الابتكار الاجتماعي
كيف تغير العالم: رياديو الأعمال الاجتماعية وفعالية الأفكار الجديدة

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 17

كيف تغير العالم: رياديو الأعمال الاجتماعية وفعالية الأفكار الجديدة

   محمد السعيد

قد يبدو اجتثاث الفقر، ونشر الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم، والتأكد من حصول كل طفل على تعليم جيد رؤى بعيدة المنال وأحلاماً مستحيلة كحلم المدينة الفاضلة، غير أن ما يطرحه ديفيد بورنستاين David Bornstein في كتابه من أفكار ونماذج وقصص وتجارب حقيقية، لا يبدو الأمر معها مستحيلاً، فهناك من جرب ونجح وأخبر أنه بالإمكان تغيير العالم، أو على الأقل جعله مكاناً أفضل للعيش، كما فعل الكثير من الأشخاص، سلكوا طريق ريادة الأعمال الاجتماعية وساعدوا على تقديم حلول منهجية لمشكلات وتحديات اجتماعية كبيرة ومعقدة.

يتناول الكتاب المميز جداً والفريد من نوعه في مجال ريادة الأعمال الاجتماعية كما يوضِّح مؤلفه، قصصاً وتجارب لأناس حلوا مشكلات اجتماعية على نطاق واسع، ومعظمهم غير مشهورين، فهم ليسوا سياسيين أو أثرياء، بعضهم أطباء ومحامون ومهندسون، وآخرون يعملون مستشارين ومعلمين وصحفيين، وهم جميعاً جاؤوا من أماكن مختلفة، من كل أصقاع الأرض، من بنغلاديش والبرازيل وهنغاريا والهند وبولندا إلى جنوب أفريقيا وكندا والولايات المتحدة الأميركية، وما يجمعهم عملهم بصفتهم مبتكرين اجتماعيين، أو روَّاد أعمال اجتماعية، بالإضافة إلى ما يملكونه من أفكار وخبرات استخدموها لتحسين العالم وجعله مكاناً أفضل للعيش.

وخلال إعداد الكتاب كان بحث المؤلف وتركيزه عالمياً، ويوضح هذا الأمر بكون ريادة الأعمال الاجتماعية ظاهرة عالمية، ذلك إلى جانب عدم تمركز حلالي المشكلات الأكثر إبداعاً في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا أو دول الاتحاد الأوروبي فحسب، إذ يواجه الناس في شتى أنحاء العالم مشكلات وتحديات متشابهة، أنظمة تعليمية وصحية ضعيفة أو غير مجدية في كثير من الأحيان، ومخاطر بيئية، وتراجع الثقة في المؤسسات المدنية والسياسية، وفقراً مستشرياً، ومعدلات جريمة وبطالة مرتفعة.

ويوضِّح الكتاب الطريقة التي يدفع فيها رياديو الأعمال الاجتماعية التغيير المنهجي إلى الأمام، كيف يغيرون الأنماط السلوكية والتصورات، وينظر إليهم بطريقة مختلفة، حيث يراهم قوى تحويلية: أشخاصاً ذوي أفكار جديدة لمعالجة مشكلات كبرى يعملون بمثابرة من أجل تحقيق رؤاهم، وفي البلدان الأشد فقراً، يبيِّن كيف يجب عليهم أن يصلوا إلى أكبر عدد من المستفيدين مع استخدام أقل قدر من الموارد المالية والبشرية، لذلك فهم مضطرون إلى الابتكار للوصول إلى حلول فعَّالة جداً.

تستهدف القصص والتجارب والرؤى في هذا الكتاب نطاقاً واسعاً من القراء، فهي موجَّهة للجميع، لرجال الأعمال ومديري المؤسسات غير الربحية حيث سيرون كيف يخدم الرياديون الاجتماعيون عدداً كبيراً من المستفيدين بموارد محدودة، وستجد المؤسسات المانحة والقائمون على الأعمال الخيرية أفكاراً تفيدهم في تقديم المنح والهبات، كما سيكتشف السياسيون وصنَّاع القرار نماذج لحل المشكلات مع إمكانية التوسُّع فيها عالمياً، وسيكتشف الصحفيون حقلاً واسعاً من النشاط البشري لا تجري تغطيته، وقصصاً لا يجري نقلها، وتجارب مثيرة وملهمة لا يعرف العالم عنها شيئاً، أما طلاب الجامعات والمهنيون فسيكتشفون مسارات مهنية وفرصاً لحياة مهنية أفضل وأوسع، كما سيجد أساتذة الجامعات والأكاديميون أمثلة يمكنها أن تشكل دراسة حالة مفيدة لمجموعة واسعة من المساقات والفصول الدراسية، وسيكتشف المعلمون والآباء قصصاً يمكنها إلهام اليافعين وتشجيعهم.

ويخبرنا الكتاب بعد كل قصة أن الأمر يتطلب أشخاصاً مبدعين لديهم تصميم لا يلين وإرادة لا تقهر لدفع عجلة الابتكار الذي يحتاج إليه المجتمع لمعالجة مشكلاته الأكثر صعوبة، كما يكشف الكتاب للقارئ أن التغيير الاجتماعي الهام والفعَّال غالباً ما يبدأ من رائد اجتماعي مبدع، شخص تستحوذ عليه فكرة، يرى مشكلة ويتصور حلاً جديداً لها، فيأخذ بزمام المبادرة للعمل على إنجاز الحل وتحقيقه، ويجمع الموارد اللازمة ويسوق للحل ويوسِّع من نطاق عمله، ومع مرور الوقت يعمل على تحسين الحل وتعزيزه وتسويقه إلى أن يصبح ما كان يوماً ما مجرد فكرة في نطاقٍ ضيق منهجاً عملياً يُعمل به عالمياً.

ست صفات يتحلَّى بها رائد الأعمال الاجتماعية

اكتسبت تسمية "ريادي أعمال اجتماعية" شعبية في السنوات الأخيرة، وأصبح مجال ريادة الأعمال الاجتماعية مهنةً وحقلاً للإبداع والابتكار، ولهذا السبب ولغيره يعتقد المؤلف أن حقل ريادة الأعمال الاجتماعية يمتلك الإمكانية لإحداث تغييرات كبرى في مناحي حياة المجتمع كافة.

وهناك اعتقادٌ شائع بأن روَّاد الأعمال الناجحين واثقون أكثر ومثابرون أكثر من غيرهم، ومنهم رياديو الأعمال الأقل نجاحاً، وقد لا يكون ذلك صحيحاً، يذكر ديفيد بورنستاين في كتابه أن بعض الأوراق العلمية التي اطَّلع عليها قارنت بين سلوك رياديي الأعمال «الناجحين جداً» و«المتوسطين»، وخلصت إلى أن رياديي الأعمال الناجحين جداً لم يكونوا بالضرورة واثقين أكثر أو مثابرين أكثر أو مطلعين أكثر، كانت الاختلافات الرئيسية لها علاقة بنوعية الحوافز، فقد كان رياديو الأعمال الأكثر نجاحاً، هم أولئك الأكثر تصميماً على تحقيق هدف طويل الأجل كان له مغزى عميق جداً بالنسبة لهم، ووفقاً لذلك كانوا عادة أكثر منهجية في الطريقة التي كانوا يبحثون فيها عن الفرص ويستبقون العقبات والتحديات ويراقبون النتائج ويخططون للمستقبل، وكانوا مهتمين أكثر بالنوعية والكفاءة وملتزمين أكثر تجاه الناس الذين يقومون بتوظيفهم والذين يرتبطون معهم في العمل كشركاء، وأخيراً كانوا يقدرون المكاسب طويلة الأمد على المكاسب قصيرة الأمد.

لذا يعرض المؤلف في الفصل الثامن عشر ست صفات أساسية لا غنى عنها لرواد الأعمال الاجتماعية، تعينهم على بلوغ غايتهم وتحقيق ما يطمحون إليه، ودونها قد يخسرون الكثير من مواردهم وطاقتهم، ويعرض الشكل أدناه الصفات الست:

Asset 29@4x.png

1- الاستعداد لتصحيح الذات:

يمتلك رياديو الأعمال الناجحون رغبة شديدة وميلاً للتصحيح الذاتي بسبب حوافزهم، وينبع هذا الميل من ارتباطه بهدف محدد لا بمنهج أو خطة معينة، وبالمثل تمر المؤسسات الاجتماعية، كما هو الحال مع الأعمال التجارية، بعدد من العمليات التي يجري إدخال تحسينات صغيرة عليها في كل مرة، مع تطور إستراتيجياتها أو نماذج عملها استجابةً للمشكلات، والفرص الجديدة، وظروف السوق المتغيرة، وإن لم يحدث ذلك فمن غير المرجَّح أن تصل المؤسسة إلى مرحلة تكون فيها قادرة على تحقيق تأثير كبير، وتعد رغبة رياديي الأعمال في تصحيح الذات، جنباً إلى جنب مع انفتاح على السوق وتوجُّه طبيعي نحو النمو، أمراً حيوياً لعملية تصحيح الذات وفي التكيف بصورة مستمرة.

وهذا ما فعله بنك غرامين Grameen Bank عندما لاحظ وجود الكثير من المشكلات والتحديات تعيق عمله، ففي أواخر تسعينيات القرن الماضي اكتشف محمد يونس، المؤسس والمدير التنفيذي للبنك، أن هناك نقاط ضعف داخلية في نظام البنك الخاص بالإقراض كانت تسبب مشكلات في تسديد الدفعات وصعوبات لكثير من المقترضين، وقد احتاج الأمر لبضع سنوات من المدير التنفيذي ومجلس الإدارة ورؤساء الأقسام لكي يستوعبوا ويشخصوا المشكلات، ويطوروا حلاً ويختبروه ميدانياً، ومن ثم يعيدوا تدريب موظفي البنك البالغ عددهم 12000 موظف، وفي العام 2002 أطلق محمد يونس بنك غرامين 2 رسمياً، وهو إصلاح شامل لبرنامج البنك في الإقراض، في تحول من نهج ذي مقاس واحد يناسب جميع الأفراد إلى نظام بنكي مرن مصمم ليكون أكثر تجاوباً مع حاجات المقترضين ومشكلاتهم.

2- الرغبة في التشارك في الفضل:

إذا كان المقصد الحقيقي لرياديي الأعمال إحداث التغيير، عندئذٍ يأتي التشارك بالفضل بصورة طبيعية، لكن إذا كان المقصد نيل ثناء الناس وتقديرهم وإعجابهم، فإن التشارك بالفضل لا يمكن أن يكون، ويمكن للمرء أن ينجز الكثير إذا لم يهتم بالاعتراف بالفضل ونسبته لأهله، أما بالنسبة لرياديي الأعمال الناجحين، فإن الرغبة في التشارك بالفضل تقع على طول المسار الحرج للنجاح والتفوق، لأنهم كلما كانوا مستعدين أكثر للتشارك بالفضل مع من حولهم، زاد عدد الناس الذين يرغبون بمساعدتهم ودعمهم.

3- الاستعداد للتحرر من الهياكل القائمة:

يستطيع رياديو الأعمال الاجتماعية أن يحدثوا التغيير من خلال إعادة توجيه المؤسسات القائمة، إلا أن المجتمع غالباً المكان الذي يجدون فيه أوسع الآفاق لاختبار الأفكار الجديدة وتسويقها وتطبيقها، ومن الممكن العثور على رياديي الأعمال الاجتماعية في المؤسسات الحكومية والجامعات، على الرغم من أن هيكل الحوافز والقيود المؤسسية تكون بمنزلة عوامل ردع وتقييد في بعض الأحيان، وهذا لا يعني أن الحكومات أو الجامعات لا تلعب دوراً هاماً في التجديد والتطوير الاجتماعي، إلا أن رياديي الأعمال الاجتماعية الذين يبدؤون تطبيق أفكارهم في أثناء دراستهم أو تدريسهم في الجامعات، يذهبون خارج العالم الأكاديمي لأجل بناء مؤسساتهم ومشروعاتهم الاجتماعية، وهم بذلك يتحملون مخاطر مهنية ومالية كبيرة، لكن ما يكسبونه الحرية في التصرف، بالإضافة إلى مسافة لرؤية أبعد من النماذج والأشكال التقليدية في مجال عملهم، وهذا أمر هام وحيوي لأن الابتكار يتطلب القدرة على الابتعاد عن النماذج التقليدية.

4- الاستعداد لعبور حدود المعرفة:

لا تعمل الاستقلالية عن الهياكل القائمة على مساعدة رياديي الأعمال على التحرر من الافتراضات السائدة فحسب، ولكنها تعطيهم أيضاً حرية العمل والتصرف لمزج الموارد بطرائق وأساليب جديدة، وتُعد إحدى وظائف ريادي الأعمال الاجتماعية الرئيسية أن يقوم بعمل الكيماوي الاجتماعي، كإيجاد مركبات اجتماعية جديدة، وجمع أفكار الناس وخبراتهم ومواردهم معاً في تشكيلات لا تكون المجتمعات منظمة بصورة طبيعية لإنتاجها.

وقد يكون «المزج الخلَّاق» من جانب رياديي الأعمال الاجتماعية، استجابة فطرية للتفكك والتخصص المفرط في المجتمعات الصناعية، وباستقراء عدد من المشروعات والمبادرات الاجتماعية يظهر أن لدى الناس احتياجات كليَّة، ومشكلاتهم لا يمكن أن تُحل ما لم تقم مجموعة كبيرة من الناس بالعمل معاً وبذكاء، وربما هذه الحقيقة تفسر لماذا يمكن العثور على عدد كبير من رياديي الأعمال الاجتماعية يدمجون وظائف كانت ستبقى -لولا عملهم- منفصلة.

5- الاستعداد للعمل بعيداً عن الأضواء:

يمضي كثير من رياديي الأعمال الاجتماعية عقوداً وهم يعملون بثبات على تطوير أفكارهم والتأثير في الناس في مجموعات صغيرة أو بأسلوب فردي، ومن الصعوبة بمكان فهم أو قياس تأثيرهم، وغالباً بعد مرور أعوام عدة يجري تقدير عملهم، فمثلاً على مدى الخمسة وعشرين عاماً الماضية، أجرت مؤسسة أشوكا Ashoka مئات الآلاف من المحادثات مع رياديي الأعمال الاجتماعية والناشطين والأكاديميين والممولين ورجال الأعمال والصحفيين وغيرهم في كل أنحاء العالم، وعملت هذه العملية في المراحل الأولى على تشجيع الناس في عدد من البلدان للتفكير بطريقة مختلفة بشأن الطريقة التي يحدث فيها التغيير، و قامت أشوكا لاحقاً، من خلال هذه العملية، بنشر نظام قيِّم يقدِّر ويكرِّم الجهود الشخصية الاستثنائية الضرورية لحل مشكلات كبرى، وبسبب تأثيرها فمن المرجَّح أكثر أن يفكِّر كثير من الممولين الاجتماعيين بشأن صفات ريادة الأعمال عندما يخصصون الموارد.

6- الدافع الأخلاقي القوي:

لاحظ الخبير الاقتصادي جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter أن حافز رياديي الأعمال ليس الربح، ولكنه الرغبة في الانتصار في معركة تنافسية والبهجة النابعة من الابتكار، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يميز رياديي الأعمال الاجتماعية عن رياديي الأعمال التجارية؟

جواب هذا السؤال هو حجر الأساس في ريادة الأعمال الاجتماعية: الأخلاق، فلا معنى للحديث عن رياديي الأعمال الاجتماعية دون أخذ السمة الأخلاقية لحوافزهم بالحسبان، ففي نهاية المطاف رياديو الأعمال التجارية ورياديو الأعمال الاجتماعية هم إلى حد كبير الأشخاص نفسهم، وهم يفكرون في المشكلات بالطريقة ذاتها، ويطرحون الأسئلة ذاتها، كما أن الاختلاف بينهم ليس في الطبع أو القدرات، ولكن في آرائهم وتوجهاتهم.

وفي النهاية أختم بكلماتٍ للمؤلف يقول فيها: إذا تعلمت شيئاً واحداً من كتابة هذا الكتاب فهو أن الأشخاص الذين يحلُّون المشكلات يصلون بطريقة ما إلى القناعة بأنهم قادرون على حل المشكلات، وهذه القناعة لا تظهر فجأة إنما تنمو مع مرور الزمن في أثناء العمل لجعل العالم مكاناً أفضل.

وإذا كنتُ قد تعلمتُ شيئاً واحداً من قراءتي لهذا الكتاب فهو أنَّه ليس من المستحيل جعل العالم مكاناً أفضل للعيش، إذا توافرت الأسباب واجتمع لها ذوو الهمم والإبداع.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...