج الاجتماعية، ونشجع الفاعلين في القطاعات المختلفة - الحكومية، الخاصة، المنظمات غير الربحية - على اعتماد استراتيجيات الندج بطريقة مدروسة لتحقيق بيئات استثمارية اجتماعية قوية، ويجب أن تكون هذه الجهود موجهة بمعايير أخلاقية صارمة، وتلتزم بالتقييم والتكيف المستمرين لضمان الفاعلية والعدالة.



[1] Thaler, R., & Sunstein, C. (2008). Nudge: Improving decisions about health, wealth and happiness. In Amsterdam Law Forum; HeinOnline: Online (p. 89).

[2] Lin, Y., Osman, M., & Ashcroft, R. (2017). Nudge: concept, effectiveness, and ethics. Basic and Applied Social Psychology39(6), 293-306.

[3] Leonard, T. C. (2008). Richard H. Thaler, Cass R. Sunstein, Nudge: Improving decisions about health, wealth, and happiness: Yale University Press, New Haven, CT, 2008, 293 pp, $26.00.

[4] Cai, C. W. (2020). Nudging the financial market? A review of the nudge theory. Accounting & Finance60(4), 3341-3365.

[5] Yu, J., Cheung, M. H., & Huang, J. (2016). Spectrum investment under uncertainty: A behavioral economics perspective. IEEE Journal on Selected Areas in Communications34(10), 2667-2677.

[6] Kroll, T., Paukstadt, U., Kreidermann, K., & Mirbabaie, M. (2019, June). Nudging People to Save Energy in Smart Homes with Social Norms and Self-Commitment. In ECIS.

[7] Kahneman, D., & Tversky, A. (2013). Prospect theory: An analysis of decision under risk. In Handbook of the fundamentals of financial decision making: Part I (pp. 99-127).

[8] Simon, H. A. (1955). A behavioral model of rational choice. The quarterly journal of economics, 99-118.

[9] Heukelom, F. (2007). Kahneman and Tversky and the origin of behavioral economics.

[10] Morvan, C., & Jenkins, W. J. (2017). An analysis of Amos Tversky and Daniel Kahneman's judgment under uncertainty: Heuristics and biases. Macat Library.

[11] Madrian, B. C., & Shea, D. F. (2001). The power of suggestion: Inertia in 401 (k) participation and savings behavior. The Quarterly journal of economics116(4), 1149-1187.

[12] Madrian, B. C., Hershfield, H. E., Sussman, A. B., Bhargava, S., Burke, J., Huettel, S. A., ... & Shu, S. B. (2017). Behaviorally informed policies for household financial decisionmaking. Behavioral Science & Policy3(1), 27-40.

[13] Widjaja, I., Arifin, A., & Setini, M. (2020). The effects of financial literacy and subjective norms on saving behavior. Management Science Letters10(15), 3635-3642.

[14] Cialdini, R. B., & Goldstein, N. J. (2004). Social influence: Compliance and conformity. Annu. Rev. Psychol.55(1), 591-621.

[15] Gneezy, U., & Rustichini, A. (2000). Pay enough or don't pay at all. The Quarterly journal of economics115(3), 791-810.

[16] Lerner, J. S., Li, Y., Valdesolo, P., & Kassam, K. S. (2015). Emotion and decision making. Annual review of psychology66(1), 799-823.

[17] Thaler, R., & Sunstein, C. (2008). Nudge: Improving decisions about health, wealth and happiness. In Amsterdam Law Forum; HeinOnline: Online (p. 89).

[18] Milkman, K. L., Patel, M. S., Gandhi, L., Graci, H. N., Gromet, D. M., Ho, H., ... & Duckworth, A. L. (2021). A megastudy of text-based nudges encouraging patients to get vaccinated at an upcoming doctor’s appointment. Proceedings of the National Academy of Sciences118(20), e2101165118.

[19] Hausman, D. M., & Welch, B. (2010). Debate: to nudge or not to nudge. Journal of Political Philosophy18(1).

[20] Sunstein, C. R. (2017). Nudges that fail. Behavioural public policy1(1), 4-25.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...