الابتكار الاجتماعي
كيف تتبنى الشركات التعلم باعتباره مهارة أساسية

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 6

كيف تتبنى الشركات التعلم باعتباره مهارة أساسية

كانت هناك غرفةٌ صغيرة ذات مظهرٍ غريب مليئة بالأثاث العتيق، مثل كرسيٍ بذراعين وخزانة ذات أدراج وطاولة، يتم إعدادها في منتصف مكاتب بالو ألتو انفوسيس في نوفمبر، كما كانت السترات الصوفية تتدلى من رف الملابس وكان من المقرر تسليم البيانو قريباً. وكان التنسيق فظاً وغير مكتمل، الأمر الذي كان -وفقاً لسانجاي راجاجوبالان- هو النقطة الأساسية عموماً.

والسيد راجاجوبالان هو رئيس قسم البحث والتصميم في شركة خدمات الأعمال الهندية، وهو أحد تلاميذ "التفكير التصميمي"، وهي منهجية لحل المشكلات متجذرة في مراقبة المبتكرين الناجحين، ولديه هدفٌ طموح ألا وهو تحويل شركةٍ أنشأت شركة عالمية متخصصة بالنقل إلى الخارج من خلال اتباع مواصفات العميل إلى شركةٍ يمكنها تحديد نطاق مشاريعها لنفسها.

ويؤكد التفكير التصميمي على العمل أكثر من التخطيط ويشجع أتباعه على النظر إلى المشكلات من خلال عيون الأشخاص المتضررين، ولقد خاض حوالي 100.000 موظف من شركة انفوسيس سلسلة من ورش العمل حول هذا الموضوع، حيث تحدد ورشة العمل الأولى من نوعها للمشاركين مهمة (على سبيل المثال) تحسين تجربة التصوير الرقمي. ويتضمن ذلك الانتقال من فكرة صنع كاميرا أفضل إلى التفكير في سبب تقدير الناس للصور في المقام الأول، مثلاً لكونها طريقة للاحتفاظ بالذكريات. ومع تدفق الأفكار، يبدأ الأشخاص المشاركون في ورش العمل على الفور في إعداد نماذج أولية بمواد بسيطة مثل الكرتون والورق. ويقول راجاجوبالان: "الاتجاه السائد هو التخطيط المطول قبل الإنشاء، ولكنّ نهجنا هو الإنشاء ثم الإنشاء ثم الإنشاء ثم الاختبار ثم التخطيط".

وكان هذا التنسيق المحير في بالو ألتو أداةً تعليميةً أخرى، ولقد كلف السيد راجاجوبالان فريقاً صغيراً بإعادة تصور تجربة البيع بالتجزئة الرقمية، وبدلاً من إنشاء موقع آخر للتجارة الإلكترونية، كانوا يجربون التقنيات لإضفاء الحيوية على مساحةٍ ماديةٍ معينة. (إذا جلس المتسوق المرهق على الكرسي، على سبيل المثال، فإن إبريق الشاي على طاولة مجاورة سيتم تحضيره تلقائياً). وتم توثيق إنشاء النموذج الأولي للمتجر في مكاتب انفوسيس حتى يتمكن الموظفون من رؤية التفكير التصميمي قيد التنفيذ.

وتتخبط شركة انفوسيس مع مسألة هامة وهي: ما الذي يجب على الناس أن يكونوا بارعين فيه لينجحوا في عملهم؟ مهما كانت الوظيفة، فإن الإجابة ستشمل دائماً بعض المهارات التقنية والمحددة، وذلك بناءً على المعرفة والخبرة في مجالٍ معين. ولكن مع التفكير التصميمي، تركز انفوسيس على "المهارات الأساسية" مثل الإبداع وحل المشكلات والتعاطف مع المستخدمين. وفي الوقت الذي يمكن للآلات أن تُخجل الإنسان وتهمشه عند أداء المهام الروتينية الخاصة بوظائف محددة التي كانت شركة انفوسيس قد أخذتها للخارج، فمن المنطقي التفكير في المهارات التي يصعب على أجهزة الكمبيوتر تعلمها.

أظهر ديفيد دمينغ من جامعة هارفارد أن سوق العمل يكافئ بالفعل الأشخاص في المهن التي تتطلب مهاراتٍ اجتماعية، ومنذ عام 1980، كان النمو في التوظيف والأجور في ميزان الدخل هو الأسرع في المهن التي تُوْلي أهمية كبيرة للمهارات الاجتماعية (انظر الرسم البياني).

 

20170114_SRC360.png

والمهارات الاجتماعية مهمة لمجموعة واسعة من الوظائف، ليس فقط للعاملين في مجال الرعاية الصحية والأطباء النفسيين وغيرهم من الأشخاص المقربين من عملائهم، ويعتقد السيد ديمينغ أن القيمة الأساسية لهذه المهارات تكمن في العلاقة بين الزملاء، فالأشخاص الذين يمكنهم تقسيم المهام بسرعة وفعالية بينهم يشكلون فِرقاً أكثر إنتاجية. وإذا كان سيتم تنفيذ العمل في المستقبل أكثر فأكثر من قبل الموظفين المتعاقدين والمستقلين، فإن هذه القدرة على التعاون ستصبح أكثر أهمية. وحتى الأشخاص غير المؤهلين اجتماعياً يجب أن يتعلموا هذه المهارات. ويلاحظ ريان روسلانسكي، الذي يشرف على مشاركة "لينكد إن" في التعليم عبر الإنترنت أن العديد من مهندسي البرمجيات يأخذون دورات في الإدارة والاتصالات على الموقع من أجل صقل واستكمال أنفسهم.

إنشاء متعلمين أفضل:

من المهارات الأخرى التي تزداد أهميتها في العثور على وظيفة والاحتفاظ بها هي القدرة على مواصلة التعلم، وعندما تتغير التكنولوجيا بطرقٍ غير متوقعة وتصبح الوظائف مختلطة، سيحتاج البشر إلى أن يكونوا قادرين على اكتساب مهاراتٍ جديدة. وفي شركة انفوسيس، يؤكد السيد راجاجوبالان على "سرعة التعلم" -وهي عملية الانتقال من سؤال إلى فكرة جيدة في غضون أيام أو أسابيع. وتحدث إريك شميدت (الرئيس التنفيذي الحالي لشركة ألفابيت، وهي: شركة قابضة للتكنولوجيا تعد جوجل أكبر عنصرٍ فيها) عن تركيز التوظيف في جوجل على "تعلم عالم الحيوانات". كما يضع مارك زوكربيرج، أحد مؤسسي فيسبوك، لنفسه أهدافاً تعليمية شخصية جديدة كل عام.

ولطالما كان التركيز على التعلم سمة مميزة لشركة يونايتد تكنولوجيز"UTC" (وهي خليط من المشاريع تشمل أعمالها شركة برات آند ويتني صانعة محركات الطائرات، وشركة أوتيس المصنعة للمصاعد). ومنذ عام 1996، تدير شركة يونايتد تكنولوجيز برنامجاً يمكن لموظفيها بموجبه الحصول على درجاتٍ بدوامٍ جزئي والحصول على رسوم دراسية تصل إلى 12.000 دولار سنوياً يتم دفعها لهم بدون شروط. وغالباً ما يرفض أصحاب العمل تدريب الموظفين لأنهم قد يذهبون إلى المنافسين، آخذين معهم مهاراتهم المكتسبة المكلفة، لكن جيل جاكسون (نائبة رئيس الموارد البشرية في الشركة) تتبنى وجهة نظر مختلفة، حيث تقول: "نريد أشخاصاً لديهم فضولٌ فكري، ومن الأفضل أن تدربهم وتدعهم يغادرون على ألا تدربهم وتجعلهم يبقون".

وبدأت هذه المواقف تصبح أكثر شيوعاً، فعندما تولى "ساتيا ناديلا" منصب رئيس شركة مايكروسوفت في عام 2014، اعتمد على أعمال كارول دويك (أستاذة علم النفس في جامعة ستانفورد) لدفع ثقافة الشركة نحو اتجاهٍ جديد، حيث يقسّم السيد دويك الطلاب إلى مجموعتين: أولئك الذين يعتقدون أن القدرة فطرية وثابتة (الدافع المثبط للتعلم)، وأولئك الذين يعتقدون أنه يمكن تحسين القدرات من خلال التعلم، وإن "عقلية النمو" هذه هي ما تحاول الشركة تشجيعه، كما قامت بتعديل معايير استعراض الأداء لتشمل تقييماً لكيفية تعلم الموظفين من الآخرين ومن ثم تطبيق تلك المعرفة. كما أنشأت بوابة داخلية تدمج موقع ليندا، وهو مقدم التدريب الذي اشترته "لينكد إن" (والذي تشتريه مايكروسوفت نفسها الآن).

وتواجه شركة "AT&T"، وهي شركة اتصالات وإعلام تضم حوالي 300.000 موظف مشكلتين كبيرتين في القوى العاملة، وهي سرعة تغير المهارات المطلوبة في عصر البيانات الضخمة والحوسبة السحابية، وتنقّل الموظفين المستمر الذي يترك الشركة مضطرة لملء 50.000 وظيفة سنوياً. ويعد التوظيف من الخارج أمراً صعباً ومكلفاً وقد يتسبب في الشعور بالسوء بين الموظفين الحاليين، وحل الشركة هو إعداد خطة طموحة لإعادة تأهيل موظفيها.

ويمتلك كل موظف ملفاً شخصياً وظيفياً يبقيه لنفسه والذي يحتوي على سجلٍ بمهاراتهم وتدريبهم، ولديهم أيضاً إمكانية الوصول إلى قاعدة بيانات تسمى "الذكاء الوظيفي"، والتي توضح لهم الوظائف المعروضة داخل الشركة، والمهارات التي يحتاجون إليها ومقدار الطلب عليها. ولقد طورت الشركة دورات قصيرة تسمى "nanodegrees" مع اوداسيتي (مزود نظام الموك)، وتعمل أيضاً مع الجامعات على وضع المناهج الدراسية، ويعمل الموظفون في وقتهم الخاص لبناء مهاراتهم. لكن شركة "AT&T" تطبق منهجي الترغيب والترهيب معاً لتشجيعهم وذلك عن طريق المساعدة السخية في الرسوم الدراسية (بلغ مجموعها 30 مليون دولار عام 2015) لأولئك الذين يتلقون الدورات الدراسية، وإعطاء تقييمات سلبية لأولئك الذين لا يظهرون أي اهتمام.

وعندما يصبح التعلم المستمر أولوية مؤسسية، ينشأ سؤالان، أولاً: هل يمكن للشركات أن تفرز المرشحين والموظفين على أساس الفضول، أو ما يسميه علماء النفس "الحاجة إلى المعرفة"؟ يعد العبور من الجامعة بديلاً تقريبياً جداً لهذا النوع من المهارات التأسيسية، مما يساعد في تفسير سبب قيام العديد من أصحاب العمل باشتراط درجاتٍ معينة على الوظائف التي لا تتطلبها في ظاهر الأمر.

فضوليٌ أكثر وأكثر:

يتم أيضاً تجربة المزيد من الأساليب التي تعتمد على البيانات، وتُجري شركة من باور الاستشارية للموارد البشرية حالياً تجارب على تطبيقٍ من شأنه أن يعطي درجاتٍ للأفراد بناء على "قابليتهم للتعلم". وتقدم شركة ناك "Knack" الناشئة سلسلة من التطبيقات التي هي في الواقع اختبارات نفسية محببة. ففي تقنية داشي داش (Dashi Dash) _على سبيل المثال_ يلعب المشاركون دور النادل ويُطلب منهم تلقي طلبات العملاء على أساس التعبيرات (التي يصعب قراءتها غالباً). ومع وصول المزيد والمزيد من العملاء، تصبح مهمة إدارة سير العمل أكثر صعوبة. ويتم تسجيل كل قرار وكل تغيير دقيق في الاستراتيجية كنقطة قياس وإرسالها إلى السحابة، حيث تحلل خوارزميات تعلم الآلة قدرات اللاعبين مقارنةً بمجموعة مرجعية مؤلفة من 25.000 شخص. والقدرة على قراءة التعبيرات تكسب نقاطاً من حيث التعاطف، حيث أن قرار خدمة العملاء دائماً وفقاً للترتيب الذي وصلوا به في اللعبة، على سبيل المثال، قد يكون بمثابة مؤشرٍ على النزاهة. والفضولُ الفكري هو أحد السمات التي تختبرها تقنية ناك.

أما السؤال الثاني هو هل كان من الممكن تدريب الناس على التعلّم، وهل تساعد تقنيات التصوير في اكتشاف ما يدور في ذهن الشخص الفضولي؟ وفي دراسة نُشرت في عام 2014 في مجلة نيرون Neuron"" المتخصصة في علم الأعصاب طُلب من المشاركين أولاً تقييم فضولهم لمعرفة إجابات الأسئلة المختلفة، وفي وقتٍ لاحق عُرضت عليهم إجابات لهذه الأسئلة، بالإضافة إلى صورةٍ لوجه شخص غريب؛ وأخيراً، تم اختبارهم عند تذكرهم للإجابات وخضعوا لاختبار التعرف على الوجوه. وأدى الفضول الأكبر إلى الاحتفاظ بالمعلومات والصور بشكلٍ أفضل في كلا الاختبارين، وأظهرت فحوصات الدماغ نشاطاً متزايداً في نظام الدوبامين الميزوليفي، ومسار المكافأة في الدماغ، وفي منطقة الحُصين، وهي منطقة مهمة لتكوين ذكريات جديدة.

ولعل الوقت لا يزال مبكراً جداً لمعرفة ما إذا كان يمكن تدريس سمات معينة مثل الفضول، ولكن أصبح من الأسهل تحويل الأفراد إلى متعلمين أكثر فاعلية من خلال جعلهم أكثر وعياً بعمليات التفكير الخاصة بهم. وأصبحت الفرضيات حول ما يصلح في التعليم والتعلم أسهل للاختبار بسبب ظهور التعلم عبر الإنترنت. وأطلق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مبادرةً لإجراء بحثٍ متعدد التخصصات في آليات التعلم وتطبيق الاستنتاجات على التدريس الخاص به، سواء عبر الإنترنت أو خارجه. وهو يستخدم منصات الإنترنت الخاصة به، بما في ذلك منصة الموك التي تم تأسيسها بالاشتراك مع جامعة هارفارد والتي تسمى "edX"، لاختبار الأفكار. وعندما طُلب من المشاركين على منصة الموك تدوين خططهم للاضطلاع بدروةٍ تدريبية، على سبيل المثال، كانوا أكثر احتمالاً بنسبة 29% لإكمال الدورة التدريبية من مجموعة المقارنة التي لم يكن عليها القيام بذلك.

ويمكن تخصيص المعلومات حول استراتيجيات التعلم الفعالة أيضاً وجعلها شخصية. وتستخدم الجامعة المفتوحة، وهي مؤسسة بريطانية للتعليم عن بعد، أدوات المتابعة لمراقبة سلوك الطلاب الفرديين وأدائهم عبر الإنترنت. وتوصي شركة كنيوتن، التي تسجل منصتها بيانات عن 10 ملايين طالب أمريكي حالي، بإنشاء محتوى مخصص لهم. وإن مساعدة الناس على أن يكونوا أكثر وعياً بعمليات التفكير الخاصة بهم عندما يتعلمون تزيد من احتمال اكتسابهم مهاراتٍ جديدة في وقتٍ لاحق من الحياة.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...