مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 20
كيف يُشكِّل الاقتصاد السلوكي قراراتنا الشخصية؟
هذه مقالة طويلة، خرجت عن الحد المألوف الذي أكتبه دوماً بين 800- 1100 كلمة، فاعذرني يا من تقرؤها، وإذا أردت فالتمس عذراً أنها لم تكتسب حدها الزائد من حشو بلا فائدة، أو فقرات لا تسمن ولا تغني من جوع، وإنما مما يرجى فائدته ومنفعته إن شاء الله، وعلى ذكر الجوع والطعام، هل فكرت يوماً -صديقي البعيد- لماذا بدأت معظم المطاعم، والمقاهي، وقاعات الطعام في المشافي والجامعات في تحديد كمية السعرات الحرارية لكل وجبة؟ خلال سنوات الجامعة لم أفهم لماذا كانوا يضعونها، 550 لطبق دجاج بالفرن، و200 لصحن الحساء، و400 لقطعتي الحلو الشهيتين وهلم جراً، في الحقيقة لم تكن تهمني أبداً، ما كان يهمني، وأراك مثلي في الغالب، أن تكون الوجبة مشبعة ولذيذة، وبعد ذلك لتتحسر السعرات على نفسها ولتسعد معدتي وتهنأ.
لكن وبعد أن شبعت المعدة، وارتاحت نفسك ونفسي، هل هذه طريقة صحيحة للتفكير وحساب الأمور؟ أي تفضيل اللذة والراحة والمنفعة الآنية وعدم التفكير بالعواقب والآثار المستقبلية؟ فالرياضة متعبة وشاقة، لكن أثرها باقٍ، وشراء كل ما يزيد عن حاجات الإنسان الضرورية، أي شراء كل ما يشتهيه ويريده، سيسعده اليوم لا شك، أما غداً، فهل سينفعه أكثر أم لو احتفظ بالمال وثمّره في تجارة لينتفع به في المستقبل؟ وغير ذلك... كيف يتخذ الناس قراراتهم الصحية والمالية؟ وكيف تؤثر عاداتهم اليومية في كل ذلك؟ وما العوامل المؤثرة في عملية اتخاذ القرار؟ أحاول في هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة أو التساؤلات، وقبل الإجابة، ودخول كهف الاقتصاد وسراديبه التقليدية والسلوكية، وضعت لك هذا الشكل ليوضح لك جسم المقالة ومكوناتها:
توطئة
أحدث ريتشارد ثالر (Richard H. Thaler)، الاقتصادي الأمريكي، عام ۲۰۰۸ نقلة نوعية في الاقتصاد السلوكي (Behavioural Economics)، ودوره في تحسين قرارات الأفراد وصنع السياسات العامة، والذي يعد منهجاً علمياً يعتمد على تحليل السلوك البشري في الواقع العملي، بهدف شرح عملية صنع القرار الاقتصادي، وتعمل ممارساته وتطبيقاته على مساعدة الأشخاص لاختيار الأفضل دائماً في أفعالهم واختياراتهم، مثل تحفيز الناس على الممارسات الإيجابية في حياتهم، كتناول الطعام الصحي، والحفاظ على الطاقة، وترشيد الاستهلاك، واتباع نمط حياة متزن، وعموماً يهدف الاقتصاد السلوكي إلى:
- اكتشاف عملية صنع القرار: يشبه خبراء الاقتصاد السلوكي المحققين، إذ يكتشفون الأنماط الكامنة وراء قرارات البشر، يقارنون كيف نختار الأشياء في الحياة الواقعية مع ما يفترضه الاقتصاد التقليدي (الخيار الأكثر منطقية دائماً).
- اكتشاف المؤثرات: هل سبق لك أن اشتريت شيئاً لمجرد أنه معروض للبيع، حتى لو لم تكن بحاجة إليه بالضرورة؟ رأيت أن سعره قد انخفض بنسبة 50% ولم ترد خسارة هذه الفرصة الذهبية، يُعرف هذا التحيز بتحيز "تجنب الخسارة"، وهو يؤثر في اختيارات الأفراد الشرائية بشدة، يدرس الاقتصاد السلوكي هذه التحيزات، مثل النفور من الخسارة، أو الميل إلى التمسك بالأشياء المألوفة (التحيز التأكيدي)[1].
- التنبؤ بتوجهات التسوق: من خلال فهم تحيزات الأفراد وطريقة تفكيرهم، يمكن للاقتصاد السلوكي أن يحسن التوقعات حول كيفية تصرف الناس والأسواق بأكملها، وهذا يمكن أن يساعد الشركات على تصميم استراتيجيات تسويقية أفضل.
- التشجيع على أفضل الخيارات: تخيل أحد المطاعم يضع وجبات خفيفة صحية على مستوى العين، مما يسهل على الزبون اختيارها لوجبته، يسمى هذا الأمر في الاقتصاد السلوكي "دفعة أو وكزة"، وهي تغييرات طفيفة تشجع على اختيارات أفضل، مثل: توفير المزيد من المال للتقاعد، أو اتخاذ خيارات غذائية أكثر صحة.
بناء على ما تقدم قد يخطر ببالنا "ما الفروقات التي يمكن رصدها بين الاقتصاد التقليدي والاقتصاد السلوكي؟" والإجابة نوجزها في البنود الآتية:
أولاً: صنع القرار بين الاقتصاد التقليدي والاقتصاد السلوكي
طبيعتهما واحدة أو متشابهة، إذ يحلل كلاهما كيف يتخذ البشر قراراتهم الاقتصادية، وبناء على ماذا، وعلى الرغم من الطبيعة المشتركة، إلا أن الاقتصاد السلوكي يُدخل في تحليله نظريات ورؤى من علم النفس، وعلم الاجتماع، والسياسة، لإنشاء صورة أكثر واقعية لعملية صنع القرار.
يُسبغ الفكر الاقتصادي التقليدي وصف الرشد (العقلانية) على سلوك المستهلك وقراراته، الذي يصل بدخله المحدود إلى أقصى منفعة ممكنة، بغض النظر عن مضمون هذه المنفعة وتكلفتها، وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وتعتمد النظرية الاقتصادية التقليدية على ثلاثة افتراضات أساسية:
- البشر عقلانيون.
- يتخذ الأفراد قرارات بناء على مصلحتهم الشخصية.
- يغير الأشخاص أفكارهم ومعتقداتهم بناء على أي معلومة جديدة.
وفقاً للاقتصاد التقليدي، سيتخذ الأشخاص دائماً أفضل القرارات بناءً على تحليل دقيق للتكاليف والفوائد لكل خيار متاح، ماذا يعني هذا الكلام؟ إن الأشخاص العقلانيين لا يتأثرون بالعوامل الخارجية والعواطف، وقادرون على اتخاذ القرارات بناء على ما سيعود عليهم بأكبر فائدة ممكنة[2].
يريد أحمد شراء سيارة، في الاقتصاد التقليدي، سيقيِّم جميع الخيارات المتاحة في السوق (هوندا، مرسيدس، سوزوكي، تويوتا، فورد...) ستأخذ عملية التقييم في الحسبان: السعر، والكفاءة في استهلاك الوقود، وتكاليف الصيانة، والقيمة المستقبلية للسيارة في حال أراد بيعها، سيجري أحمد عملية تقييم شاملة بناءً على هذه العوامل، ويختار السيارة الأفضل منفعة وفائدة له.
في المقابل يفترض الاقتصاد السلوكي أن البشر عاطفيون، ويسهل تشتيت انتباههم، وتأثرهم بعوامل خارجية، ولا يعني هذا أن البشر يتمتعون بدرجة قليلة من الذكاء، أو لا يمكنهم اتخاذ قرارات عقلانية، بل يعني أن خياراتنا في كثير من الأحيان متأثرة بعوامل لا ترتبط بالمنفعة الاقتصادية مباشرة، ويمكن إجمال رؤى الاقتصاد السلوكي على النحو التالي:
ينحرف البشر غالباً عن التصرفات العقلانية والراشدة بسبب التحيزات المعرفية[3].
- يميل الأفراد إلى تقييم الخسائر المحتملة أكثر من المكاسب المماثلة، مما يجعلهم يتجنبون المخاطر، حتى عندما تكون المكافآت المحتملة أكبر، يحمل هذا الاتجاه آثاراً كبيرة في مجالات مختلفة، كقرارات الاستثمار، إذ يفوت الأشخاص فرصاً مربحة لتجنب الخسائر.
- تتأثر القرارات الشخصية بعملية تثبيت السعر، تضع مراكز التسوق بعض المنتجات غالية الثمن لجعل المنتجات الأخرى رخيصة، ويمكن للجميع الحصول عليها.
- تتأثر قرارات الأفراد بآراء الآخرين، يميل معظم الأشخاص إلى شراء منتجات حصلت على تقييمات عالية من أشخاص آخرين، ولذا أتاحت معظم مواقع التسوق الإلكترونية في السنوات الأخيرة للمستهلك إمكانية تقييم المنتج.
لو أخذنا المثال السابق لشراء السيارة وفقاً لمبادئ الاقتصاد السلوكي ورؤاه، فإن أحمد سيتأثر بإعلانات السيارات الفاخرة، أو بتوصيات الأصدقاء والأقارب، وقد يختار سيارة، لأن هناك حسماً مغرياً لوقت محدود عليها، حتى لو لم يعد هذا الخيار عليه بأكبر فائدة اقتصادية، أو يمكن أن يتأثر بالتحيزات المعرفية، فيختار السيارة التي سمع عنها أشياء إيجابية من قبل، متجاهلاً المعلومات الأخرى.
يوفر الاقتصاد السلوكي عدسة يمكن من خلالها فهم الانحرافات في السلوك البشري، والتي لا تستطيع النماذج الاقتصادية التقليدية تفسيرها، إذ يأخذ بالحسبان تأثر القرارات بالعوامل النفسية والاجتماعية، مما يوفر رؤية أكثر شمولية ودقة للسلوك البشري.
ثانياً: العوامل المؤثرة في صنع القرار
دخل أنس قسم المربيات والأطعمة المجففة لشراء مربى المشمش المفضل لديه، وانتبه لوجود نوع جديد أرخص من النوع الذي يشتريه دائماً، فاحتار ولم يستطع اتخاذ قرار بسرعة، أيفضل تجربة النوع الجديد ويوفر خمسة ريالات، أم يغامر بشراء منتج لا يعرف جودته وقد تكون سيئة، فيخسر المذاق وعشرة ريالات؟ ما المؤثرات التي تتحكم بقراره؟
- الأعراف الاجتماعية: لا يتخذ الأفراد قراراتهم لأسباب منطقية أو عقلانية، وإنما في الغالب بناء على ما يتوقعه المجتمع، على سبيل المثال: يختار بعضهم الاهتمام بإعادة تدوير النفايات، والحرص على شراء منتجات وأدوات قابلة لإعادة التدوير، لأهمية هذا الأمر مجتمعياً في السنوات الأخيرة، حتى لو لم ينفعهم شراء مثل هذا النوع من المنتجات على المستوى الشخصي، ويساعد فهم هذا التأثير والديناميكية على تصميم التدخلات والسياسات، لتشجيع السلوكيات المسؤولة اجتماعياً وتثبيط الأفعال الضارة، مثل تعزيز الحفاظ على الطاقة، وفرط الاستهلاك.
- الانحياز للوضع الراهن: يميل الأشخاص غالباً إلى تفضيل الخيارات التي جربوها ويعرفونها، بدلاً من تجريب خيارات جديدة، يفضل الزملاء في العمل تناول الشاورما من أحد المطاعم المعروفة منذ سنوات، وشخصياً لا أحب تغيير محل البن، الذي أشتري منه قهوتي منذ مدة طويلة أيضاً. ينزع الأفراد إلى الالتزام بالوضع الحالي أو الخيار المعروف بدلاً من إدخال تغييرات جديدة أو تجريبها، ويتجلى هذا الأمر في سياقات مختلفة، ويمكن لصناع السياسات الاستفادة من هذه الرؤية، لتشجيع الخيارات المرغوبة، مثل الاشتراك في برامج الادخار أو اختيار منتجات صديقة للبيئة.
- التحيز للحاضر: يختلف التحيز للحاضر عن التحيز للوضع الراهن بأنه: الميل إلى التركيز على الوضع الحالي أكثر من المستقبل عند اتخاذ القرارات، وبعبارة أخرى: هو ميل الأفراد لتفضيل المكافآت الفورية على المكافآت المستقبلية، حتى إذا كانت المكافآت المستقبلية أنفع، كتفضيل تناول الحلويات بدلاً من الحفاظ على نظام غذائي صحي، لتحقيق فوائد صحية مستقبلية، أو تبذير المال بدلاً من توفيره للاستفادة منه في المستقبل، وتعد معرفة هذا التحيز ومعالجته بالنسبة للسلطات المحلية وصناع القرار أمراً بالغ الأهمية عند تصميم خطط الادخار والتقاعد، والسياسات الصحية والتعليمية.
تسلط هذه الرؤى الضوء على كيفية اتخاذ البشر للقرارات، والتعقيدات المصاحبة للعملية، وتحمل آثاراً عملية في مجالات مختلفة، مثل: الاقتصاد، والتمويل، والتسويق، والسياسة العامة إلى غير ذلك. يدرس الاقتصاديون السلوكيون هذه الأفكار باستمرار ويحسنونها، للحصول على فهم أعمق للسلوك البشري في البيئات الاقتصادية، وفي حالة أحمد ربما سيتجنب المنتج الجديد، ويبقى على الخيار الافتراضي، الذي جربه، وليس هناك احتمال ليندم على شرائه.
ثالثاً: الوكزات Nudges
يستكشف ريتشارد ثالر، والقانوني كاس سنستاین (Cass R. Sunstein) مفهوم الوكز في كتابيهما، الذي يحمل هذا الاسم «الوكز Nudge»، و يعرفونه على أنه: أي جانب من جوانب هندسة (أو تشكيل بنية) الاختيار، التي تغير سلوك الأشخاص بطريقة يمكن التنبؤ بها دون حظر أي خيارات، أو تغيير حوافزهم الاقتصادية بنحو كبير، فعلى عكس الأدوات «الأبوية» التقليدية، كالغرامات، أو الدعم، أو الحظر، فإن الوكزات هي: تغييرات في بيئة الاختيار، من خلال استخدام التحيزات المعرفية والاختلالات، التي تحفز الناس وتوجههم نحو الاختيارات، التي تخدم مصالحهم بطريقة أفضل.
كما تأخذ الوكزات شكلاً مختلفاً، كفكرة توفير المعلومات، أحد الأمثلة الشائعة لهذا هو وضع العلامات الغذائية في المطاعم، كالسعرات الحرارية للوجبات، فمن ناحية هي توفر المعلومات التي لا تستفيد من التحيزات، لكنها تساعد على اتخاذ قرارات عقلانية، فالتركيز على محتوى الدهون على سبيل المثال قد يصرف المستهلك عن أي طعام يحتوي على قدر كبير من الكربوهيدرات الضارة[4].
ومن هذا المنطلق يستكشف مفهوم الوكزات مدى تأثير التغييرات الدقيقة في عرض الاختيار بنحو كبير، التأثير في عملية صنع القرار دون إعاقة الاستقلال الفردي، حيث يتعمق في الفهم والاستفادة من التحيزات المعرفية والاستدلالات، التي تؤثر في السلوك البشري، ويسعى نهج التحفيز في جوهره إلى تسهيل اتخاذ قرارات أفضل، من خلال تنسيق البيئات التي تعزز السلوكيات المرغوبة مع الحفاظ على مجموعة واسعة من الخيارات، وعلى عكس الأساليب التقليدية التي تستخدم الحظر أو الضرائب أو غير ذلك للتأثير في السلوك، فإن الوكزات غير قسرية، وتهدف إلى توجيه الأفراد نحو خيارات أكثر ملاءمة مع احترام استقلاليتهم، تعمل الوكزات وفق ثلاثة مبادئ هي:
- بنية الاختيار: تعدل الوكزات كيفية صياغة الاختيارات أو تقديمها لتوجيه القرارات، ومن خلال تغيير السياق، أو التخطيط، أو تسلسل الخيارات، يمكن للأفراد الانجذاب نحو خيارات أكثر فائدة دون إكراه على اختيار محدد أو وضع قيود على خيارات أخرى.
- عدم العقلانية المتوقعة: لا يتخذ البشر قرارات عقلانية دائماً، أو إن قراراتهم لا تكون عقلانية بصرامة، تراعي الوكزات التحيزات المعرفية، والعواطف، والمؤثرات النفسية لتصميم تدخلات تتماشى مع علم النفس البشري، وتحفز على اتخاذ قرارات رشيدة.
- الأبوية التحررية: تعمل الوكزات وفق مبدأ "الأبوية التحررية"، والمقصود بها: أنه من الممكن مساعدة الأفراد على اتخاذ خيارات أفضل مع الحفاظ على حريتهم في الاختيار.
تعمل الوكزات في مجالات مختلفة، من ذلك السياسة العامة، والرعاية الصحية، والتمويل، والاقتصاد، والتسويق والحفاظ على البيئة، وفيما يلي نبذة عن كل مجال:
- السياسة العامة: تلعب الوكزات دوراً فعالاً في تعزيز السلوكيات الصحية، وزيادة المدخرات، ومساهمات التقاعد، وتشجيع الحفاظ على الطاقة، وتعزيز معدلات التبرع بالأعضاء.
- الرعاية الصحية: تساعد الوكزات على تحسين التزام المريض بالأدوية، وزيادة معدلات التطعيم (التلقيح)، والتشجيع على اختيار نمط حياة أكثر صحة.
- المالية والاقتصاد: تعمل الوكزات في القطاع المالي على تسهيل اتخاذ قرارات مالية أفضل، مثل التسجيل التلقائي في خطط التقاعد مع خيارات إلغاء الاشتراك.
- التسويق: تستفيد الشركات من التحفيز في التسويق للتأثير إيجابياً في سلوك المستهلك من خلال تقنيات مثل العروض محدودة الوقت، والتوصيات الشخصية.
- الحفاظ على البيئة: تستخدم الوكزات لتعزيز السلوكيات المستدامة، مثل إعادة التدوير وتقليل استهلاك المياه، والحفاظ على الطاقة.
رابعاً: الاستخدام السلبي للاقتصاد السلوكي: كيف تسخِّر الشركات ومراكز التسوق الاقتصاد السلوكي لزيادة المبيعات وتحفيزك على شراء المزيد
يدمج الاقتصاد السلوكي مبادئ من علم النفس والاقتصاد لفهم كيفية اتخاذ الأفراد للقرارات، وكيفية تشكيل هذه القرارات. في مجال التسويق تستفيد الشركات من الاقتصاد السلوكي لفهم سلوك المستهلك فهماً أفضل وصياغة الاستراتيجيات، التي تؤثر بفاعلية في القرارات، تستخدم الشركات التجارية، ومراكز التسوق والبقاليات الاقتصاد السلوكي في عمليات الترويج والتسويق والبيع، باستخدام استراتيجيات وتكتيكات التسعير، وتحديد موضع المنتج، والحملات التسويقية، كما موضح في الشكل التالي[5]:
1. استراتيجيات التسعير Pricing Strategies: وتشمل الإرساء، وتأثير الشرك، وتجنب الخسارة:
- الإرساء Anchoring: تحدد الشركات منتجاً مرتفع الثمن أولاً للتأثير في كيفية إدراك المستهلكين لأسعار المنتجات الأخرى، فيجعل المنتج المتميز ذو السعر المرتفع المنتجات الأخرى ميسورة التكلفة. ذهبت جوليا لشراء شاشة ذكية، ووجدت أمامها ثلاثة خيارات: شاشة بحجم 75 بوصة سعرها 5000 ريال، وشاشة بحجم 55 بوصة سعرها 3500 ريال، والخيار الثالث بحجم 40 بوصة وسعر 2800 ريال، كيف يؤثر الإرساء في قرار الشراء؟ تصبح الشاشة الأولى مرجعاً (نقطة إرساء) وتجعل سعر الشاشة الثانية والثالثة مقبولاً.
- تأثير الشرك Decoy Effect: والمقصود به تقديم منتج ثالث بين منتجين، مما يؤثر في عملية الاختيار، ويسعَّر الشِرك بطريقة مرتفعة أو قليلة، مما يجعل أحد المنتَجين الأساسيين أكثر جاذبية، على سبيل المثال: أحد المقاهي يقدم أكياس فشار بثلاثة خيارات: صغير: 5 ريالات، كبير: 10 ريالات، متوسط: (الشِرك) 9 ريالات، لنفترض أن خيار الشِرك غير موجود، هناك كيس صغير أو كبير، سيشتري الزبون بحسب احتياجه أو ما يملكه من نقود، مع وجود خيار كيس متوسط يصبح الكيس الكبير أكثر جاذبية من ناحية الكمية والميزانية، وبالتأكيد خيار الكيس المتوسط غير مرغوب، لكنه يجعل شراء الكيس الكبير صفقة رابحة، يؤثر وجود الشرك في قرار كثير من الزبائن، الذين كانوا سيشترون الكيس الصغير لولا وجود كيس متوسط، ويستفيد المقهى من زيادة كمية مبيعاته وتحقيق ربح أعلى.
- تجنب الخسارة Loss Aversion: تأطير الخصومات كفرصة لتجنب الخسارة يحفز المستهلكين أكثر من مجرد الحصول على مكافآت مماثلة، في الغالب قد وصلتك رسالة إلى بريدك الإلكتروني من أمازون أو علي بابا تخبرك -بصدق وأمانة- أنه ستفوتك صفقة القرن وفرصة العمر، إذا لم تبادر مسرعاً للاستفادة من خصومات تصل لـ 20% على منتجات التجميل أو أطعمة الحيوانات أو غيرها، يشتري كثير من الأشخاص أشياء لا تلزمهم والسبب وجود خصومات مغرية.
- تأطير السعر Pirce Framing: أغلب الأسعار اليوم في المحلات التجارية والمواقع الإلكترونية هي من قبيل: 18.99، أو 99.99، لماذا؟ يقرأ العقل البشري السعر على أنه 18 و99 بدلاً من 19 و100، وهذه مراوغة نفسية لخلق تصور أن السعر أقل.
2. تحديد موضع المنتج Product Positioning: وتشمل التهيئة، وبنية الاختيار، والدليل الاجتماعي:
- التهيئة Priming: تؤثر التلميحات أو المحفزات قبل تقديم المنتج في تفضيلات المستهلك دون وعي، مثلاً في حال عرض صور لأشخاص سعداء قبل تقديم منتج معين، قد يشعر المستهلكون بأن المنتج سيرفع من مستوى سعادتهم، حتى وإن لم يدركوا السبب وراء تفضيلهم له.
- تصميم الاختيارات Choice Architecture: تنظيم الاختيارات استراتيجياً لتوجيه المستهلكين نحو الخيارات المفضلة، كتنظيم الوجبات الصحية في قائمة الطعام بطريقة بارزة ويسهل الوصول إليها، مما يرفع احتمالية اختيارها من المستهلكين.
- الدليل الاجتماعي Social Proof: أثر المراجعات الإيجابية أو توصيات الآخرين في سلوك المستهلك، عرض تقييمات الزبائن الإيجابية أو توصيات المشاهير يمكن أن يشجع المستهلكين على شراء المنتج.
3. الحملات التسويقية Marketing Campaigns: وتشمل الندرة والإلحاح، والنداءات العاطفية، والتنبيهات السلوكية، والتلعيب:
- الندرة والإلحاح Scarcity and Urgency: يندفع الزبون إلى اتخاذ قرار سريع عند إعلامه بأن هناك قطعاً محدودة أو وقتاً محدوداً لشراء المنتج، اشتريت قبل مدة ساعة يد من موقع التسوق Trendyol، وكانت آخر قطعة متوفرة من الصنف الذي اشتريته بحسب ما أخبرني الموقع، بعد قرابة شهرين أردت شراء واحدة أخرى لإهدائها لأحد الأشخاص، دخلت الموقع فوجدتها معروضة للبيع مع رسالة تفيد بأنها القطعة الأخيرة! يستخدم المسوقون هذه الخدعة لتسريع عملية الشراء، وقطع أي احتمالية للتردد وإلغاء الصفقة، لذا لا تصدق هذا النوع من الرسائل التسويقية المخادعة، وتريث قليلاً وخذ وقتك بالتفكير والبحث قبل الضغط على زر الشراء.
- المناشدات العاطفية Emotional Appeals: استخدام القصص لإثارة العواطف والمشاعر مثل السعادة، أو الحزن، أو الفخر، أو الحنين مما يؤدي لإنشاء علاقة/ صلة بين المستهلكين والمنتج/ العلامة التجارية بنحو أعمق.
- التنبيهات/الحوافز السلوكية Behavioural Nudges: يمكن أن تؤثر إشارات، مثل ترتيب المنتجات أو الكلمات المستخدمة في الوصف، في قرارات المستهلكين بطرق غير واضحة، مثل: وضع المنتجات الصحية أو القابلة لإعادة التدوير على مستوى العين في المحلات التجارية لتحفيز المستهلكين على اختيارها.
- التلعيب [6]Gamification: المقصود بالمصطلح في هذا السياق دمج الألعاب في عملية البيع والتسوق مما يجعلهما أكثر متعة، مثلاً: يحتوي تطبيق شركة الطيران التركية بيغاسوس Pegasus)) على لعبة لجمع النقاط، التي يمكن استخدامها لخدمات الطيران، أو للحصول على تخفيض عند شرائ تذكرة سفر، تساهم الألعاب في تعزيز تفاعل العملاء، وزيادة الولاء للعلامة التجارية، مما يؤدي في النهاية إلى زيادة المبيعات، وتحسين تجربة العملاء.
خامساً: دراسة حالة: دور الاقتصاد السلوكي في تعزيز استهلاك الوجبات الصحية
تتناول دراسة الحالة التي سنعرضها كيفية استخدام مبادئ الاقتصاد السلوكي لتشجيع خيارات الأكل الصحية في مطاعم المعامل والشركات التجارية[7]:
شركة "HealthCo" شركة تكنولوجية متوسطة الحجم تواجه تحديات تتعلق بصحة الموظفين، حيث يتناول العديد منهم وجبات غير صحية خلال استراحة الطعام، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، وانخفاض الإنتاجية، وتأثير سلبي عام في بيئة العمل، أدركت الإدارة أن معالجة هذه المشكلة يمكن أن يحسن رفاهية الموظفين، ويزيد إنتاجية العمل، فتعاونت مع فريق من خبراء الاقتصاد السلوكي لتصميم تدخل يدفع الموظفين نحو عادات الأكل الصحية، وكانت الأهداف الأساسية: زيادة استهلاك الفواكه، والخضروات، والحبوب الكاملة (البرغل، والفريكة، والدُخن، والشعير) مع تقليل استهلاك الأطعمة المصنعة وغير الصحية.
- التدخل: أُعيد تصميم المطعم لتعزيز الخيارات الصحية، فبدلاً من وضع الأطعمة غير الصحية ذات السعرات الحرارية العالية في المقدمة والوسط، نُقِلت إلى الخلف، وأصبحت المنطقة الرئيسية عرضاً جذاباً لأطباق الفواكه والسلطة، كما وُضِعت الخيارات الصحية بشكل استراتيجي على مستوى العين، مما جعلها أكثر سهولة وجاذبية.
لعب مفهوم الخيارات الافتراضية دوراً هاماً في التدخل، حيث قُدِمت كميات مناسبة من الأكلات الصحية مع الوجبات الرئيسية، وفي حال أراد الموظف اختيار البطاطا المقلية أو مشروبات غازية، كان عليه أن يطلبها على وجه التحديد، لكن هذا في المجمل لم يحدث دائماً، إذ يميل الناس (كما سبق وأن تحدثنا في فقرة العوامل المؤثرة في صنع القرار: الانحياز للوضع الراهن) إلى الالتزام بالخيارات الافتراضية الموجودة، وفي حالة الشركة، تشجع الموظفون على تناول المزيد من الوجبات الصحية. - وكزة: حوافز الأسعار والدعم: قدمت الشركة حوافز مالية لتحفيز الخيارات الصحية، على سبيل المثال: قُدِّم الماء والمشروبات غير المحلاة بسعر أقل مقارنةً بالمشروبات الغازية السكرية، ودُعِمت المواد الصحية للحفاظ على أسعار تنافسية مع البدائل غير الصحية.
- وكزة: اللافتات والرسائل: استُخدِمت اللافتات والشاشات الرقمية الموضوعة بشكل استراتيجي لدفع الموظفين نحو الخيارات الصحية، وعُرِضت رسائل تسلط الضوء على فوائد الفواكه والخضراوات، إلى جانب رسومات جذابة بالقرب من طاولات الطعام، كما حُدِّد عدد السعرات الحرارية لكل وجبة، لجعل الموظفين أكثر وعياً بخياراتهم.
- النتائج: أدى تدخل الاقتصاد السلوكي إلى نتائج إيجابية للشركة وموظفيها، وعلى مدار ستة أشهر، لُوحِظت النتائج التالية:
- زيادة استهلاك الأطعمة الصحية: زاد استهلاك الفواكه والخضراوات والحبوب الكاملة بنسبة 25%، في حين انخفض استهلاك الأطعمة المصنعة وغير الصحية بنسبة 20%.
- المشروبات الصحية: انخفض تفضيل الموظفين للمشروبات الغازية السكرية بنسبة 30%، وارتفع استهلاك الماء والمشروبات غير المحلاة بنسبة 40%.
- عادات صحية للموظف: أبلغ الموظفون عن شعورهم بمزيد من النشاط والتركيز في العمل، مما كان له تأثير إيجابي في الإنتاجية، كما أبلغ بعض الموظفين أيضاً تحسن الصحة العامة وخسارة بعض الوزن.
بالاستفادة من رؤى الاقتصاد السلوكي وتطبيقاته، نجحت شركة HealthCo في دفع الموظفين نحو اتخاذ خيارات غذائية أفضل، مما أدى إلى تحسين النتائج الصحية، وخلق ثقافة أكثر وعياً بالصحة في مكان العمل. يوضح هذا النهج قدرة الاقتصاد السلوكي على مواجهة التحديات المجتمعية المختلفة من خلال فهم السلوك البشري والتأثير فيه بطرق إيجابية.
خاتمة
تُطبّق اليوم رؤى الاقتصاد السلوكي وأفكاره لصناعة سياسات وتدخلات تؤثر في قرارات الأفراد، إما إيجاباً أو سلباً، إذ تبدأ عملية التطبيق بالاعتراف بأن الأفراد لا يتصرفون كما تقترح نظرية الاقتصاد التقليدي والاختيار العقلاني (أي: الابتعاد عن السلوكيات والعادات الضارة)، وأن الهيئات العامة تسعى باستمرار لإنشاء سياسات رشيدة، وتدخلات قائمة على فهم أكثر واقعية لسلوك البشر، ويمكن تطبيق هذا الفهم للسلوك البشري على المستفيدين النهائيين للخدمات العامة، والمستهلكين، وصناع القرار، ومقدمي الخدمات العامة أو الخاصة، والهيئات التنظيمية[8].
تشمل آثار الاقتصاد السلوكي مجالات كالاقتصاد، والسياسة، والتسويق والعلوم الاجتماعية، ومن خلال فهم تعقيدات عملية صنع القرار والعوامل المؤثرة فيه، يستطيع صناع السياسات ومنظمات المجتمع المدني صياغة تدخلات تعزز بنحو فعال السلوكيات الإيجابية، وتعالج التحديات المجتمعية، وفي الوقت نفسه يمكن استخدامها سلباً في الانتخابات مثلاً، أو عمليات البيع والشراء وخداع المستهلكين، مما يفتح الباب للمساءلة الأخلاقية أمام ممارسات الاقتصاد السلوكي وتطبيقاته، وفي الوقت نفسه أمام الحرية الشخصية للأفراد، فعلى الرغم من أن التطبيقات الإيجابية تصب في صالح الفرد (كتوجيهه لتناول الطعام الصحي، أو شراء منتجات قابلة لإعادة التدوير) إلا أن هذا يعد تدخلاً في الحرية الشخصية للفرد، وفق مفهوم الحرية السلبية عند الفيلسوف السياسي إيزايا برلين (Isaiah Berlin) والتي يصفها بأنها: حرية الشخص المحمية من التدخل الخارجي، بموجبها يتصرف الفرد كما يشاء، ويختار ما يريد، دون أن يمنع من أي جهة خارجية (الأسرة، الحكومة... الخ)، لكن ماذا لو كان التدخل يصب في صالح الفرد؟ كتحفيزه على تناول الطعام الصحي، أو تشجيعه على ممارسة الرياضة، أو إقلاعه عن التدخين، حتى وإن كان عبر التلاعب بالخيارات كما في حالة الاقتصاد السلوكي، هل يُعد هذا خرقاً للحرية الشخصية (السلبية) كما يعرفها برلين؟
المراجع
Raj, N. (2024). Effects of behavioural economics on decision-making. Retrieved from https://www.researchgate.net/publication/379752221_Effects_of_Behavioural_Economics_on_Decision-Making
The Chicago School of Professional Psychology. (n.d.). Behavioral vs. traditional economics. Retrieved from https://www.thechicagoschool.edu/insight/psychology/behavioral-vs-traditional-economics/
الاقتصاد السلوكي وتطبيقاته عالمياً: 40 تجربة سلوكية حول العالم - 8 قطاعات متنوعة. (2019). العبيكان للنشر.
[1] التحيز التأكيدي (Confirmation Bias) هو ميل الناس للبحث عن المعلومات، التي تؤكد معتقداتهم الحالية، أو تفسير المعلومات بطريقة تدعم هذه المعتقدات. بمعنى آخر، عندما يكون لديك رأي أو اعتقاد معين، تكون ميالاً للتركيز على الأدلة التي تدعمه وتجاهل أو تقليل أهمية الأدلة التي تتعارض معه. هذا التحيز يمكن أن يؤثر في كيفية اتخاذ القرارات ويؤدي إلى التمسك بالمعتقدات حتى في وجه الأدلة المخالفة.
[2] The Chicago School of Professional Psychology. (n.d.). Behavioral vs. traditional economics. Retrieved from https://www.thechicagoschool.edu/insight/psychology/behavioral-vs-traditional-economics/
[3] التحيزات المعرفية والمعروفة أيضاً بالاختصارات العقلية: هي أنماط تفكير غير واعية تساعد الأفراد على اتخاذ قرارات وأحكام سريعة، وتلعب في مجال التسويق دوراً حاسماً في تشكيل سلوك المستهلك والتأثير في قرارات الشراء.
[4] الاقتصاد السلوكي وتطبيقاته عالمياً: 40 تجربة سلوكية حول العالم - 8 قطاعات متنوعة. (2019). العبيكان للنشر.
[5] Raj, N. (2024). Effects of behavioural economics on decision-making. Retrieved from https://www.researchgate.net/publication/379752221_Effects_of_Behavioural_Economics_on_Decision-Making
[6] التلعيب (Gamification): يُطلق على المصطلح أيضاً "اللوعبة"، يعرّف وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأنه: استخدام الألعاب الإلكترونية في سياقات تتعدى الأغراض المعتادة للألعاب، بحيث تـمثل طرق اختبار يمكن استخدامها لتوظيف عناصر اللعبة في أنشطة تعليمية، مع الحفاظ على عنصري المرح والمتعة، غير أن هذه السياقات يمكن أن تشمل مجالات أخرى غير مرتبطة بالتعليم كالتسويق، والأعمال، والإعلام، وذلك بهدف مشاركة المستخدمين في حل المشكلات وتحقيق أهداف محددة، وزيادة تفاعل الفرد ومساهمته. للمزيد انظر: مصطلح التلعيب، هارفرد بزنس ريفيو على الرابط: https://bit.ly/4cBktEz
[7] Ibid, Raj, N. (2024).
[8] مرجع سابق، الاقتصاد السلوكي وتطبيقاته عالمياً.