مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 6
المظلوم "تِسلا" ... القصة من البداية إلى البداية
وسط هزيم الرعد وشدة المطر والبرق الذي أنار السماء، في منتصف الليل بالضبط، بين التاسع والعاشر من شهر يوليو عام 1856م، في قرية كرواتيّة صغيرة تسمى سميليان، كانت صرخةً مألوفة لطفل مختلف، لقد وُلد نيكولا تِسلا.
ويمكننا أن نلخّص بداية حياة هذا الطفل بثلاثة أشياء: مرض خطير كاد أن يودي بحياته، ومأساة عائلية تمثلت في موت غامض لأخيه الأكبر، وهدايا جينية ورثها عن والدته جعلته يتمتع بذاكرة عجيبة.
طوال حياته، عاش تِسلا مع ومضات من الأضواء وصورٍ تشبه الهلوسة في عقله من شدة شغفه وحماسه. ويبدو أن ذلك كان أحد الآثار الجانبية لخيال حيوي قوي سمح له بتصوير اختراعاته بشكل واضح وراسخ في عقله لدرجة أنه لم يكن بحاجة إلى استخلاصها. بل كان قادراً على رسم الاختراعات بأبعادها وتجريبها في مخيلته.
وفي عام 1875م، في مدرسة البوليتكنيك النمساوية، انتقد تِسلا صراحةً المحركات الحالية المستخدمة في جميع أنحاء العالم، فقد كان يعلم أنه يمكن إنشاء محرك أفضل لإنتاج فولتية أعلى وإرسالها لمسافات أكبر. وعلى الرغم من شكوك مدرّسيه، إلا أن تِسلا الطموح أخذ على عاتقه إيجاد الحل.
وفي عام 1882م، أخذَه بحثُه الدؤوب إلى باريس وشركة كونتيننتال إديسون، وهناك تم الاعتراف بخبرة تِسلا الكهربائية لأول مرة وتم وضعه في العمل على إصلاح محطات الطاقة في فرنسا وألمانيا، وبعد سلسلة من النجاحات، كان مديره معجباً جداً به، فكتب له رسالة توصية ليأخذها إلى توماس إديسون شخصياً، وكان هذا ما يحتاجه تِسلا، فأخذ الرسالة وتوجّه إلى أمريكا.
كانت شركة توماس إديسون مسؤولة عن تشغيل الكهرباء في معظم مدينة نيويورك، ولكن مولداته الحالية غير المستقرة والتي تعمل على مولدات التيار المباشر (DC) كانت بعيدة كل البعد عن الكمال، وعرف تِسلا ذلك.
وعندما دخل تِسلا إلى مكتب إديسون، قدّم نفسه وقدم خطاب التوصية وحاول بسرعة إقناع إديسون بفوائد التحول إلى مولّد التيار المتردد (AC)، والفرق بين مولّد التيار المباشر (DC) والمتردد (AC) هو: أن مولد التيار المباشر يمكن أن يوصل الكهرباء لمسافة ميل ونصف فقط، وبعدها لا بد من وضع مولد آخر، وهكذا. وأما مولد التيار المتردد فيمكن أن يوصل التيار لمدينة كاملة بمولد واحد فقط. فرد عليه إديسون: "دعنا عن هذا الهراء... نحن جاهزون للعمل على التيار المباشر هنا في أمريكا؛ لأن الناس تحبه، وهو الذي سأمضي معه دائماً، ولكن ربما يمكنني أن أعطيك وظيفة".
وفي نفس اليوم، طلب إديسون من تِسلا العمل على إصلاح مصنع الإضاءة على السفينة البخارية "إس إس أوريغون"، فقام تسلا بإنجاز المهمة بشكل سريع؛ مما أثار إعجاب إديسون. ولكن العلاقة المهنية لم تستمر طويلاً، فعرض إديسون صفقة على تسلا، وهي أنه إذا تمكن من تحسين تصميم مولداته، فسيكون هناك 50,000 دولار بانتظاره.
فبالنسبة لتسلا، بدا الأمر وكأنه عرض جيد. وبمرور الوقت، أعاد تصميم وتحسين 24 من المولدات الكهربائية في شركة إديسون، حتى أنه قام بتركيب عناصر تحكم تلقائية لم تكن معروفة حينئذ. ولكن، عندما حان الوقت لكي يجمع تسلا أمواله، بدا إديسون مرتبكاً وقال له: "تسلا، أنت لا تفهم روح الدعابة الأمريكية"، فقد كانت ال 50,000 دولار مجرد مزحة برأيه، وعرض إديسون بدلاً من ذلك زيادة راتبه من 18 دولاراً إلى 28 دولاراً في الأسبوع، فشعر تسلا بالخداع وقرر الاستقالة على الفور، وانتابه شعور عظيم من الإحباط والاكتئاب تجاه الفرصة التي كان ينتظرها في هذا البلد الجديد.
وبحلول عام 1888، وفي معمل صغير يبعد مسافة قصيرة عن معمل إديسون، حصل تسلا على براءة اختراعه الأولى لمحركه الخاص بتوليد التيار المتردد، ويقول تسلا: "لم يستغرق الأمر كثيراً من الوقت والتجريب حتى صممت المحرك كما رسمته في مخيلتي تماماً، وهو يعمل كما توقعت". وبحلول عام 1891، كان لديه ما مجموعه 40 براءة اختراع تتعلق بهذا المحرك.
فجذب هذا النشاط انتباه جورج وستنجهاوس (وهو رجل أعمال قوي يتطلع لمنافسة إديسون)، إذ أيقن وستنجهاوس أن محركات تسلا تتفوق على محركات إديسون من جوانب عدة، وسرعان ما بدأ تِسلا ووستنجهاوس في العمل، لتشتعل حرب التيارات بين تسلا وإديسون، وكان العقد المادي بين تسلا ووستنجهاوس مجحفاً في حق تسلا، لكنه اضطر لقبوله سعياً وراء تحقيق أحلامه وابتكاراته.
ومنذ الطفولة، حلم تسلا بتسخير قوة شلالات نياجرا، فكان من أول مشاريعه في المدرسة بناء نموذج عمل لتوربين مائي، وقد أصبح حلمه حقيقة عندما تلقى خبراً من جورج وستنجهاوس أنه حصل على عقد لبناء أول مولدات كهربائية في شلالات نياجرا، فأشرف تسلا على التصميم والتركيب، وبحلول عام 1896، تم تشغيل أول محطة طاقة، وإرسال 15,000 حصان من الكهرباء 26 ميلاً إلى مدينة بافالو المجاورة، فحقق المشروع نجاحاً كبيراً لدرجة أنه حتى شركة إديسون جنرال إلكتريك لم تستطع إنكار فعاليته، فأصبح تسلا ونظامه الثوري حديث المدينة.
وعلى الرغم من نجاح إنجازاته مع التيار المتردد وتوليد الطاقة من شلالات نياجرا، لم يكن نيكولا تِسلا ليستكين، فتلك الطاقة الكامنة فيه كانت تدفعه باستمرار لاستكشاف الأفكار الجديدة وتجريبها، فعاد بسرعة لإجراء التجارب في مختبره في مدينة نيويورك، وكان هذا المختبر مرتعاً للابتكار، فتوصل بأبحاثه إلى اكتشافات كبيرة في مجال الاتصالات اللاسلكية والأشعة السينية والراديو وأجهزة التحكم عن بعد وغيرها.
وكانت الصحف تشكك في هذه التكنولوجيا الجديدة، فتساءل البعض عن مدى أمان عمليات إرسال الإشارات عن بعد ضد التداخل أو الاعتراض، ولم يكونوا على دراية بأن تسلا قد طور بالفعل وأتقن خطوط اتصال آمنة، فأثبتت هذه الأفكار والعديد من الأفكار الابتكارية الأخرى أنها سابقة لأوانها.
لكن كل هذا البحث وأكثر فُقِد في صباح 13 مارس 1895 عندما اكتشف تسلا أن مختبره قد احترق بشكل كامل ليلاً، ويُعتقد أن التجارب التي تعتمد على إنتاج الأكسجين السائل قد تسببت في الكارثة.
وكان الأمر كارثياً وانتكاسة كبيرة لأبحاث تسلا واختراعاته، بل كانت انتكاسة للمجتمع العلمي كله في ذلك الوقت، ولكن بعد الحداد لفترة على خسائره، بدأ تسلا في بناء مختبر جديد بمساعدة من معارفه من مشروع نياجرا، ولقد استقر من حيث توقف في تجارب التحكم عن بعد.
ولقد تصور تسلا العديد من الاستخدامات المستقبلية للتكنولوجيا، ولكنه كان صريحاً حول إمكانياتها العسكرية، واصفاً رؤيته للروبوتات التي يتم التحكم بها عن بعد تقاتل في الحروب وتدافع عن البلدان، على الرغم من أن تسلا كان يؤمن دائماً بأن التكنولوجيا ستنهي الحرب تماماً. وفي نفس الوقت الذي كان يقدم فيه تسلا عروضه للتحكم بالقوارب عن بعد، كان يروّج لنظريات حول تسخير الطاقة الشمسية ويستكشف أيضاً ما أسماه “Telegeodymanics”، وهو حقل يستخدم مبادئ الاهتزاز لإرسال الموجات لاسلكياً عبر الأرض للكشف عن النفط والمعادن في باطن الأرض.
وعلى الرغم من طلبات التمويل، فإن المستثمرين المقربين مثل وستنجهاوس رفضوا مساعدة تسلا على جعل هذه التقنيات حقيقة واقعية في حياته، وعلى الرغم من عقله الفضولي إلى ما لا نهاية، كان تسلا مهووساً بفكرة واحدة لمعظم حياته، وهي: القدرة على تشغيل العالم بالكهرباء اللاسلكية.
ولم يستطع تسلا جمع التمويل الكافي لجعل حلمه حقيقة، وأفلس وهو يسعى في تحقيق ما يصبو إليه، فاضطر أخيراً لاعتزال الحياة العلمية، وصار يقضي جُلّ وقته في إطعام الحَمام.
وعلى الرغم من كل الصعاب والنكبات، ظل تسلا يتمتع برؤية عجيبة وفكر ابتكاري لا يستكين، ففي مقال نشر عام 1917، وصف تسلا بدقة تقنية الرادار الحديثة، وكان وصفه لتيار من الشحنات الكهربائية التي ترتد من الأشياء للكشف عن مواقعها هو الإلهام الأساسي للدكتور إيميل جيراردو، الذي قام فريقه ببناء وتركيب محطات الرادار في فرنسا في عام 1934. كما وصف تِسلا في مقابلة عام 1926 مع مجلة كوليير أجهزة الجوال التي بين أيدينا اليوم.
وعندما توفي تسلا وحيداً في غرفته في الفندق عن عمر يناهز 86 عاماً في 7 يناير 1943، ترك بعض الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها، وقد قامت الحكومة الأمريكية بمصادرة أوراق تسلا وممتلكاته، وتردد أن هذا قد يكون بسبب أن تسلا يتحدث عن عمله على تقنية شعاع الجسيمات القوية والمسلحة التي قدمها كحل آخر لإنهاء الحرب، ولم يتم العثور على أية أوراق حول تفاصيل أي شعاع من هذا القبيل، وكما هو الحال مع معظم اختراعات تسلا، من المرجح أن التصميم عاش بالكامل في مخيلته.
وربما كان نيكولا تِسلا أعظم عقل مبدع عرفته أمريكا على الإطلاق، وعندما يتعلق الأمر بمجال الكهرباء، فلن تجد مثيلاً له ولمخيلته العجيبة، وعلى الرغم من كل التحديات والصعوبات التي واجهها لم ينكسر ولم يستكن، ولم يتضاءل إبداعه أبداً ولم تنثني عزيمته ولم ينحصر خياله.
وبعد هذا كله، دعونا نعود في الزمن إلى عام 1882، ماذا لو فكّر تِسلا وتفكّر، ثم قرر الهجرة شرقاً بدلاً من الغرب؟ ماذا لو قرر الهجرة إلى بلاد العرب؟ أين سينزل ومن أي مدينة برأيكم سيبدأ؟ ماذا يمكن أن يصنع؟ ثَمة بداية جديدة في المقال القادم، تابعونا ...