مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 21
عن القرى التنموية وأبعادها
من المعروف أن القرى تمتاز بهوائها النقي، ومساحاتها الخضراء، وعدد السكان القليل، وتوفر المواشي، والروابط القوية بين سكان القرية الواحدة، لكن على الجانب الآخر فإن القرى غالباً ما تعاني من ضآلة في فرص العمل، وصعوبة الطرقات خاصة في الشتاء، وقلة المدارس، وندرة البنى التحتية، وافتقار لأبسط المقومات بدءاً من شبكات المياه والصرف الصحي وشبكات الكهرباء والإنترنت والمواصلات، ووصولاً إلى المباني والجامعات والمستشفيات، وحينما نتحدث عن القرى التنموية، فإننا نعني النهوض بهذه القرى وتطويرها ودعمها بمختلف الوسائل والمشروعات لتحسينها، وتحسين وضع سكانها وتوفير فرص عديدة لهم، وزيادة دخلهم بنحو مستدام، والذي يعود بإيجابية عليهم وعلى قراهم، وخاصة للذين يقطنون في القرى النائية.
وفي هذا المقال نستعرض مفهوم القرى التنموية وظهوره كمصطلح، وأبعاد التنمية الريفية المتمثلة في البعد الاقتصادي، والاجتماعي، والبيئي، ويختم المقال الحديث عن أهمية القرى التنموية في تحقيق التنمية المستدامة.
مفهوم القرى التنموية
لا يزال مفهوم القرى التنموية أو التنمية القروية من المفاهيم الحديثة، وهناك العديد من النماذج، التي بدأت بتطبيق هذا المفهوم، كقرية العلا في السعودية، والتي حوِّلت إلى وجهة سياحية بعد تنفيذ مشروعات عديدة فيها (كافتتاح قاعة للمرايا، وإطلاق مجموعة منتجعات، وتطوير المطار فيها، وإطلاق محميات ضخمة وغيرها...)، وقرية وأولوسياتا في أندونيسيا والتي نفِّذت فيها مشروعات متعلقة بتحسين البنية التحتية والصرف الصحي، بالإضافة لدعم السياحة البيئية والزراعية.
وبذلك يمكن تعريف القرية التنموية بأنها:
مجتمع ريفي يشتمل على كل الخدمات المتوفرة في المناطق الحضرية، كالتعليم، والرعاية الصحية، والسياحة وغيرها، ويعمل سكانها في مهن متعددة، كالزراعة، وتربية المواشي، والصناعات اليدوية، معتمدين على طرق مستدامة وصديقة للبيئة، تحقق لهم مصادر للدخل تضمن عيشهم بكرامة.
أبعاد التنمية القروية:
البعد الاقتصادي:
إن إحداث مشروعات مدرة للدخل في القرى تسهم في تحسين عدة جوانب من الناحية الاقتصادية، منها:
- أولاً: زيادة دخل الأفراد: إن زيادة الدخل اليومي للفرد سيحسن من رفاهه الاقتصادي، ويعينه على تلبية احتياجاته واحتياجات عائلته وعيش حياة كريمة، والذي سينعكس لاحقاً على مستوى سعادته أيضاً، يقول الخبير الاقتصادي السويسري Bruno Frey في كتابه
"Happiness: A Revolution in Economics": "إن الناس الذين لديهم دخل أفضل هم أكثر سعادة"، وأتفق حقيقة، فعندما يصبح الإنسان قادراً على الإنتاج والوقوف على قدميه، والأكل من كد يمينه، لا تؤرقه لقمة الغد، فيصبح مكتفياً ذاتياً، وتزيد إنتاجيته ودخله، تزيد سعادته، وخاصة إذا كان معيلاً لعائلة، لأننا حينما نتحدث في سياق الأرياف، فإن عدد الأفراد في العائلة الواحدة يكون أكبر، من ثم الضغط الاقتصادي على الشخص المعيل يكون أعلى، إن لم يكن هناك مشروع يجعله يتكسب ويعف نفسه وعائلته منه.
- ثانياً: تشجيع السياحة: إن الاعتناء بالأرياف واستثمار الموارد الموجودة فيها سيجعل منها وجهات سياحية بامتياز، فجميعنا يعلم أن هناك الكثير من الأرياف الغنية بالمناطق الأثرية، والمساحات الخضراء أو الصحراوية المهملة، والتي يمكن إنشاء كثير المشروعات فيها، وجعلها وجهات سياحية للناس من شتى بقاع العالم، وهذا بدوره يعود بالنفع الاقتصادي على السكان من جهة من خلال إنعاش الحركة وتأمين الكثير من فرص العمل، وعلى الدولة من جهة أخرى من خلال العائد السياحي على هذه الأرياف.
- ثالثاً: فرصة للتجارة الداخلية والخارجية: بالنسبة للجانب التجاري فإن التنمية الريفية ستفتح الباب للعديد من التبادلات التجارية سواء داخل البلد نفسه وهذا سيلعب دوراً كبيراً في الإنتاج المحلي، أو من خلال التعامل مع بلدان خارجية، وذلك فرصة لتوطيد العلاقات وتوفير احتياجات الأفراد المختلفة وزيادة أرباح الدولة.
البعد الاجتماعي:
هنا أود التطرق لجانبين:
الأول: تقليص الفوارق بين سكان المدن وسكان الأرياف: من المحزن أنه مع التطور والتقدم الواسع الذي تعيشه المدن فإن الأرياف تشهد حالة من التهميش والنسيان، والذي بدوره يفكك روابط العلاقات بين سكان كلا المنطقتين، لكن عند التوجه لتنمية الأرياف وإعطائها الاهتمام الكافي، فإن ذلك سيقلل من هذه الفجوة، ويشجع أكثر على الحياة في الريف.
الثاني: حسب تقرير سابق أجرته الأمم المتحدة: إن أكثر من 50% من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول عام 2007[A1] ، ما يوحي بظاهرة يطلق عليها "تكدس المدن"، والتي نعني بها ارتفاع نسبة الناس في المدن بنحو كبير يفوق استيعابها، والسبب في ذلك أن غالبية الناس تتجه للعيش في المدينة، بسب كثرة الخدمات المتوفرة، وتيسر أمور المعيشة فيها في مختلف القطاعات (الصحي، التعليمي، التربوي، الغذائي...)، عدا عن فرص العمل العديدة والمتنوعة، إن هذه المشكلة بقدر ما هي أزمة بقدر ما يمكن أن تكون دافعاً للاعتناء بالأرياف وتشجيع السكن فيها، ومن ثم إنقاذ المجتمع من المشكلات البيئية والانعكاسات السلبية، التي ستنتج عن الارتفاع السكاني الهائل الذي تشهده المدن.
البعد البيئي:
من المؤكد أن التنمية الريفية هي أمر مهم ولها الكثير من الإيجابيات كما ذكرنا آنفاً، لكن يجب الانتباه ألا يكون ذلك على حساب البيئة والضرر بها، فجميعنا يعلم المشكلات البيئية الجمة التي نتجت عن النمو الاقتصادي والتوسع العمراني (كانبعاث الغازات الدفيئة، التصحر، انقراض الكثير من الحيوانات، التلوث بكل أشكاله، شح المياه... وغيرها) لذلك ومن أجل عدم تكرار هذا السياق مجدداً، والحد من زيادة المشكلات البيئية فإنه من المهم استغلال الموارد الطبيعية في الأرياف لتحقيق النمو فيها.
أهمية القرى التنموية في تحقيق التنمية المستدامة:
إن أهداف التنمية المستدامة (SDGs) حسب ما تبنتها كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 2015 هي 17 هدفاً تُحقَّق بحلول عام 2030، وهذه الأهداف هي:
(ملاحظة للمصمم: يرجى وضع أهداف التنمية المستدامة الملونة في "صورة" يمكن أخذها من الانترنت)
القضاء على الفقر - القضاء التام على الجوع - الصحة الجيدة والرفاه - التعليم الجيد - المساواة بين الجنسين - المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي - طاقة نظيفة وميسورة الكلفة - العمل اللائق والنمو الاقتصادي - الصناعة والابتكار والهياكل الأساسية - الحد من أوجه عدم المساواة - مدن ومجتمعات محلية مستدامة -الإنتاج والاستهلاك المستدام - العمل المناخي - الحياة تحت الماء - الحياة في البر - السلام والعدل والمؤسسات القوية – عقد الشراكات لتحقيق الأهداف.
وتلعب كل تلك الأهداف في مشروعات القرى التنموية دوراً مهماً، وذلك من خلال توفير فرص العمل، وإدارة ثرواتها، وتعزيز قطاع الصحة في الريف ودعمه، وبناء المدارس ودعمها، وبناء الجامعات، ونشر الوعي بحقوق كلا الجنسين، وإصلاح شبكات المياه والصرف الصحي، وتوفير مياه الشرب، والاعتماد على طاقة الرياح والطاقة الشمسية وغيرها من الموارد المتجددة، وتشجيع الابتكار والإبداع، وتوجيه المؤسسات للاستثمار في الأرياف.
في الختام... تعد التنمية القروية من الأسباب التي تلعب دوراً مهماً في نهضة الأرياف، وتساهم في حل العديد من المشكلات التي تواجهها الأرياف، وبالاهتمام بها ودعمها ستخرج من حالة التهميش إلى التقدم وتحقيق النفع لها وللسكان القاطنين فيها.
[A1]تاريخ قديم