الابتكار الاجتماعي
طوفان البيانات يتسبب في نشوء اقتصاد جديد

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 16

طوفان البيانات يتسبب في نشوء اقتصاد جديد

يغزو جيش من النسخ المتطابقة العالم، وكان أولها نشأة النسخ الرقمية لمحركات الطائرات والعنفات الريحية والمعدات الثقيلة الأخرى، وتنضم إليها الآن في العالم الافتراضي أطياف إلكترونية لأشياء أصغر وأكبر، من فرش الأسنان وإشارات المرور وصولاً إلى متاجر ومصانع بأكملها، وحتى البشر بدأوا في تطوير ذات ثانية لهم، فعلى سبيل المثال: يخطط الدوري الوطني لكرة القدم في أمريكا لتصميم تجسيد افتراضي لكل لاعب.

فهذه "التوائم الرقمية" كما يسميها المهووسون بالتكنولوجيا، تتعدى كونها مجرد نسخ طبق الأصل، إذ يمكنك اعتبارها ظلالاً مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأنفسهم المادية بفضل العديد من أجهزة الاستشعار والاتصال اللاسلكي، وتنتج كل يوم كميات هائلة من البيانات، فإذا حدث شيء في العالم الحقيقي، فسينعكس بسرعة في عالم الظل هذا.

 بل إن بعض التوائم الرقمية تكون قوانين الطبيعة مبرمجة فيها بالفعل، وهي تتضاعف بصورة قاعدة بيانات لكل ما حدث للأصل، ومن أهم التطبيقات أنه بات بإمكانهم النظر إلى مستقبلهم، فمثلاً: سيتمكن المدربون الرياضيون من إجراء عمليات محاكاة، والتنبؤ بالذي قد يسبب إصابة لأحد الرياضيين، بالإضافة إلى تعديل إجراءات التدريب لتجنب المشاكل المحتملة.

إن التوائم الرقمية ليست سوى جزءاً واحداً من تحول كبير في الاقتصاد العالمي، فهي تستوطن "عوالم المرآة" التي تنبأ بها ديفيد جيليرنتر David Gelernter من جامعة ييل Yale منذ فترة طويلة، وهذه العوالم هي بُعد جديد للحياة البشرية يعتمد على البيانات ويتغذى عليها.

 وعاماً تلو الآخر، يجري تمثيل ومحاكاة المزيد من أجزاء العالم المادي في العالم الافتراضي، وهو تمثيل معكوس لنظرية أفلاطون Plato القائلة "إن كائنات العالم الحقيقي هي تجسدات غير كاملة لكينونتها الحقيقية في العالم الروحاني"، وإن ظهور عوالم المرآة هذه سيسفر عن نشوء اقتصاد متميز، وسيتطلب هذا التطور أسواقاً ومؤسسات وبنية تحتية وأعمالاً جديدة، وترتيبات جيوسياسية كذلك، لذلك فإن آفاق ومخاطر "اقتصاد البيانات" الجديد ستكون محور هذا المقال.

إن عوالم المرآة ليست أبداً مجرد تمثيلات رياضية للعوالم الحقيقية، بل إنها تعطي معنىً جديداً للقول المأثور "المعرفة قوة"، حيث يصبح للنسخ الرقمية بشكل متزايد وجود خاص بها مبني على العالم المادي، إذ يمكن استخدامها لتحسين كل ما قد يخطر على البال، من أشياء بسيطة مثل صوتيات سماعة الرأس وصولاً إلى أشياء أكثر تعقيداً مثل شبكة السكك الحديدية الوطنية لدولة بأكملها.

  وستمكّن هذه النسخ كل أنواع خوارزميات الذكاء الإلكتروني من التعرف على الأشياء والوجوه، وفهم الكلام، وتمييز الروائح، وبالإضافة إلى ذلك فهي تقدم نماذج أعمال جديدة لم تكن ممكنة فيما مضى: فمثلاً لماذا تشتري معدات ثقيلة إذا كان يمكن قياس التآكل والتلف الحاصل لها بدقة وبالتالي يمكن استئجارها بالدقيقة؟

من المعروف أن أفضل بداية لتحليل أي اقتصاد هي قياسه، إلا أنه لا يزال يتعين علينا تطوير منهجية صلبة من أجل هذا، حيث إن اقتصاد البيانات كبير بالفعل، فقد حاولت وكالة الإحصاء الكندية الحكومية في العام الماضي تقدير القيمة الإجمالية لبيانات الدولة (مخزونها الخاص بالإضافة إلى البرامج والملكيات الفكرية ذات الصلة) وكانت قيمتها ما بين مائة وسبعة وخمسين مليار دولار كندي ومائتين وثمانية عشر مليار دولار كندي (أي ما يعادل مئة وثمانية عشر مليار دولار، ومئة وأربعة وستين مليار دولار)، فإذا كان الرقم قريباً من ذلك -وهو تساؤل معتبر- فقد تكون قيمة جميع البيانات في أمريكا التي يبلغ إجمالي الناتج المحلي فيها اثني عشر ضعفاً من كندا، بين واحد وأربعة أجزاء تريليون دولار وتريليوني دولار، وهو يمثل ما يقارب الخمسة بالمائة من مخزون رؤوس الأموال المادية الخاص بأمريكا.

Asset 56@2x.png

وإذا أخذنا حجم البيانات المولدة حول العالم كمعيار، فإن هذا الاقتصاد الجديد ينمو بسرعة، فقد تمت سلسلة أول جينوم بشري (ما يعادل ثلاثة غيغابايت من البيانات، والتي تملأ قرص DVD تقريباً) قبل سبعة عشر عاماً. وفي أبريل قالت شركة 23 وأنا andMe23 -وهي شركة تُعنى بتقديم اختبارات جينية- "إنه قد بات لديها أكثر من عشرة ملايين عميل".

 وتنتج أحدث المركبات ذاتية القيادة ما يصل إلى ثلاثين تيرابايت لكل ثماني ساعات من القيادة (أي حوالي ستة آلاف وأربع مائة قرص DVD)، وقدرت مؤسسة البيانات الدولية International Data Corporation -وهي شركة أبحاث سوقية- أن العالم سيُنتج حوالي تسعين زيتابايت (ما يعادل تسعة عشر تريليون DVD) في هذا العام والعام المقبل، وهذه الكمية هي أكثر من جميع البيانات التي أُنتجت منذ ظهور الحواسيب.

ولكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة من النمو السريع لاقتصاد البيانات هو التوترات التي يثيرها والمبادلات التي يجريها، فمن الناحية الاقتصادية له، يمكن اعتبار البيانات بشكل أو بآخر مورداً طبيعياً كالنفط، حيث يمكن امتلاكه وتداوله (ووصفت البيانات بأنها "المورد الأكثر قيمة في العالم" في عام 2017)، ولكن البيانات لها أيضاً سمات الصالح العام، أي أنه يجب استخدامها على أوسع نطاق ممكن لتعظيم الثروة وتحقيق الرفاه، ولذلك يجب إنشاء مؤسسات جديدة لتسلط الضوء على التوترات المثارة وهو أمر يشبه ما حصل مع التوترات التي حدثت بسبب الملكية الفكرية.

وإن البنية التحتية لاقتصاد البيانات ممزقة بين قطبين، حيث تتكون في الوقت الحالي بصورة أساسية من مراكز بيانات هائلة مليئة بالخوادم تخزن البيانات وتعالجها ضمنها، ولكن هذه المركزية لها عيوب، ولا سيما استهلاكها لكميات هائلة من الطاقة وخلقها لمخاطر على الخصوصية، وفي المقابل يوجد حالياً حركة معاكسة لا مركزية، حيث تزداد كمية البيانات التي تُعالَج على "الحافة"، أي أقرب إلى مكان جمعها.

وتواجه الشركات كذلك انقلاباً رقمياً، حيث ترغب العديد من الشركات في استخدام البيانات لدمج تطبيقات الشركة الخاصة بها بالذكاء الاصطناعي، ولذلك لجأوا إلى بناء مستودعات مركزية تشبه "بحيرات من البيانات" والتي تحتوي على جميع أنواع المعلومات الرقمية، إلا أن استخدام هذه الأنظمة قد يكون محدوداً وذلك في حال كانت الشركة وموظفوها يفتقرون إلى المهارات المطلوبة، أو يرفضون تصديق البيانات أو يرفضون مشاركتها داخلياً.

وأخيراً، فلن تكون الجغرافيا السياسية للبيانات بسيطة هي الأخرى، فلقد افترض عمالقة الإنترنت -خاصة- أن اقتصاد البيانات سيكون من الشؤون العالمية، حيث تتدفق المواد الرقمية إلى المكان الذي تعالج البيانات فيه بصورة أفضل لأسباب فنية أو أسباب تتعلق بالتكلفة، ومع ذلك تؤكد الحكومات بصورة متزايدة على "سيادتها الرقمية"، كما وتطالب بألا تغادر البيانات بلدها الأصلي.

وسيتناول هذا المقال هذه الموضوعات الواحد تلو الآخر، وسيختتم بمناقشة ما قد يكون أكبر معضلة في عالم المرآة: خطر أن توزع الثروة التي يولدها عالم المرآة توزيعاً غير متكافئ، بل وتوزع بصورة أسوأ مما هي عليه في التوأم المادي.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...