مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 6
كيف يتعامل الابتكار الاجتماعي مع النظم والتعقيدات الاجتماعية؟
في منطقة بالقرب من حيدر آباد في الهند، كانت شانتي تجلب المياه يومياً من البئر المحلي المفتوح، والذي يبعُد عن منزلها حوالي 300 قدم، وذلك باستخدام وعاء بلاستيكي، تستطيع حمله بسهولةٍ على رأسها. فلقد كانت شانتي وعائلتها تعتمد على المياه المجانية لأجل الشرب والغسيل، وعلى الرغم من معرفتهم بأن هذه المياه ليست آمنةً وسبق وأن تسببت في تعرضهم للمرض على نحوٍ متكررٍ، إلا أنهم لا يزالون يستخدمونها، رغم وجود مركز ناندي لمعالجة المياه، والتي توفر المياه الصالحة للشرب. وقد كان لدى شانتي العديد من الأسباب لعدم استخدام المياه من مركز ناندي، ولم تكن تلك الأسباب تتعلق بالتكلفة، ولا بسهولة الوصول، فالمركز يقع على مسافةٍ قريبةٍ من منزلها، وتستطيع الوصول إليه سيراً على الأقدام، كما أن ثمن المياه رخيصٌ نسبياً، ولكنها تمتنع عن استخدام المياه بسبب سلسلة من العيوب في التصميم الشامل للنظام. فبالرغم من مقدرة شانتي على المسير إلى المنشأة إلا أنها لا تستطيع أن تحمل الوعاء الذي يطلب منها المركز أن تستخدمه، فعندما يمتلئ هذا الوعاء بالماء يصبح ثقيلاً جداً، وهو لم يصمم ليتم حمله على الرأس، كما اعتادت شانتي أن تحمل الأشياء الثقيلة. كما أن زوج شانتي لا يمكنه مساعدتها في حمله، فهو يعمل في المدينة ولا يعود للمنزل حتى تغلق محطة المعالجة، إضافة إلى أن مركز المعالجة يطلب منهم أن يشتروا بطاقةً إلكترونيةً شهريةً من أجل خمس عبواتٍ يومياً، وهو أكثر مما يحتاجونه، مما دفع شانتي للقول: "لماذا أشتري أكثر مما أحتاج وأضيع المال؟ لو سمح لي مركز المعالجة أن أشتري كميةً أقل، فهناك احتمالٌ أكبر أن أشتري منه".
باختصار لقد تم تصميم وحدة مركز المعالجة لتنتج مياهاً نظيفةً وقابلةً للحمل، ونجحت في القيام بذلك على نحوٍ ممتازٍ. فهي تعمل بشكلٍ جيدٍ بالنسبة للعديد من الناس الذين يعيشون في المجتمع، ولاسيما العائلات التي لديها زوجٌ أو أولادٌ كبار يملكون دراجاتٍ ويمكنهم زيارة محطة المعالجة خلال ساعات العمل، ومع ذلك، فوّت مصممو المركز الفرصة على أنفسهم لتصميم نظامٍ أفضل، لأنهم فشلوا في أخذ ثقافة واحتياجات كل الناس الذين يعيشون في المجتمع بعين الاعتبار.
إن تضييع الفرص، على الرغم من إدراكها بعد فوات الأوان، شائعٌ جداً في هذا النوع من الحلول الاجتماعية، إذ تتعثر المبادرات مراراً وتكراراً؛ لأنها لا تعتمد على احتياجات العملاء والمستخدمين، ولم تعمل أبداً على إنشاء نموذجٍ أولي لتصماميمها لتتلقى التغذية الراجعة منهم، وحتى عندما يخوض الناس في هذا الميدان، فإنهم يدخلون محملين بمفاهيم وتصوراتٍ مسبقةٍ حول طبيعة الاحتياجات وحلولها، وتبقى هذه الطريقة الخاطئة معياراً في كلٍ من قطاع الأعمال، والقطاع الاجتماعي.
وتحتاج التحديات الاجتماعية حلولاً نظميةً ترتكز على احتياجات العملاء أو المستخدمين، وتراعي التعقيدات الاجتماعية، وهذا هو الحيز الذي أغفله الكثير من مصممي الخدمات والمنتجات، وهو نفس المجال الذي تفوق فيه الابتكار الاجتماعي.
وفي مواجهة التحديات المتزايدة، ظل تعريف الابتكار الاجتماعي يتأرجح ضمن نطاقٍ واسعٍ من تقديم منتجٍ، أو برنامج ٍجديدٍ ذو تطبيقٍ اجتماعي (أي مرتبط بالمشروعات الاجتماعية)، إلى تلك الأنشطة التي قد تجمع بين هدفي الربح والتطوير الاجتماعي (المرتبط بمفهوم المؤسسة الاجتماعية). ولكن الابتكار الاجتماعي في جوهره هو عمليةٌ وليس نتيجة، كما أنه ليس حلاً سحرياً؛ ولكنه عبارة عن تكاتف مجموعةٍ من الأشخاص تقوم بأدوارٍ متكاملةٍ من أجل إيجاد حلولٍ مبتكرة، فهو منهجية خلّاقة لاكتشاف بذور واقعٍ اجتماعي أكثر مرونة، وعافية، وتناسباً مع الواقع الاجتماعي، وهو شكل تنظيمي جديد يحتضن وينمي المبادرات التي تركز على إحداث التغيير في بيئة لا تخلو من التعقيد، وتحديات تنطوي على العديد من أصحاب العلاقة.
أهمية الابتكار الاجتماعي
تكمن أهمية الابتكار الاجتماعي في كونه:
النظم والتحديات المعقدة
حيث يبدأ عمل الابتكار الاجتماعي
لقد ظهرت الحاجة إلى الابتكار الاجتماعي بسبب اتساع نطاق التحديات الاجتماعية المعقدة في عالم اليوم. وما تغيُّر المناخ، وفقدان بعض فصائل الكائنات الحية، وعدم المساواة الاجتماعية، والهجرة بين الدول والنزوح الداخلي، إلا مجرد أمثلة عن التحديات التي تنطوي على العديد من الجهات الفاعلة، والتي غالباً ما تحدث في مجتمعات سريعة التغير سياسياً واجتماعياً. وقد أثبتت كل سبل التخطيط التقليدي، والتطوير، واستراتيجيات الاستجابات لهذه التحديات عدم كفاءتها في معالجة هذا النوع من التحديات، حتى عُرفت باسم المشكلات العضال، أو المشكلات المعقدة، وذلك نظراً لفشل الحلول التقليدية في التصدي لها. فما هو التعقيد؟ وكيف يظهر؟
النُّظم
من أجل التمكن من العمل على تطوير المجتمع والتصدي للتحديات التي تظهر فيه، لابد بداية من فهم مكوناته، فالمجتمع في حقيقته ينطوي على عدة أنظمة تتداخل معاً في تشكيله على ما هو عليه. فما معنى نُظم؟ وما هي تلك النُّظم التي تشكل المجتمع؟
النظام هو أي جزء من الكون المادي بما في ذلك أنفسنا، وكل ما قمنا باختراعه بما في ذلك النُّظم الاجتماعية التي نختارها بغرض النظر ومناقشة مختلف التغيرات التي قد تحدث في ظل ظروف مختلفة.
العمل مع الأنظمة
عندما نتحدث عن التغيير المنهجي، علينا أن نميز بين ثلاثة أنواع مختلفة من الأنظمة:
1. الأنظمة الهندسية أو أنظمة التصميم: والتي تعرف أيضاً "بالنظام الصعب"، وهو الكيان الذي تم تصميمه وبناؤه من أجل أداءٍ متوقع وتلبية معايير الأداء، ومن الأمثلة على النُّظم الصلبة: السيارات وأجهزة الكمبيوتر والآلات، والأجهزة الأخرى. وتَكون النُّظم الهندسية الميكانيكية ونتائجها قابلة للقياس، ويمكن التنبؤ بها.
2. الأنظمة الطبيعية: وهي نظم طبيعية بيئية، لم يتم بناؤها، ولكنها وجدت من تلقاء نفسها، تتغير باستمرار، وتتكيف، وتتجدد، ولا يمكن تفسير سلوك النظام ككل من خلال علاقة سبب ونتيجة خطية. ويعدّ النظام الطبيعي نظاماً معقداً؛ فهو يتكون من كائنات حية مترابطة.
3. الأنظمة البشرية الهادفة: وتتكون الأنظمة البشرية الهادفة من الثروة البشرية، وهي مصممة لغرض معين، كالمنظمات، والمدارس، والحكومات، والفرق الموسيقية، وما إلى ذلك. وهي مصممة لخدمة وظيفة، كالنُّظم الهندسية تماماً، ومع ذلك، فهي مكونة من البشر، وبالتالي فهي أيضاً مشاركة في التكيف وعدم القدرة على التنبؤ المتعلق بالنُّظم الطبيعية. وتعرف النُّظم البشرية الهادفة أيضاً "بالأنظمة الناعمة".
وبناءً على تحديد هذه النُّظم نورد فيما يلي بعض المبادئ الأولية الميسرة في فهم النُّظم:
- توفر النُّظم الطبيعية والهندسية البيئة والأدوات التي تمكّن الناس من تطوير عالمهم.
- تتضافر النُّظم البشرية، والطبيعية والهندسية، لتشكل حدود الحقائق الاجتماعية المشتركة لدينا كالمنتجات التي نستخدمها، والتجارة، والأدوات التي نستخدمها للعيش في العالم، والقواعد والاتفاقات، والنزاعات التي تشكل علاقاتنا.
- النُّظم تتشكل عبر فترة زمنية متراكمة لتكون جزءاً مؤثراً ومتأثراً في حياة الناس.
- النُّظم متداخلة في طبيعتها وسبب تداخلها أنها تعمل في مجالات متداخلة (الجانب المادي، الجانب الاجتماعي، الجانب الاقتصادي).
- التعامل مع النُّظم يحتاج لطريقة مركبة في النظر والتفكير تراعي التداخل في العوامل التي ولّدت الظاهرة، وتسعى لفهم العوامل الحرجة، والأسباب الباعثة والمؤثرة في الظواهر التي تتشكل خلال تداخل النُّظم.
تشكُّل النُّظم والتعقيدات
تتشكل النُّظم المعقدة من التفاعل بين أكثر من نطاق، بحيث أن ما هو ممكن في نطاق (على سبيل المثال: في المجتمع) يتشكل من خلال ما يحدث في نطاق آخر (على سبيل المثال: في الثقافة الأوسع)؛ من أجل فهم الأنظمة المعقدة والعمل معها على نحو أكثر فعّالية، وفيما يلي ثلاثة أنواع مختلفة من التعقيد:
1. التعقيد الديناميكي: يوجد هذا النوع من التعقيد عندما يكون السبب والنتيجة متباعدان في الزمان والمكان، فمن المستحيل التصدي للتحدي الاجتماعي بفعّالية دون النظر إلى ما بعد الأحداث المباشرة الحالية المتعلقة به، ومعرفة الجذور الثقافية والمنهجية العميقة لذلك التحدي. وعندما تنفذ مجموعات العمل "الإصلاحات" التي تتعامل مع القضايا فقط على مستوى السطح، قد تظهر نتائج غير متوقعة، مفاجئة تماماً، وقد تعرض هذه النتائج غير المتوقعة استثمارات كبيرة من الوقت والمال، والطاقة البشرية للخطر. ففي ظل نظام التعقيد الديناميكي، لن يكون من المجدي معالجة أعراض المشكلة، وبدلاً من ذلك، يجب استخدام نهج منتظم لنصل إلى الأسباب الجذرية للمشكلة.
2. التعقيد الاجتماعي: يتواجد عندما يكون هناك جهات فاعلة متعددة لها وجهات نظر، ومصالح متنوعة في نظام معين، لا يتفقون على الحلول ولا حتى على تعريفهم للمشكلة، وعلى سبيل المثال: الناشطون في مجال البيئة، وممثلو الوكالات الحكومية، وكبار المديرين التنفيذيين في شركات النفط سيكون لديهم وجهات نظر مختلفة جداً حول الاستجابة المناسبة لأسباب تغير المناخ. وبسبب هذه النظرة العالمية، وفي سياق مشكلة معقدة اجتماعياً، غالباً ما يكون من الصعب التوصل إلى فهم مشترك لطبيعة وتعريف التحدي، وهو أمر أساسي يجب العمل عليه قبل بدء المشاركين في التصدي للتحدي. وفي ظل النظام ذي التعقيد الاجتماعي، يجب استخدام مقاربة تشاركية، فمن خلال دمج وجهات نظر متنوعة في المحادثة، كما يمكن للجهات الفاعلة اكتساب فهم مشترك للمشكلة والنظام ككل. وهذا النوع فقط من المشاركة الجماعية يمكن أن يؤدي إلى القيادة المشتركة والعمل.
3. التعقيد التوليدي: يوجد هذا النوع من التعقيد عندما يكون المستقبل غير مألوف أو غير محدد، أي عندما لا يكون هناك خرائط طريق، أو سوابق، أو ممارسات ناجحة سابقة لتوجيه الطريق إلى الأمام، حيث يترك الناس الذين يتطلعون إلى التدخل في حيز المشكلة لجهودهم الخاصة للتنقل بها على أرض غير معروفة، وهذا النوع من التعقيد يجعل من الصعب على الجهات الفاعلة التكيف مع التغيرات، والتنقل في ذلك النظام بأنفسهم، فالتضاريس نفسها تتغير وتتحول أثناء عمل المجموعة مع المشكلة المطروحة. ففي نظام التعقيد التوليدي، يجب استخدام منهجيات الطوارئ، والذي تَستخدم فيه الفرق الارتجال والتكيف الخلّاق لإحداث تغيير في النظام الخاص بهم.
تفاعل النُّظم والتعقيدات
عندما تتفاعل النُّظم مع التعقيدات تتولد تحديات اجتماعية تتميز بالخصائص الثلاثة التالية:
1. البروز المفاجئ للتحديات: يؤدي عدد من الإجراءات (من قبل الأشخاص أو المؤسسات) إلى بروز تحدٍ ما، يتميز بأنه طارئ وفوضوي ولا يمكن التنبؤ به. وقد يعطل أفضل الخطط الموضوعة، ومع ذلك تمثل هذه الأحداث والاتجاهات والأفكار الطارئة بيئة دائمة التحول مليئة بفرص التغيير. حيث تمثل العتبات الحرجة (كالأزمات الاقتصادية، والتحولات في المعتقدات، إلخ) نوافذ حقيقية لفرص التغيير.
2. كثرة المعلومات وعدم دقتها: تعمل هذه المعلومات على تعقيد الوضع من خلال خلق حلقة مفرغة، بحيث أنه كلما زادت المعلومات، كلما قيدت من القدرة على المعالجة. واستجابة لهذا الحمل الزائد من المعلومات، ويبدأ صناع القرار في إنشاء نماذج مبسطة للوضع من أجل تسهيل عملية اتخاذ القرار، مما يبعدهم أكثر عن الوقائع التي على الأرض. فقد يحتاج المعنيون أحياناً لجهد كبير مقابل نتيجة بسيطة أو معدومة. ولكن في أحيان أخرى، القليل من الجهد في الوقت المناسب (في عتبة حرجة) يخلق تأثيراً مضاعفاً ويؤدي إلى سلسلة من التغييرات التي تنتج مخرجات كبيرة، فالنُّظم المعقدة لا تخضع لقاعدة العلة والمعلول.
3. التكيف والمواءمة: من أجل استمرار الحياة في ظل مواجهة تهديدات غير مسبوقة لسبل العيش والرفاه، تكيف مجموعة من الجهات الفاعلة المتعددة تصرفاتها (أحياناً بسرعة شديدة) كاستجابة لما يعرفونه، ويرونه، ويسمعونه، وما يتعرضون له، مما يؤدي بدوره إلى تغيير الوضع الراهن مرة أخرى، وبشكل مؤقت كنوع من التعايش مع التحدي إلى أن يتم التمكن من إيجاد حل له.
موجز خارطة التحديات واستجابة الابتكار الاجتماعي
إن التعقيد الشديد الذي يحدث عند تقاطع أنواع مختلفة من الأنظمة قد يحول دون قدرتنا على إحداث تغيير اجتماعي، أو مؤسسي حقيقي، لكن التعقيد لا ينبغي أن يكون عائقاً أمام التعلم والمضي قدماً، على العكس من ذلك، يمكننا أن نرى التعقيد بمثابة دعوة للتعاون والعمل، مع يقيننا بأن العمل سيكون على مستوى جديد من التفكير: على مستوى النُّظم، وبعبارة أخرى، قد يكون التعقيد تحدياً وفرصة في آن واحد.
أحياناً تكون نتائج الابتكارات الاجتماعية عبارة عن تغيرات ثقافية إضافية تؤثر على الطرق التي يتعلم فيها الناس ويتعاونون، وفي الواقع، لا يمكن اعتبار التغيير النُّظمي نظمي ما لم يصل إلى مستوى الثقافة ويتمكن من تغيير وجهات نظر الناس، فالتغيير الثقافي يحدث غالباً من خلال الحوار والتواصل، واستخدام مهاراتنا، ومن خلال السعي لفهم ما لا نعرفه؛ يمكننا وبشكل تدريجي تطوير أنظمتنا. وعلى الرغم من أن الآثار لا تكون سريعة الوضوح، إلا أنها قد تؤدي إلى تغيير قوي، لذلك، إذا أردنا أن نغير أسس ثقافاتنا ومجتمعاتنا، وأن نولِّد بشكل جماعي شيئاً جديداً ذو جذور إبداعية، نحتاج أن نبدأ بالعمل تدريجياً، ففقط عندما ترتكز المشاريع على واقع ثقافي واجتماعي جديد يمكننا أن نتأمل في إحداث تغيير نظامي دائم وواضح.