الابتكار الاجتماعي
الذكاء الاصطناعي في خدمة التنمية المستدامة

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 17

الذكاء الاصطناعي في خدمة التنمية المستدامة

   عبير العبيد

تقول أودري أزولاي المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، في مقال لها بعنوان "نحو أخلاقيات الذكاء الاصطناعي": إننا نقف عند فجر حقبة جديدة وهي حقبة "الذكاء الاصطناعي" وما تحمله من تغيرات كبيرة، تتسارع لتغير حياتنا والطرائق التي نعمل ونتعلم بها، وتضع حدوداً جديدة للحضارة الإنسانية، تظهر معالمها مستقبلاً. فما الذكاء الاصطناعي؟ وما مراحل تطوره؟ وكيف تُوظف تقنياته في تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟

سنحاول من خلال هذا المقال الإجابة عن هذه التساؤلات وتقديم إحاطة عملية حول اعتماد جهات عدة تقنيات الذكاء الاصطناعي في التخطيط والتنفيذ لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

تعريف الذكاء الاصطناعي

ظهرت تعريفات عدة للذكاء الاصطناعي، لعل أشملها التعريف الذي أطلقه جون ماكارثي، عالم متخصص في علوم الحواسيب، وأحد مؤسسي الذكاء الاصطناعي والمعروف أيضاً باسم "أبو الذكاء الاصطناعي" حيث وصفه بأنه:

"علم وهندسة صنع الآلات الذكية، وخاصة برامج الحواسيب الذكية، بحيث تحاكي علاقة هذه البرامج بالحواسيب علاقةَ الدماغ البشري بجسم الإنسان، ولا يقتصر الذكاء الاصطناعي على الأساليب التي يمكن ملاحظتها بيولوجياً، بل يتعداها للتفكير بأسلوب تجريدي"

التطور التاريخي للذكاء الاصطناعي

في عام 1٩٥٥م قدم جون ماكارثي مقترحاً للمشاركة في مؤتمر دارتموث الذي سيعقد عام ١٩٥٦، وقد قدم في هذا المقترح صياغة معرفية لمفهوم الذكاء الاصطناعي، وذلك بهدف مناقشة هذا المفهوم وأبعاده في المؤتمر، ومعرفة ما إذا كانت هناك طريقة لإنشاء آلة يمكنها التفكير بأسلوب تجريدي، وحل المشكلات وتطوير نفسها تطويراً يحاكي طبيعة الدماغ البشري وقدرته على التعلم، وقد زعم جون من خلال وثيقته البحثية أن "كل جانب من جوانب التعلم، أو أي صفة من صفات الذكاء يمكن – من حيث المبدأ- وصفها بدقة بحيث يمكن صنع آلة لمحاكاتها"، ولكن للأسف لم يرق المؤتمر لمستوى توقعات ماكارثي، ولم يكن هناك اتفاق على الأساليب القياسية لبناء آلة ذكية، ولكنه حفز إجراء الأبحاث حول الذكاء الاصطناعي، ففي المدة ما بين ١٩٥٧ و ١٩٧٤، ازدهر الذكاء الاصطناعي حيث أصبح بإمكان أجهزة الحواسيب تخرين المزيد من المعلومات، وأصبحت أسرع، وأرخص، وأسهل في الوصول إليها، وتحسنت خوارزميات التعلم الآلي، وزادت معرفة الإنسان بالخوارزمية التي يجب تطبيقها على مشكلته، ونتيجة لهذه النجاحات بدأت الوكالات الحكومية الأمريكية مثل وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة (DARPA) بتمويل أبحاث الذكاء الاصطناعي في الكثير من المؤسسات بهدف الحصول على آلة يمكنها نسخ اللغة المنطوقة وترجمتها، بالإضافة إلى معالجة البيانات عالية الإنتاجية.

ونتج عن الأبحاث التي أجريت جملة من العقبات كان أكبرها الافتقار للقوة السحابية، حيث لم تتمكن أجهزة الحواسيب من تخزين معلومات كافية أو معالجتها بالسرعة الكافية، ومع تضاؤل التمويل تباطأ البحث لسنوات عدة.

ومع بداية الثمانينيات عاد ولمع نجم الذكاء الاصطناعي، حيث روَّج جون هوبفيلد وديفيد روميلهارت تقنيات "التعلم العميق" التي جعلت أجهزة الحواسيب تتعلم باستخدام الخبرة، ومن جانب آخر قدم إدوارد فيجنباوم أنظمة خبيرة تحاكي عملية صنع القرار لخبير بشري، حيث يطلب البرنامج من خبير في مجال ما كيفية الاستجابة لعدد من الحالات، وبمجرد أن تعلم البرنامج كيفية الاستجابة لكل حالة تقريباً، أصبح بإمكان غير الخبراء في هذا المجال تلقي المشورة من البرنامج، وقد استخدمت الأنظمة الذكية على نطاق واسع في الصناعات، فقد استُثمر ٤٠٠ مليون دولار بين ١٩٨٤ و ١٩٩٠  بهدف إحداث ثورة في معالجة الحواسيب وتنفيذ البرمجة المنطقية وتحسين الذكاء الاصطناعي، ولكن لسوء الحظ لم تتحقق معظم هذه الأهداف وخرج الذكاء الاصطناعي عن دائرة الضوء.

وفي عام ١٩٩٧ هُزم بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف أمام برنامج الحاسوب “Deep Blue” من IBM، وهو برنامج يلعب الشطرنج، وكانت هي المرة الأولى التي يخسر بها بطل العالم في لعبة الشطرنج أمام جهاز الحاسوب، وكان هذا الحدث هو الفصل لانطلاق تطبيقات جديدة في الذكاء الاصطناعي والتي تظهر بشكل متسارع وأعدادها في تزايد، وها هو تطبيق Chat GPT يقلب موازين طرائق تعليمية ومهنية كثيرة ويخلق معه الكثير من السجالات حول اعتماده من عدمه، ولكنه لا يخفي التطور البارز للآلة مقارنة بالإنسان.

الذكاء الاصطناعي في خدمة التنمية المستدامة

ووفقاً لدراسة نشرت في المجلة العلمية البريطانية Nature، يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في تحقيق ٧٩٪ من أهداف التنمية المستدامة SDGs من خلال المساعدة في التنبؤ بالأخطاء، وتخطيط أهداف التنمية المستدامة بأسلوب أكثر فاعلية، ويمكن أن يصبح أداة رئيسة لتسهيل الاقتصاد الدائري، وهو نظام اقتصادي يهدف إلى القضاء على الهدر والاستخدام المستمر للموارد، وبناء مدن ذكية تستخدم مواردها بكفاءة.

ومن الأمثلة لمساهمة الذكاء الاصطناعي في الاستدامة إدارة حركة المرور، حيث يسمح تطبيق الذكاء الاصطناعي في التنقل الحضري بالتنبؤ بالاختناقات المرورية واقتراح طرق بديلة يمكن أن تسلكها السيارة حسب المنطقة والوقت، وهذا يساعد شركات النقل على تنظيم توافر المركبات للمواطنين بناء على احتياجاتهم، بشكل يسهل التنقل، ويقلل هدر الوقت، كما يقلل من الانبعاثات الناتجة عن الحركات المرورية ومن ثم تحقيق أثر إيجابي في البيئة.

ويمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة الطاقات المتجددة، حيث تستخدم الشركات هذه التقنية لمعرفة التوافر اليومي لمنشآت توليد الطاقة (توربينات الرياح، والمحطات الهيدروليكية، وما إلى ذلك) من أجل التنبؤ بإنتاج الطاقة المطلوبة في الأيام المقبلة، وهذا ينتج عنه منع حدوث الأعطال (أو تقليلها)، بالإضافة إلى إمكانية تشخيصها.

 وفي مجال الزراعة كان للذكاء الاصطناعي كلمته في تحسين الإنتاجية والتقنيات التي تساعد على زيادتها، حيث يستخدم لجعل الري والتسميد أكثر كفاءة، وذلك بفضل مستشعرات الرطوبة ودرجة الحرارة، والتخصيب، حيث يستطيع الذكاء الاصطناعي التنبؤ باحتياجات المحاصيل، إلى جانب توفير حلول تساهم في تحقيق الاستدامة الزراعية، كاستخدام الطائرات دون طيار (الدرون) لمساعدة المزارعين على الحصول على صور للمحاصيل وإجراء تحليل طيفي لها لاكتشاف الآفات الزراعية ومكافحتها.

أما بالنسبة للصناعة يوفر الذكاء الاصطناعي أنظمة تخزين، وتصنيع، وتوزيع أكثر كفاءة، ففي التصنيع تتيح أنظمة الرؤية الاصطناعية تتبع الأخطاء في خطوط التجميع غير المرئية للعين البشرية، وكذلك أخطاء السلامة، أو الكوارث المحتملة.

وبذلك يمكننا القول: إن الذكاء الاصطناعي مفتاح أساسي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولكن من جانب آخر قد يتبادر إلى ذهننا، ماذا لو انتهكت خوارزميات الذكاء الاصطناعي حقوق الإنسان السامية، من الخصوصية، وسرية المعلومات، وحرية الاختيار...؟ ماذا لو تكررت لدينا صور نمطية اجتماعية وثقافية أنتجتها برامج الذكاء الاصطناعي؟ وأصبحنا حبيسي الإجراءات المؤتمتة بالكامل؟ كيف يمكن ضمان المساءلة في حال حرمان أي شخص أو مجتمع أينما كان في العالم من الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي؟

هذه التساؤلات أدت إلى ظهور ما يسمى "بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي" والتي مهمتها تنظيم تطورات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته بما يتوافق مع حقوق الإنسان الأساسية، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، فتعددت المؤتمرات والملتقيات حول العالم التي تتناول الذكاء الاصطناعي وكيفية الاستفادة منه في النهوض بالبشرية ورفع مستوى رفاهية الفرد، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال الحلول التي من الممكن أن يوفرها الذكاء الاصطناعي، وتجاوز التحديات المجتمعية المستعصية والمعقدة.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...