الابتكار الاجتماعي
قرية التأسيس: احتفاليات التراث الوطني بين التوثيق والتثقيف والترفيه

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 19

قرية التأسيس: احتفاليات التراث الوطني بين التوثيق والتثقيف والترفيه

   شوقية الأنصاري

 يأتي الثاني والعشرون من فبراير في كل عام برواية تاريخية عنوانها (يوم التأسيس)، ورمزيتها التاريخية والحضارية والثقافية امتدّ خلودها من ثلاثة قرون، وبطلها الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- مؤسس الدولة السعودية الأولى (1139هـ - 1727م)، وجاء في كتاب (يوم التأسيس) الصادر عن دارة الملك عبد العزيز في الرياض 1444هـ وصف تعريفي لهذه المناسبة الوطنية: "يعدُّ يوم التأسيس استذكاراً لامتداد الدولة السعودية لأكثر من ثلاثة قرون متتالية، وإبرازاً للإرث الثقافي المتنوع، ووفاءً لمن أسهم في خدمة الوطن من الأئمة والملوك والمواطنين، فهو مناسبة وطنية مجيدة للاحتفاء بذكرى تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود، الذي أسس كياناً سياسياً، عاصمته الدرعية، وبذلك تحقق لهذه الدولة العظيمة الوحدة والاستقرار والازدهار".

استحضار الجيل لمناسبة يوم التأسيس جاءت دلالاته فطنة لما دونته الكتب التاريخية عن تأسيس الدولة السعودية، وأيضاً فاحصة للخطابات المرئية والمسموعة والبصرية، فكانت مشاركاتهم تحمل من الوعي المعرفي بلغة إنسانية فجَّرت ينابيع الفخر والمحبة الوطنية من قادة المستقبل جيل الرؤية السعودية، بتوظيفهم لعدد من الاستراتيجيات التقنية التي تهدف إلى بثِّ رسالتهم الواعية بتثقيف أقرانهم عن هذه المناسبة، ليصبح الطفل المتلقي الأول ووجهة القصد لمحاكاته في طرحه، بأسلوب فصيح بلاغي مقنع، لرفع الحماسية الجماعية للاحتفاء بذكرى التأسيس، مستحضراً الشواهد التراثية المحسوسة من أزياء وأماكن تراثية، ونشيده الوطني على معزوفة الاعتزاز والانتماء لهذا الوطن يشدو، ومن أهم الاستراتيجيات التي رصدت:

  توظيف الدلالات اللفظية ليوم التأسيس مثل: (الوحدة والأمن والاستقرار، البناء والتوحيد والتنمية)، لتكون الوجهة والحجة في تخصيصها على لسان الجميع بعناية واهتمام، لإلزام المتلقي بالاحتفاء بهذا اليوم المجيد.

السرد القصصي للواقع: فإن للقص الواقعي المرجعي تأثير كبير في إقناع المتلقي، وحمله على إنجاز فعل الإعجاب والفخر والاعتزاز بأئمة الدولة السعودية وحكامها وملوكها الكرام، ففي (جذور التأسيس) أخبار تاريخية مرجعية عن جذور الدرعية وشخصية مانع المريدي، فيتتبع المتلقي هذه السيرة العطرة بحثاً وقراءة، فيقتنع بما سمعه من طرح المبدع ويستنتج، وهو بذلك شريك في إنتاج المعنى، فيكون الخطاب السيري عندئذٍ أشدَّ تأثيراً وإقناعاً.

الاستشهاد: ذلك لأن سيرة الإمام محمد بن سعود عمل استدلالي يقود إلى تعظيم مؤسس الدولة السعودية الأولى وإجلاله وتقديره، فتحمل سيرته سردية تداولية ينشدها الطفل شعراً فيتلقاها الإعجاب الطفولي ويعيش الدهشة مع شخصية الإمام محمد بن سعود، بهذه الوظيفة الإقناعية التأثيرية التصديقية ترتسم لدى الجيل ملامح القدوة في القيادة والعدل والحزم، عندها ينتقل التفكير الإبداعي لدى الطفل في البحث عن كل شاهد يزيد من جودة أدائه إلى الإقناع والتأثير في المتلقي. ومن هنا تمتد رحلة الفن، فالشاهد من أقوى الحجج والبراهين التي تؤكد الفكرة وتدعمها، كاستشهاده بمقولة ولي العهد السعودي ولي العهد-حفظه الله-: "لدينا عمقٌ تاريخي مهم جداً، موغلٌ بالقدم، ويتلاقى مع الكثير من الحضارات. الكثير يربط تاريخ جزيرة العرب بتاريخ قصير جداً، والعكس أننا أمة موغلة في القدم».                                                                                                                                                                                                                                                             

 

 لقد كان لمشهد قرية التأسيس الذي شمل مناطق السعودية كافة، والتي تحمل في جوهر رسالتها التأثيرية عبر قنوات الاتصال الاجتماعي بصمة إيجابية بالمتغيرات الثقافية المتحضرة لمنظومة المجتمع، فكان مشهد مشاركة عدد من الأطفال بهذه الفعالية الوطنية هو ما استوقفني لقراءة خطابهم الأدبي عبر منصة (X)، وما اكتنزته من دلالات تثقيف، وعمق معرفة، وجمال أداء في مسرحية تاريخية فنية، رمزيتها عبر الحسابات التواصلية في عروض الأزياء، والألعاب الشعبية، والأكلات الشعبية، والفنون الأدائية، وغيرها من دلالات ترفيهية تثقيفية حضارية.

  إن تعايش المثقف والإعلامي مع مشهد الطفولة كان اللافت في كثير من تغطيات فعالية قرية التأسيس، لتأخذنا رسالتنا الإنسانية نحو تجويد محتوى ثقافة الجيل وصقل مواهبه، ليتمكن من رسم خطابه العفوي الحاضر في كل محفل من مرتكزات قيمه وثقافته، فكان المؤشر الأول للمشهد يحمل لغة الترفيه عند الأغلبية، ففتح الحوار المباشر مع الجمهور هو المحك لاستنطاق وعيهم لقيمة المناسبة الوطنية، خاصة مع ما يتكرر على المسامع من مفردة الفُرجة والمتعة، وعندما تصدر من الأسرة والمجتمع هذه الرسالة فإنها تشكِّل للطفل مشتتات بفكره، خاصة عند ربطها بخبرته المعرفية، كون النتاج محدوداً، ولا محرك للتفاعل بترديد بيت قصيدة أو معلومة تاريخية، وقد انحصرت المشاركة في ترديد النشيد الوطني، واللغة التداولية رمزيتها في مفردة (يوم التأسيس) والزي التراثي.

  على الجانب الآخر تشكَّل المؤشر التثقيفي بظهور نخبة محدودة من الفصحاء الصغار، رسموا بجمال مشاركاتهم منعطفاً لتميز الجيل وإبداعه، فكانت العينة محدودة أمثال (لانا الغامدي -ليندا خالد- كادي الخثعمي-وسام الحربي- عبدالعزيز الفيفي- خالد اليحيى -رائد العسيري-دانة الداوود- يارا الحربي- جوانا الحبيشي-تميم الحارثي)، وقد نثرت مشاركاتهم الفردية والجماعية عبر الصوت والصورة النور في حساباتهم التواصلية بتأثير فني ملهم، واستدعت دورنا في دعمها، ليقوى إيمان الجيل بجمال إرثنا وأصالة ماضينا الثقافي، وفي قراءة هذا المشهد نجد همَّة الطفل تنطلق لتندمج بمنظومته الاجتماعية، ومشكلة ملامح النضج الثقافي لديه ولدى أقرانه، الذين تفننوا  في المشاركة بعروضهم بين منظر مرئي في المتاحف والقصور الأثرية وواحات النخيل ولباس الإرث، إلى تبادل التحفيز بالحوار والرد الأدبي المؤثر. إن حالة النضج الثقافي التي رسمها هؤلاء النخبويون الصغار ما قامت إلا على احترام الآخر برونق الحوار، كمسلك رئيسي في الدفاع عن القيم الثقافية للمجتمع، ومن ثم أراهن بأن اللغة التي جذبت الطفل ليرسم مشهده المؤثر في يوم التأسيس هي ذاتها التي ستدفعه ليبتكر ويبدع في الانتقال لمحطات نماء ثقافي إنساني، تترجمها لغته الجديدة المزخرفة بالأداء والتقنية والفنية.

   بالعودة لقراءة المؤشر الأول الذي رسم منعطفاً للفاقد الموجود، ومن ثم الحيرة في قراءة واقع الوعي الثقافي للطفل وأسرته، فكل ما تكتنزه خبرتهم التاريخية من ثوابت متأصلة بماضيه، ارتكزت فقط على ثقافة الاستعراض بالزي التراثي، في حين تأخرت اللغة الإبداعية من شعر ونثر في الحضور على لسان الأطفال، الأمر الذي جعل درجة الاستجابة لمعطيات خطابهم ترسم الدور الذي يتحتم على الأسرة (المتعلمة المثقفة المتحضرة الواعية) أن تتحول بمتغيراتها من الترف والصمت نحو رسم مؤشرات النضج الثقافي لها، بتداخل دورها الطبيعي والاجتماعي وردة فعل إيجابية تجاه هذه المواقف والمناسبات المتنوعة، فترسم بذكائها الاجتماعي المؤشر الأقوى في نمو طفلها مع ثقافة ماضيه وعصره ومستقبله.

   قراءة هذا المشهد الثقافي للطفل ارتكز على النظرية الاجتماعية والثقافية للعالم الروسي (ليف ڤيجوتسكي) الذي اعتقد بأن كلاً من الوالدين ومقدمي الرعاية والأقران، والثقافة بمفهومها الأوسع، مسؤولون عن تطوير أنظمة الوظائف العليا للفرد، وعن كيفية تأثير الاعتقادات، والسلوكيات الثقافية في طريقة تعلمه، وتأثره بالبالغين والأقران من حوله، يصفها بقوله: "يُولد الأطفال بقيودٍ بيولوجيةٍ أساسية في عقولهم، ومع ذلك تُقدم كل ثقافة أدوات التكيُّف العقلي، هذه الأدوات تسمح للأطفال باستخدام قدراتهم الذهنية الأساسية بطريقة متكيفة مع ثقافتهم التي يعيشون فيها، على سبيل المثال: في حين قد تركز ثقافة ما على استخدام استراتيجيات الذاكرة -كتدوين الملاحظات- تستخدم ثقافاتٌ أخرى أدواتٍ، مثل التذكير، أو الحفظ والاستظهار عن غيب".

من هذا المنطلق بات لزاماً على الأسرة والبيئة التعليمية أن تدمج الجيل في الثقافة المجتمعية، قارئاً وفاحصاً ومبتكراً، يتقن لغة التأثير والإلهام من مرتكز عميق الأثر من إرثنا العربي شعراً ونثراً، فما زالت اللغة الشعرية تبرهن عبقرية العربي البدوي في صناعة ملاحم العز المغناة حتى عصرنا الحاضر، من القلة النخبوية تنبثق رؤية جديدة لإبداع الجيل الذي أتقن بالمحاكاة صوت الماضي، ووقف على مسرح قرية التأسيس في لوحة فنية بالعقال المقصب والدقلة والبشت والجنبية، وصوته بالفخر يهزج من ألحان النصر العظيمة:

        نَحْمَدُ اللَّهَ جِت عَلَى مَا تمنّى                مَنْ وَلِيَ الْعَرْش جَزَل الوهايب

         خَبَر اللَّيّ طَامِعٌ فِي وطنّا                     دُونَهَا نُثْنِي إلَى جِت طلايب

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...