الابتكار الاجتماعي
القيادة المجتمعية

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 1

القيادة المجتمعية

   غياث خليل هواري

المدخل

لقد أصبحت القضايا المجتمعية في عصرنا معقّدة ومتداخلة. حيث ظهر العديد من القضايا والفرص والتحديات التي يجب على قادة القرن الواحد والعشرين أن يستجيبوا لها بشكل فعّال.

وإنَّ الناظر في الواقع المجتمعي سيجدُ أن هناك مجتمعاتٍ تتعرّض لموجاتٍ من العنف والتهجير القسري، وفئاتٍ تعيشُ حالة فقر بسبب احتكار الموارد من قبل فئات أخرى، ومجتمعاتٍ قد استشرتْ فيها الصراعات والنزاعات.

وأيضًا فإن هناك مجتمعات تعيشُ في مناخ جيّد، ويجدرُ بها أن تستثمر الموارد المتوفرة لديها، وأن تستفيد من الفرص المتاحة لها، وتحقّق حالة تنمية مستدامة، ونهضة شاملة.

ومن هنا فإنَّ للقادة المجتمعيين دورًا جوهريًّا في تحسين أحوال المجتمعات، والمساهمة بتغيير أحوالها. إذْ يعمل القائد على إزالة التوترات، وإنهاء الصراعات، وردم التصدّعات المجتمعية، ويعمل مع الناسِ يدًا بيد ليعرفوا فرصهم، ويتخلصوا من المخاطر التي تهددهم، ويغيّروا افتراضاتهم السابقة.

المنظور الفردي والجماعي

ولا تستمر القيادة بشخص واحد فقط، وإنما تحتاج لجهود جماعية، ورؤية مشتركة، وطاقات متكاتفة لكي يستطيعوا أن يُحدثوا تغييرًا إيجابيًا في مجتمعاتهم، فإن القادة المجتمعيين هم

أصحاب منظور مختلف وواسع، لا يقتصر على الـ"أنا"، وإنما هو منظور شامل يدور في فلك "نحن".

وتتجلى أهمية دور القائد، من خلال قدرته على توحيد الرؤية، واستثمار الجهود، والإمكانات، والقدرات. إذ إنه يخرج من قوقعة "الأنا"، فيعمل مع الناس ويشاركهم، ويحفّزهم، ويلهمهم لكي يكونوا أكثر تعاضدًا وتعاونًا، ويعملُ على توسيع المنظور الشخصي لدى الناس، فيخرجهم من مضائق " الأنا " إلى آفاق "نحن" من غير انتقاص أو إهدار لحقوق الناس ومصالحها، وإنما انطلاقًا منها.

القيادة المرتكزة على المجتمع

إنّ القيادةَ لا تهدف إلى إخضاعٍ أو تسييرٍ قَسْريٍّ، وإنما هي إرشادٌ وإلهام، واكتشافٌ للمواهب، وتفعيلٌ للطاقات، والعملُ وَفق رؤيةٍ واضحة.

ويُعتبر مجال "القيادة المجتمعية" حديثَ الظهور، ومتعدّدَ الارتباطات، فما من تعريف موحّد وشامل لـ "القيادة المجتمعية "، ولكنه يدور حول الاستفادة من الإمكانات الثقافية والتقنية، والعمل مع الموارد البشرية، وقيادتها بطرقٍ تمكّن الأشخاص من العمل معًا على تطوير مجتمعاتهم، وتحقيق الخير لأفراد المجتمع.

متى تصبح القيادة المجتمعية أمرًا متاحًا؟

إن القيادة المجتمعية تصبح متاحةً عندما يباشر مجموعة من الأفراد عملًا بقصد تحقيق غاية مشتركة في إطار علاقةٍ يحكمها الاحترام والتقدير للآخرين، وتمنحهم هذه العلاقة قدرة على التعاون والتعاضد من أجل بلوغ الأهداف المنشودة.

وتتميز هذه العلاقات بأنها مرنة وواسعة، إذ إنها لا تتمحور حول " الأنا "، وإنما تتجاوزه إلى الـ" نحن "، إذ إن الغاية والأهداف المشتركة، تضع الناس في جوٍّ من الودّ والتفاهم بالرغم من وجود الفروق والاختلافات، فبدلًا من التمركز حول الذات، يقوم هؤلاء الأفراد بالعمل المشترك، والتعاون البّناء، كلٌ على حسَب طاقته، ونوع قدراته ومهاراته، وتسود حالة من الحب والقبول بين أفراد المجتمع.

 يعمل القائد في جو يتنوع فيه الأفراد، من الاتجاهات والثقافات والقدرات، ويقوم القائد بالعمل معهم، من أجل بناء علاقاتٍ تهدفُ إلى تحقيق غاية مشتركة، والوعي بالتحديات التي يواجهونها، والإمكانات التي يجب أن يستفيدوا منها، وصولًا إلى إيجاد مقارباتٍ وحلول جديدة، تسهم في النمو المجتمعي.

ويعمل القائد على توجيه الناس نحو فعاليات، تمكن الناس من إحداث التغييرات المنهجية، وتحقيق التنمية المستدامة.

ولكي يتمكّن القائد المجتمعي من الاندماج مع المجتمع، فعليه أن يعي السياق المجتمعي، من خلال فهمه لقواعد التاريخ، وكيفية بناء المجتمعات الحضارية، وآليات بناء السياسات وعملها. وإن بناء القيادة المجتمعية هو عملية مستمرة لا تحدث لمرة واحدة فقط، وإنما هي متجددة ومواكبة لنموّ المجموعات، وتغيُّر المجتمعات، إذ إن القادة يدفعونها ويوجهونها من أجل تحقيق الغايات المنشودة، وتستمر هذه القيادة في تعلم كل ما هو مرتبط بمجتمعاتها، وفهم التغيُّرات الحاصلة في المجتمع والمجموعات.

ما هي المرتكزات الثلاثة التي تقوم عليها القيادة؟

  1. الترابط: القيادة المجتمعية تعمل في إطار علاقات مترابطة منظوميًا، إذ إن المجموعة بأكملها تمارس الدور القيادي في المجتمع، كما يمارس الأفراد أدوارًا قيادية ضمن المجموعة.
  2. المرونة: القيادة المجتمعية مرنة، إذ إن عملها ينبثق من حالات معينة، فعملية تشكيل الرؤية وتحديد الاتّجاه تتعلق بتطبيق استراتيجياتٍ عمليّةٍ تحقّق الغاياتِ المرجوةَ، وتُنتجُ هذه القيادات حالة من التأثير على الآخرين على مستوى الأفراد والمنظّمات، ويكون إنتاج التأثير وظيفةً مشتركة بين أعضاء المجموعة.
  3. التحويل: القيادة المجتمعية تحويلية، فالقائد يقوم ببناء رؤية مشتركة، ويعمل على تعزيزها، ويُلهم مجموعةَ العمل القيادي، لكي يطوروا أساليب جديدة لحل المشكلات والتعامل مع الأزمات، ويجعل الناس من حوله يهتمّون بالعمل بدافع ذاتي.

 مدخل إلى إطار العمل

إن التطور الاجتماعي لا يحصُل مُصادفةً، أو فجأةً، بل إن الناس يتعلّمون ويعملون فيتقدّمون، وقد يعودون خطوةً أو خطوتين إلى الوراء، ثم يعاودون التحرك للأمام، ويتحرك مؤشر العمل بناءً على ما تعلّمه الناس، وما يقومون بفعله، وقد يكرر الناس بعضَ التجارب. وفيما يلي سنعرض أبرز الخطوات التي تشكّل مدخلًا لتطوير المجتمع:

  

وتعتبرُ هذه الخطوات الأربع أساسية ومتكاملة، إذ لا يمكن الاستمرار في الخطوة التالية مع وجود خلل في الخطوة السابقة لها، فهي متضافرة ومتشابكة.

أولًا: الثقة:

إن عمل المجموعات والأفراد يتطلبُ وجودَ جوٍّ من الثقة المتبادلة، وإن تجاوُزَ هذه المرحلة أو بناءَها بشكل غير محكم، سيؤدي إلى هدم الجهود وتقييدها.

إذ إن غياب الثقة يؤدي إلى التمركز حول الذات، والشك بجهود الآخرين، والعمل على تحصين " الأنا " بدلًا من المساهمة في بناء "المجتمع" / "نحن". 

وإن وجود الثقة يعزز الشعور بالأمان، ويلهم الناس العطاءَ والتضحية، وبذل الجهد في تحقيق الأهداف المنشودة، وَفق الرؤية المرسومة.

وتعتبر الثقة هي الأرضية الصلبة التي تقوم عليها عملية القيادة المجتمعية.

ثانيًا: الصناعة المشتركة للغاية والتخطيط الاستراتيجي:

بعد بناء الثقة تبرز أهمية الخطوة الثانية. وهي صناعة الغاية ورسم الخطة، إذ إن الغاية هي التي ستلهم الناسَ القيامَ بالعمل، وتحفّزهم وتدفعهم للإنجاز والتقدّم، وإن الخطة ستجعلهم أكثر تعاونًا وانفتاحًا، وستُضفي على العمل قبولًا ومشاركة.

ثالثًا: العمل معًا:

بعد بناء الثقة، وإيجاد الغاية المشتركة ورسم الخطة يأتي العمل، فهو العامل الذي ينتقل بنا من الواقع الحالي إلى الواقع المنشود، والغاية المرجوة، ويجب أن يكون العملُ مشتركًا وجماعيًا، وكلما كان هناك تعاضد أكبر وتكامل أشمل، ازدادت قوة العمل، وارتفعت احتمالات النجاح، فالعمل الجماعي هو الجوهر والمقصد في القيادة المجتمعية.

 رابعًا: جعل العمل طريقة للحياة وتعميقه واستدامته:

بناء الثقة هو الأرضية التي يقوم عليها العمل، وصناعة الغاية ورسم الخطة، هي التي ستلهم الناس وتدفعهم، وإن العمل معًا، هو الذي سيزيد احتمالات نجاحه، وشمول أثره، وتأتي الخطوة الرابعة كتتويج للخطوات الثلاث الماضية. إذ إنها تهدف إلى تعميق العمل، وضمان استمراره، مع الاستجابة الفعّالة للطوارئ والتهديدات، وتسعى لكسب المزيد من الناس.

 الخاتمة

وفي الختام فإن العمل المجتمعي الفعال هو حصيلة علاقة قوية ومعرفة كبيرة بالمجتمع المعني، وتحديدٍ واضحٍ للعمل، ووضع خطة بناءً على احتياجات المجتمع، وجعل الناس يسهمون في تنفيذها بالعمل الجماعي، وأن يكون العمل المجتمعي هو طريقةَ الحياة، ويصبح مستدامًا وجزءًا من نسيج المجتمع.

  

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...