مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 15
نفايات الانترنت- قضية الاقتصاد الرقمي الأخضر
مشروع NGI مبادرة رائدة من المفوضية الأوروبية، والتي تسعى إلى بناء إنترنت مستقبلي أكثر ديمقراطية ومرونة وشمولية، إذ كلِّف المشروع بوضع رؤية طموحة لما يجب أن يبدو عليه الإنترنت في المستقبل حسب التطورات التقنية والسياسية.
يشارك في المشروع اتحاد أوروبي مؤلف من سبعة شركاء:Nesta في المملكة المتحدة وهي القائدة، DELab في جامعة وارسو في بولندا، و Nesta Italia، وEdgeryders في إستونيا، ومدينة أمستردام في هولندا، وجامعة Asrreshus في الدنمارك.
بداية المشروع كانت في أوائل ٢٠١٩ امتدت لمدة مطولة بلغت ثلاث سنوات.
يهدف هذا التقرير إلى إلقاء نظرة شاملة على الإنترنت، وعلاقته ببيئتنا وتأثير بصمتنا الإلكترونية في الكوكب، ويسلط الضوء على بعض النماذج والسياسات للأعمال الواعدة، التي يمكن أن تقلل من هذا التأثير أو حتى تعكسه.
اعتمد التقرير منهجية منمّقة سلسة وواضحة في التدرج بترتيب الأفكار، مستعيناً بصور توضيحية ومواقع تفيد الباحثين للاطلاع والتوسع أكثر.
بدأ التقرير بموجز تنفيذي، تلته مقدمة ناقشت أهمية الاتصال الرقمي وتبعاته من تأثيرات في البيئة، أمّا القسم المتبقي منه فانقسم إلى جزأين، الأول: ابتدأ السياق بلمحة عن القضايا الأوسع المحيطة ببصمة الإنترنت، واقترح أربع ركائز يجب أن تشكل نهجاً أوروبياً شاملاً لاستدامة الإنترنت.
تعد قضية حماية البيئة من أكثر القضايا إلحاحاً، ومع التطور الرقمي الهائل يتزايد التأثير السلبي في البيئة بسرعة، لأن المواد التي تصنع منها أجهزة الإنترنت تحتاج إلى عمليات تعدين ضخمة جداً لاستخراجها من الأرض، فما أن يبدأ الجهاز بالوصول إلى الإنترنت يكون قد سبب ما يصل إلى ٩٥٪ من مجمل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري مدى الحياة، من ناحية أخرى تستهلك هذه الأجهزة كميات كبيرة من الطاقة، التي تأتي معظمها من مصادر ملوثة، ويؤثر أيضاً قلة طرق إصلاحها وإعادة تدويرها سلباً في البيئة.
لكن إذا نظرنا بعدل من جهة أخرى فالإنترنت ليس بهذا السوء، إذ إنه يساهم في التقليل من النفايات الورقية، وما تخلّفه من انبعاثات كربونية من خلال القراءة من الإنترنت، كما أدت تقنيات التواصل عبر الفيديو إلى تخفيض نسبة الرحلات والسفر، ومن ثم انخفاض التلوث، ويتيح النقل الفوري للبيانات من مستشعرات جودة الطقس في جميع أنحاء العالم للعلماء تنسيق أبحاثهم وابتكار الحلول. ومستقبلاً ستتمكن الروبوتات والطائرات المسيرة من تنظيف الألواح الشمسية حتى في أبعد المواقع، مما سيقلل من التكلفة لمصادر الطاقة. أمّا الذكاء الاصطناعي فيمكن أن يكون مفيداً بمساعدتنا على فهم القضايا البيئية والطاقة والاستجابة لها، ولهذه التكنولوجيات القدرة على عوننا على الحد من الطاقة، التي تستهلكها أنشطتنا اليومية باستخدام الرصد والاستشعار ونظام الأتمتة، إذ يمكن لإنترنت الأشياء IOT) ) دعم الاستدامة من خلال تحسين التوقيت وكمية استهلاك الطاقة للأدوات المنزلية.
وبالانتقال إلى الركائز الأربع سلط الضوء على تحديات الاستدامة، التي غالباً ما يتم تجاهلها، والمرتبطة بالبنية التحتية للإنترنت والخدمات والأجهزة، ولمواجهة هذه التحديات وضعت هذه الركائز، التي تمثل نهجاً أوروبياً شاملاً لإحداث تغير بيئي واسع، مع توصيات من شأنها أن تساعد صانعي السياسات في المفوضية الأوروبية والدول الأعضاء والحكومات المحلية على تطبيق هذا النهج على الإنترنت. جاءت تلك الركائز على النحو التالي:
- دمج الاستدامة في جميع السياسات الرقمية من خلال تحديد مشكلات الإنترنت بمختلف مظاهرها، ومعالجتها وفهم الطبيعة الشاملة للتحديات التي تنطوي عليها، مع مراعاة تأثيراتها البيئية والاجتماعية المترابطة، والاهتمام بتوصياتها في البحث والتطوير لإنشاء مرافق تعدين حضرية، تقلل من اعتمادنا على عمليات التعدين المدمرة.
- تحسين التصميم والاستفادة من الابتكار بوضع معايير لتنظيم المصنعين وتشجيعهم عند الحاجة إلى مواءمة طموحاتهم للاستدامة والابتكار وخلق بدائل قابلة للتطبيق، وجاء بالتوصيات أنه ينبغي للجنة أن تخصص بعضاً من توصياتها لشؤون المشتريات الخضراء من المنتجات والخدمات الرقمية.
- إعلام المستهلكين وتمكينهم وذلك عن طريق تشجيعهم على اتخاذ قرارات أكثر استدامة، وإخبارهم بتأثير مشترياتهم وأنشطتهم، ومن التوصيات التي ذكرت نشر درجات قابلية إصلاح المنتج للمستهلكين، من خلال تمويل مشروع تسجيل الدرجات على غلاف المنتجات وعبر مواقع الإنترنت.
- التحفيز على التغيير الإيجابي وخلق أسواق لبدائل أكثر استدامة من خلال الشراء والتمويل والضرائب، فقد ورد بالتوصيات من وجهة نظر بيئية أنه يجب على الشركات الالتزام بممارسات تقليل البيانات عبر الحد من رسائل البريد الإلكتروني الجماعية.
أما الجزء الثاني من التقرير فقد خصص لشرح دورة حياة الإنترنت عبر فقرات أوضحت المراحل التي يمر بها بالتسلسل مع تقديم بعض التوصيات:
أولاً: مرحلة استخراج الموارد الطبيعية:
تبدأ حياة أي جهاز حديث من أعماق الأرض ضمن عمليات تعدين أغلبها تكون في المدن، التي تفتقر إلى الأنظمة البيئية والعملية، لذلك كان من المهم توسيع نطاق التشريعات المعدنية، إذ تسعى لائحة النزاع بشأن المعادن إلى معالجة بعض الآثار المرتبطة بالتعدين وتهدف إلى ترك مجال للتوسع والتحسين.
كما يمكن أيضاً لصانعي السياسات استكشاف إمكانية تعدين بعض المواد داخل أوروبا، واستخراج المعادن الأرضية النادرة من الأجهزة المعاد تدويرها عن طريق بدائل أقل تكلفة وتلوثاً، فقد جرب باحثون في جامعة كامبريدج البريطانية طائرات دون طيار مصممة بكاميرات يمكنها التعرف على المعادن الأرضية النادرة من السماء.
ثانياً: مرحلة المرور بسلاسل التوريد والاستيراد:
حيث تصنع معظم الأجهزة خارج أوروبا وتستورد، ولكن نادراً ما يكون مصدر الأجزاء التي تحويها هذه الأجهزة وكيفية إنتاجها واضحاً، إذ يجب أن يكون هناك شفافية أكثر بهذا الخصوص، فالإبلاغ عن تأثير سلاسل التوريد يعد أمراً أساسياً، ويمكن استخدام هذه المعلومات للإخبار عن تعديل حدود انبعاث الكربون أو استيراده، لضمان أن الأسعار تعكس بنحو أفضل التكلفة البيئية للإلكترونيات.
ثالثاً: مرحلة التسويق والشراء:
باختيار الأجهزة منخفضة الطاقة، مثل الأجهزة الأصغر والأقل قوة سحابية، ووضع علامات التأثير البيئي على المنتج، لتمكن المستهلكين من اتخاذ خيارات أكثر استنارة بشأن أنشطتهم واستهلاكهم، على سبيل المثال: ملصق يشتمل على رمز QR يؤدي إلى صفحة ويب تحتوي على معلومات أكثر تفصيلاً حول المنتج.
وبشأن تشكيل المشتريات العامة الخضراء تقدم المفوضية توجيهات من أجل شراء التقنيات بطريقة ملائمة للبيئة، كما تنشر توصيات محددة بشأن الحوسبة السحابية.
رابعاً: وهي الأوسع، مرحلة الاستخدام والخدمات:
بمجرد شراء المستهلك للجهاز، تستخدم التطبيقات على الفور، فيجري المكالمات والاتصال بالخدمات الرقمية، كل ذلك يعمل بنقل وتخزين يستهلكان كميات كبيرة من الطاقة، لكن مع اللائحة العامة لحماية البيانات، يوجد بالفعل تشريع يفرض تقليل البيانات، وقد تكون هناك حاجة إلى معالج بيانات كبير لتقليل غير الضروري منها، وتشغيل مراكز خاصة بها بالكامل بالطاقة المتجددة بحلول ٢٠٣٠، كما أن فهم التأثير البيئي للتصفح ومواقع البث والخدمات الأخرى تمثل تحديات تحتاج أيضاً إلى التقليل من استهلاكها للطاقة. يمكن لأوروبا أن تقود ذلك من خلال الاستثمار في البحث، والترويج لمبادئ التصميم منخفضة الطاقة للمبتكرين الرقميين، وإنشاء فريق عمل من الخبراء لاستكشاف كيفية قياس تأثيرات الطاقة واستخدامها وإعلام المستهلكين، على سبيل المثال: من خلال إعطاء الأولوية لنتائج الطاقة المنخفضة في محركات البحث، تحولت أخيراً معالجة الحوسبة إلى مركزية، أي داخل مراكز البيانات، مما أدى إلى تطوير أجهزة منخفضة الطاقة، مثل الهواتف، يتوقع بعض المعنيين أن معالجة البيانات ستعود لتقترب من المستخدمين مع تزايد استخدام الطاقة المتجددة. كما شهد العقد الماضي طفرة في الحوسبة المتطورة والخدمات غير المركزية، مثل Bitcoin وهي عملة رقمية أصبحت شائعة لقدرتها على تحويل القيمة دون مطالبة بنك أو حكومة، وتحتاج أوروبا إلى تحسين توقعاتها في موضوع التأثيرات المحتملة للطاقة لمثل هذه الاتجاهات، كما يجب أن توجه الاستثمار العام إلى بدائل أكثر استدامة، وأن تخصص مركزاً بحثياً لدراسة الآثار البيئية للتكنولوجيات الناشئة قبل أن تصل إلى الاتجاه السائد.
هذا ويعاني المستخدمون من صعوبات التكنولوجيا التي تحوي أقفالاً، ويكافحون للتحول إلى خدمات أكثر خضرة، ولا يزال من الممكن أن تغذي المراجعة السريعة للحواجز التي تحول دون التحوّل إلى خدمة خضراء، لتصميم قانون الخدمات الرقمية والتغيرات المستقبلية في نظام المنافسة، كما برزت حكومات وشركات التزمت بتقليل بصمتها الإلكترونية بنسبة ٤٥٪ بين عامي ٢٠٢٠ و٢٠٣٠.
لذا يجب على المفوضية الأوروبية إصلاح كل ذلك من خلال رفع مستوى أهدافها المناخية والتركيز على إجمالي تخفيضات الانبعاثات، بدلاً من صافي الصفر.
خامساً: مرحلة إطالة العمر:
بما أن جميع الأجهزة لها عمر مؤقت، تتحلل خلالها بعض الأجزاء ويصبح من الصعب والمكلف إصلاحها، فيكون الحل في نهاية المطاف باستبدالها، يسهم الحفاظ على الجهاز لمدة أطول في تقليل بصمته البيئية، لذا يجب على الشركات المصنعة الكبرى توفير خمس سنوات من تحديثات البرامج للحفاظ على هذه الأجهزة آمنة تعمل بسلاسة، كما يمكن أيضاً إدخال تشريع جديد لتوسيع ضمانات المستهلك. وتعد متانة الجهاز عاملاً حاسماً آخر في حياته، إذ يزيد تصميم العديد من الأجهزة من احتمالية تقادمها والاستبدال باللاحق، وفي محاولة لتحفيز ابتكار التصميم الأكثر مرونة، قد يطلب من الشركات المصنعة تغطية الضرر الذي يمكن تفاديه بسهولة في مرحلة التصميم، مثل الشاشات الهشّة، ويطيل إصلاح الأجهزة عمرها الافتراضي أيضاً، إلا أنه من الصعب القيام بذلك لأن الأجهزة غالباً ما تحتوي على أجزاء ملكيتها متاحة للشركة المصنعة فقط، و يمكن لمؤشر قابلية الإصلاح للأجهزة المباعة في السوق الموحدة إبلاغ المشترين بالتكلفة المتوقعة للحفاظ على الجهاز في حالة جيدة، وتعميم التصميم المعياري والمواد الأكثر متانة، ومطالبة المصنعين بتوفير كتيبات الإصلاح وقطع الغيار لمدة زمنية أطول.
سادساً: إدارة النفايات:
بما أن الغالبية العظمى من أجهزة الإنترنت ينتهي بها المطاف إما في مكب النفايات أو تصدر إلى البلدان النامية، حيث تتم معالجة أجزائها بعمليات كيميائية خطيرة وملوثة، لذلك سيكون هناك حاجة ماسّة إلى الاستثمار في البنية التحتية لإعادة التدوير، ويمكن أن يساعد مخطط استعادة الأجهزة على مستوى الاتحاد الأوروبي على إغلاق الاقتصاد الدائري لأجهزة الإنترنت، حيث تركز المفوضية الأوروبية على توحيد شواحن الأجهزة لتقليل النفايات وحماية المستهلكين، مع مقترحات لفصل بيع الأجهزة عن شواحنها لخفض التكاليف والنفايات.
وبعد الانتهاء من الجزء الثاني بمراحله الست، نجد أن من أهم نتائج هذا التقرير: زيادة الوعي العام وفهم التقليل من اعتماد الإنترنت على الصناعات الاستخراجية، وتمهيد الطريق لاقتصاد أكثر اهتماماً بإعادة التدوير، وتوضيح توسيع ضمانات المستهلك مع الحد من إصدار النفايات وانبعاثات الكربون وتأثيرهما البيئي.
ختاماً
بالنظر إلى مبادرة السوق الرقمية الموحدة للاتحاد الأوروبي، وقبل الأهداف الطموحة للصفقة الخضراء الأوروبية، لاحظنا أن تلك الرؤية أسفرت عن الإرادة السياسية والتأثير التنظيمي وقوة السوق والقدرة على الابتكار اللازم، لدفع التغيير على نطاق عالمي، لذلك يتعين على المعنيين وأصحاب المصلحة أن يتخذوا الآن الخطوة المنطقية التالية، لتصبح هذه المبادرة رائدة عالمياً في استدامة الإنترنت.