مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 21
من أعماق التاريخ إلى آفاق السياحة
المقدمة:
تعد المملكة العربية السعودية من أكثر الدول العربية الغنية بالمعالم السياحية، وذلك لما تتميز به من تنوع ثقافي وتاريخي وطبيعي، فهي تمتلك تنوعاً جغرافياً كبيراً يجعل منها وجهة فريدة للسياح، إذ يتمتعون فيها بجمال الصحارى الطبيعية، واتساع الشواطئ الرملية، بالإضافة إلى المدن والقرى التاريخية التي تعكس عراقة وحضارة المملكة.
في السنوات الأخيرة سعت المملكة ضمن الجهود المبذولة لتحقيق رؤية ٢٠٣٠ للاستثمار الاجتماعي في العديد من المعالم التاريخية، ضمن خطتها لاستقطاب أكبر عدد من السياح من مختلف دول العالم، ومن أبرز تلك المعالم قرية العلا التاريخية، التي تقع في محافظة العلا في شمال غرب المملكة.
هذا المقال يسلط الضوء على هذه التجربة الرائدة في المملكة العربية السعودية، والتي تسعى المملكة فيها لتحويل قرية العلا إلى وجهة سياحية متكاملة، ولكن من الضروري قبل الحديث عن منطقة العلا السياحية الحديثة إلقاء الضوء باختصار على تاريخ قرية العلا القديمة.
العلا القديمة (نظرة تاريخية):
تأسست مدينة العلا في القرن السادس قبل الميلاد، وكانت تعرف قبل الإسلام باسم "دادان" حسب ما ورد في كتب الآشوريين والكتب العربية القديمة، وكانت تُعرف أيضاً بـ"وادي القرى"، ولكن ارتبط اسمها بتراث حضارة الأنباط الذين بنوا موقع الحِجر على بُعد 22 كم من العلا، وفي العصر الحديث أُطلق عليها اسم "العلا" نظراً لارتفاعها عن سطح البحر.
تقع العلا القديمة بين مرتفعات جبلية على الطريق المؤدي إلى العلا، متفرعة من طريق المدينة المنورة - تبوك، مروراً بمدينة خيبر، وتُعد العلا من أكبر وأهم المناطق الحضارية القديمة، كونها تقع على الطريق الرئيسي للتجارة لشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر والعراق، ويحيط بمدينة العلا جبلان كبيران بينهما وادٍ خصب التربة، يزرع فيه النخيل والفواكه.
يزخر تاريخ العلا بالعديد من الثقافات الإنسانية التي ازدهرت بفضل خيراتها، وأبدعت ببناء الحضارات على أرضها منذ آلاف السنين، وتتميّز بيئتها بالتنوّع الجيولوجي المذهل من تكوينات صخرية مذهلة بين الوديان الصحراوية، وعجائب طبيعية شامخة فوق الكثبان الرملية.
أبرز المعالم السياحية في العلا:
تُعد العلا إحدى أروع وجهات العالم لتأمّل سحر الطبيعة وجمال التضاريس والإبداع العمراني المعاصر، ففي مدينة دادان التاريخية يمكنك معانقة الماضي بين المقابر الخالدة، واستكشاف الشواهد الأثرية في موقع الحِجر المُدرج ضمن لائحة اليونسكو للتراث العالمي، والتعرّف على قاعة مرايا بتصاميمها العصرية وهيكلها المغطى بالألواح الزجاجية العاكسة في وادي عِشار، والعديد من المعالم السياحية التي تم الاعتناء بها لتوفر للسائح تجربة فريدة من نوعها، ومن أبرزها:
جبل الفيل:
يتربّع جبل الفيل على رمال الصحراء الذهبية بمشهد يخطف الأنظار، ويعانق سماء العلا بجسده وخرطومه على ارتفاع 52 متراً، إذ تُبهر هذه الأعجوبة الصخرية أنظار المتفرجين من الصباح إلى المساء، وعند الغروب تنعكس ألوان الشمس بمشهد ساحر في أفق الصحراء الواسع.
الحِجر:
تعود شواهد الحياة البشرية في موقع الحِجر الأثري إلى ما قبل الألفية الأولى قبل الميلاد، وتشتهر الحِجر بما يزيد عن 110 مقبرة حفرها الأنباط في قلب التكوينات الصخرية ليدفنوا فيها أصحاب المكانة الرفيعة في الحضارة النبطية، وتظهر النقوش والكتابات بوضوح في بعض المقابر، لتروي التفاصيل عن الشخصيات التاريخية المدفونة فيها من معالجين وشخصيات عسكرية فذّة وقادة محليين وغيرهم الكثير.
جبل عِكمة:
أُدرج جبل عِكمة رسمياً ضمن لائحة سجل العالم لمنظمة اليونسكو بفضل مكانته التاريخية الكبيرة، وتأكيداً على أهمية المئات من النقوش والكتابات الخالدة على صخوره الفريدة، ومنحدراته الشامخة منذ آلاف السنين.
دادان:
كانت مدينة دادان القديمة مركزاً في غاية الأهمية للنشاطات الزراعية والتجارية على مرّ السنين، ولا سيما بفضل موقعها القريب من طريق البخور، ومع الجهود الدؤوبة للقائمين بأعمال التنقيب، اكتُشِف موقع غنيّ بأروع الشواهد الأثرية التي تُقدِّم لضيوف العلا لمحة عميقة عن تاريخ الشمال الغربي لشبه الجزيرة العربية، ويواصل علماء الآثار جهودهم في اكتشاف الأسرار التي تكمن وراء المقابر الشامخة، والكتابات والنقوش الأثرية الخالدة على جدرانها، وتُذهلهم قدرة أهل الحضارات القديمة على بناء هذه المقابر لترتفع حوالي 50 متراً فوق الرمال الذهبية.
خيبر:
تُعد واحة خيبر من أروع عجائب الطبيعة، وتتميز بصخورها البركانية التي شكّلت تضاريسها الطبيعية الساحرة في قلب الصحراء، وبفضل مياهها العذبة وتربتها الخصبة تعيش أنواع متعددة من النباتات والحيوانات والأشجار المثمرة في هذه الواحة الغنّاء، وقد رحّبت خيبر بالوجود الإنساني منذ الأزل، وساعدت طبيعتها المِضيافة مع عيون المياه الوفيرة على استقرار البشر، وازدهار الحضارات على أرضها.
تيماء:
تستمر عمليات التنقيب بكشف الدلائل والقطع الأثرية المدفونة تحت رمال الصحراء وصخورها، لتروي حكاية تيماء وتُسلط الضوء على ازدهار حضارة أهلها منذ آلاف السنين، وقد لَعِبت الاكتشافات الأثرية في تيماء دوراً مهماً في تغيير ما نعرفه عن تاريخ شبه الجزيرة العربية القديمة، وساهمت بعض الاكتشافات، مثل أدوات ومقابر المحاربين من العصر البرونزي، في تغيير مفهومنا عن هذه الفترة الزمنية باعتبارها حقبة مجهولة المعالم في تاريخ شمال غرب شبه الجزيرة العربية.
محمية شرعان الطبيعية:
تمتدّ محمية شرعان الطبيعية على مساحة 1,500 كيلومتر مربع، وتشكّل كنزاً دفيناً من العجائب الطبيعية مع مجموعة متنوعة من النباتات والحيوانات النادرة، تهدف المحمية إلى حماية النظام البيئي الحسّاس في العلا، والحفاظ عليه من خلال توفير البيئة المناسبة للكائنات البرية المهددة بالانقراض مثل الذئاب العربية والغزلان والثعالب الحمراء ذات الأذنين الكبيرتين، وغيرها الكثير من الفصائل التي يوظّف خبراء الحياة البرية كامل شغفهم وخبرتهم لحمايتها ورعايتها، وتُعد النمور العربية المهددة بالانقراض أكثر هذه المخلوقات جاذبيةً، وتسعى المحمية لتأمين الظروف الملائمة لعودة هذه القطط الكبيرة الجميلة إلى بيئتها الطبيعية.
واحة العلا:
تحتضن الرمال الذهبية للصحراء الرحبة قلب المنطقة النابض بالحياة، ألا وهو واحة العلا الغنّاء، إذ تُنتج أشجار نخيل العلا البالغ عددها 2.3 مليون نخلة أكثر من 90,000 طن من التمور، وتحمل أهمية جوهرية للنظام البيئي المتنوّع بأشكال الحياة في هذه الوجهة الطبيعية، وقد كانت الواحة محطة استراحة رئيسية للتجار والحجاج والمسافرين، الذين عبروا هذه المنطقة وصولاً إلى مدينة دادان القديمة وموقع الحِجر الأثري، ووفّرت لأهالي العلا الظلال الوارفة بأغصانها الخضراء، والأخشاب الضرورية للتدفئة وبناء المساكن بجذوعها الشامخة، ومصدر قوت وفير بمحاصيلها الطازجة.
عوامل الجذب السياحي في العلا:
هناك العديد من العوامل التي تجذب السياح في منطقة العلا، ومن أبرز تلك العوامل:
1. التراث والتاريخ: كما في الحجر وخيبر وتيماء وغيرها من المواقع الأثرية، التي تبقى شاهدة على حضارة من أعظم الحضارات الإنسانية القديمة، كالحضارة النبطية أو غيرها من الحضارات القديمة التي استوطنت المنطقة.
2. الثقافة والفنون: كما يظهر ذلك في الفعاليات والمهرجانات التي تنظم سنوياً في العلا، بالإضافة إلى معرض أثر والمكتبة العامة وحي الجديدة للفنون ووادي الفن وسينما الجديدة ومركز العلا للموسيقى، وغيرها من المعالم والفعاليات الثقافية والفنية.
3. الطبيعة والهواء الطلق: كما في مطل الحرية وواحة العلا ومزرعة ديمومة، وغيرها من المعالم الحضارية التي توفر مساحة للاستمتاع بالطبيعة واستكشاف عوالم جديدة، كما في محمية شرعان الطبيعية.
4. المغامرات: كما في مجموعة واريور ومركز هوساك ومركز بانجيا، وغيرها من المراكز التي توفر عامل جذب لمحبي المغامرات من كافة أنحاء العالم، إذ تتيح لهم صنع تجربة فريدة مليئة بالإثارة والتشويق.
5. العافية والاستجمام: كما في وادي عِشار الذي يحتضن أفخم المطاعم وأمتع تجارب الاستجمام في العلا، مع أبهى الإطلالات على معالمها الأثرية الخالدة، وأعاجيبها الصخرية المنحوتة بفعل الرياح عبر آلاف السنين.
الخاتمة:
يُعدّ الاستثمار الاجتماعي في القرى التنموية أحد أعمدة التنمية المستدامة وفق رؤية المملكة العربية السعودية ٢٠٣٠، لذلك فقد سعت المملكة إلى تحسين البنى التحتية في القرى التنموية كالعلا وغيرها، وخلق بيئة خدمية جيدة وتوفير فرص عمل للمواطنين، وفرص استثمار كبيرة للمستثمرين من كافة أنحاء العالم، وهذا بدوره يعزز الاستقرار والتماسك الاجتماعي، ويحقق عوائد استثمارية كبيرة تعود بالخير والنفع على المواطنين والمقيمين في المملكة، ويزيد من الفرص التي تجعل من المملكة إحدى أبرز الوجهات السياحية والاستثمارية على مستوى العالم.