مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 20
عصر الإدمان: كيف تحولت العادات السيئة إلى تجارة كبيرة
إن كتاب "عصر الإدمان: كيف أصبحت العادات السيئة تجارة كبيرة" بقلم ديفيد ت. كورترايت يستكشف تاريخ الصناعات ونموها، التي تستفيد من السلوكيات الإدمانية للبشر، لتحقيق الأرباح، يقدم الكاتب نظرة تحليلية حول التقاطع بين الرأسمالية وعلم النفس البشري والصحة العامة، والذي شكل ما يعرف بمفهوم "الرأسمالية الحوفية Limbic Capitalism"، المفهوم القائل: إن الرأسمالية الحديثة غالباً ما تستهدف مراكز المتعة في الدماغ لتحقيق الربح، موضحاً كيف أدت إلى تنمية الإدمان والاستفادة منه.
وفي هذا المقال سنقدم قراءة موجزة لهذا الكتاب، لتسليط الضوء على أهم ما جاء فيه، وكيف أدت بعض الممارسات التجارية إلى تنمية الإدمان والاستفادة منه.
يبدأ كورترايت بتعريف الإدمان بأنه ليس فقط الإدمان المادي الملموس، حين يكون إدماناً على مواد، مثل المخدرات والكحول، ولكن أيضاً قد يكون الإدمان معنوياً في السلوكيات، مثل المقامرة والتسوق واستخدام الإنترنت، ويقدم مفهوم "الرأسمالية الحوفية Limbic Capitalism"، إذ تستهدف الشركات مراكز المتعة في الدماغ لتحقيق الربح، وهذا النموذج منتشر وله آثار عميقة في المجتمع ورفاهية الفرد.
كما يشير كورترايت في كتابه إلى أن: "الناس عاشوا حياة فيها القليل من إغراءات الإدمان التي جاءت في مقدمتها السجائر والكحول والمخدرات"، فكان تأثير هذه الإغراءات قوياً حيث انتشرت السجائر والكحول انتشاراً واسعاً، إذ بيع نصف تريليون سيجارة في 1962، ولكن على مدار العقود الستة التالية، امتلأت الحياة بكثير من الإغراءات، فتضاعفت الوجبة الأمريكية العادية حجماً، وارتفعت مستويات السكر والملح في الأطعمة الخفيفة الرخيصة واسعة الانتشار ارتفاعاً مهولاً. وفي عصر التقنية الحديثة، منحتنا الشاشات إمكانية الوصول السريع إلى التسوق، وإلى التطبيقات التي تحفز أجساد مستخدميها على إفراز جرعات من الدوبامين مع كل "لايك" وإعادة تغريد، وبحلول 2019 وعندما ظهر كتاب كورترايت، صار البشر غارقين في بحر من الإغراءات.
يكاد يكون من المستحيل أن يجد المرء مفراً من الوقوع في شباك هذه الإغراءات، التي صارت كل تفصيلة فيها تلامس أكبر موطن من مواطن القوة والضعف لدينا، وهو جهازنا الحُوفيّ، "ذلك الجزء من الدماغ المسؤول عن المشاعر ورد الفعل السريع، في مقابل الأجزاء الأخرى المسؤولة عن التفكير الهادئ والمتأني" (ص 6). ويشتمل الجهاز الحُوفيّ على سلسلة من الدوائر العصبية، التي تدفعنا إلى الإحساس بالمشاعر الإيجابية، التي تبث المتعة في حياتنا، ويشبه في عمله حلوى مادلين، التي ذكرها الكاتب مارسيل بروست، إذ يربط بين المتعة والتحفيز والذاكرة طويلة المدى، فعند شعورنا بإحساس جيد تجاه شيء ما، يدفعنا الجهاز الحُوفيّ لتذكره والبحث عنه مرة أخرى.
بيد أن الجهاز الحُوفيّ يجعلنا أيضاً أهدافاً سهلة لأعداد متزايدة ممن يلقون بهذه الإغراءات أمامنا، حيث تتشكل في التجارب الممتعة أو المحفزة بهدف إدمانها والعودة للمزيد (ص 224). فيكون هذا الطُعم مصحوباً بكل ما هو من شأنه أن يمنحنا شعوراً بالسعادة، والأهم من ذلك المواد التي تساعد على الهرب من مشاعر الحزن والاكتئاب أو تخفف من أثرهما، فتصبح الأحاسيس السعيدة والإيجابية، في النظام الذي يسميه كورترايت بـ "الرأسمالية الحوفية"، تواجهنا يومياً في كل وقت وفي كل زاوية من زوايا عالمنا، من خلال "نظام تجاري برغم تقدمه تقنياً، إلا أنه متأخر اجتماعياً" (ص 6). وهذا ما يجعل حياة الإنسان العادي في خطر داهم، إذ يرى النظام الصناعي العالمي القوي الأفراد مجرد مستهلكين، ويسعى إلى سلب أكبر قدر ممكن من أموالهم، من خلال بيعهم الشيء أكثر من مرة، بغض النظر عما إذا كان ذلك مفيداً لهم أم لا. ويكتب كورترايت قائلاً: "تريد كل شركة أن تبيع منتجاً مغرياً لا يقاوم، وقد يكون المنتج قانونياً أو غير قانوني أو مزيجاً من كليهما" (ص 229). ويرى كورترايت أنه بإتاحة المنتجات الباعثة على المتعة على نطاق كبير ومستمر، تعطل الرأسمالية الحوفية عملية الاستجابة البيولوجية للجسم، التي تكون فيها بعض المركبات الكيميائية مفيدة بجرعات صغيرة، ولكنها تصبح ضارة أو قاتلة إن كانت بكميات كبيرة، مما يؤثر في الصحة العامة ويضر بها.
ويتابع كورترايت قوله: "إن الابتكار في عصر التمدن قد حول المنتجات الباعثة على المتعة ووسائل التسلية إلى سلاح، وإن عصر الإدمان هو النتيجة الحتمية" (ص 9).
وهذا ما يؤدي بنا إلى واحدة من أهم أفكار كورترايت، وهي أن مفهوم "الإدمان" يتجاوز بكثير القضايا المعتادة المرتبطة بالنشاط الإجرامي أو النسبية الأخلاقية أو نموذج المرض، فقد بدأت صنوف الإدمان "في شكل رحلات يبدؤها المرء عادة دون تخطيط نحو نهاية ضارة في سلسلة الاستهلاك". وبعبارة أخرى: فنحن جميعاً في عالم الرأسمالية الحوفية مستهلكون، وأولئك الذين يعانون من الإدمان قد أثقلهم استهلاكهم. ويرى كورترايت أيضاً أن "الإدمان عادة أصبحت شديدة السوء، بمعنى أنها صارت عادة عصية ومسيطرة ومضرة لنفسك وللآخرين" (ص 3). وعلى الرغم من أن هذا الأمر يؤذي الفرد، فإنه يعود بالنفع على الشركات، ولهذا السبب تحديداً يخشى كورترايت أن الرأسمالية الحوفية، ومستويات الإدمان الخطيرة التي تسببها، وجدت لتبقى.
وفي هذا السياق يتحرك كورترايت بعقل الخبير وثقة العارف، فهو أحد أهم المؤرخين الأمريكيين، الذين تناولوا في كتاباتهم تاريخ تعاطي المخدرات والكحول لعقود، ليكشف كيف أن سعينا وراء المتعة والإحساس بالنشوة قد أوجد بيئة تجارية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، حيث تسارع رأسمالية السوق الحرة المفرطة بإغراقنا بالمواد والتجارب المؤدية للإدمان، بغض النظر عن تأثيراتها الاجتماعية السلبية التي لا مفر منها. فإن "الثمن الباهظ يتحمله من فلتت أهواؤهم الاستهلاكية من بين أيديهم، والذين يصادف أيضاً أنهم الفئات الأكثر ضعفاً اجتماعياً وجينياً، حيث تعيد الرأسمالية الحوفية حياتنا الاجتماعية إلى الوراء". (ص 227).
وفي النهاية نجد أن:
الكاتب في كتابه "عصر الإدمان: كيف أصبحت العادات السيئة تجارة كبيرة" يوجه تحذيرات خطيرة، لكنه يفعل ذلك بأسلوب رائع، تغلب عليه روح الدعابة، حيث يستعين كورترايت بأساليب بلاغية غير تقليدية في التعبير عن آرائه، لكنه كان قليل الحلول، ولم يسلط الضوء على نماذج ممن نجحوا في الفكاك من أسر الرأسمالية الحوفية، فبرامج الرعاية الصحية للأطباء (PHPs)، على سبيل المثال، أثبتت فاعلية كبيرة في انتشال الأفراد من براثن إدمان المخدرات، وكذلك حركات مناهضة لثقافة الاستهلاك ما فتئت تدق ناقوس الخطر منذ عقود محذرة من ويلات الرأسمالية.
وبالرغم من ذلك يبقى الإسهام الجوهري لهذا الكتاب ذا قيمة كبيرة ولا تُقدر بثمن، فكورترايت، الذي طالما تصدر المشهد الأمريكي بوصفه الصوت الرائد في سرد تاريخ المخدرات في أمريكا، يكشف الآن النقاب عن كيفية تحول الإدمان، في ظل الرأسمالية الحوفية، إلى أداة تسويقية فتاكة لمجموعة كبيرة من المنتجات، تلك التي تضمن ولاء العملاء، ولاء يستمر مدى الحياة. غير أن هناك ضوءاً في نهاية النفق، فلو استطعنا أن ندرك حقيقة وقوعنا ضحية لاستغلال الشركات والممارسات التجارية، التي ترانا أجهزة متنقلة للصراف الآلي أكثر من كوننا بشراً، فإن أقوى خطوة يمكننا اتخاذها هي أن نكف عن الانصياع لإغراءات ما يُعرض علينا للشراء.