الابتكار الاجتماعي
تطبيق "ZOOM" والتعبُ الذي يعقب استخدامه

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 6

تطبيق "ZOOM" والتعبُ الذي يعقب استخدامه

في عام 1973 ثار بركان "الدفيل" الذي كان خاملاً لفترة طويلة، وقد دمر الثوران الناجم عن هذا البركان الموجود في جزيرة "هيماي" قبالة آيسلندا حوالي 400 منزل، وهو ثلث إجمالي عدد المنازل الموجودة (وقد نجا ميناء هيماي عن طريق ضخ مياه البحر في الحمم البركانية)، وعوضت الحكومة الأيسلندية الأناس غير المحظوظين الذين فقدوا منازلهم، في حين لم يعد الكثير منهم مرة أخرى.

ولكن عندما درس كلٌّ من "إيمي ناكامورا" و"جون ستينسون" (من جامعة كاليفورنيا في بيركلي) و"جوزيف سيغوردسون" (من المدرسة النرويجية للاقتصاد) حالَ الناس في وقت لاحق، اكتشفوا انعكاساً في الحظوظ، فمن بين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً وقت ثوران البركان، حصل من انتقل منهم على متوسط تعليم أكثر بأربع سنوات وزادت أرباحهم السنوية بمقدار 27000 دولار عن العائلات التي احتفظت بمنزلها، فقد كان في اضطرارهم إلى الانتقال مزايا كثيرة.

وتعد الكارثة التي سببتها جائحة "كوفيد-19" أسوأ بعشر مرات من الثوران البركاني، وقد صنعت تجربة هي الأخرى، ففي غضون أسابيع هجر العمال المهنيون مكاتبهم هجرةً جماعيةً من أجل العمل من المنزل، واستُبدلت الاجتماعات باتصالات على تطبيق "Zoom"، واستبدلت التنقلات اليومية للعمل بالجلوس لساعات أطول خلف المكتب، فقد أدت التجربة إلى تحسينات بالنسبة للكثيرين كما فعلت للأيسلنديين.

ويقول سبعة من كل عشرة أمريكيين متضررين: أن الأمر قد سار بشكل أفضل أو أفضل بكثير مما توقعوه، وذلك وفقاً لمسح أجراه "خوسيه ماريا باريرو" (من المعهد التكنولوجي المستقل في المكسيك) و"نيك بلوم" (من جامعة ستانفورد) و"ستيفن ديفيس" (من جامعة شيكاغو). ويعتقد بلوم أن المنازل هي من أنتج ثلثي الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في شهر مايو، وهو تحولٌ في أساليب الإنتاج لا مثيل له عندما لم تكن هناك جائحة.

وإن الفكرة القائلة بأن الاضطراب يمكن أن يؤدي إلى التحسين هي فكرة متماشية مع ما هو رائج، حيث يروج لها كتّاب مثل "تيم هارفورد" الذي يدعو إلى "الفوضى"، و"نسيم نيكولاس طالب" الذي يسمي الأشياء التي تتحسن بعد الاضطراب بأنها "متينة"، وقد لخص "ميشيل أكوتو" من جامعة ملبورن وثلاثة مؤلفين مشاركين دليل ذلك في ورقة ستصدر قريباً.

فغالباً ما سيستمر وجود المدن التي تم بناؤها لاستغلال ميزة المواقع التي اختفت ما لم تجتاحها كارثة، فعندما واجه ركاب لندن إضرابات في المترو عام 2014، وجد عدد كبير منهم طرقاً جديدة للوصول إلى العمل، ويُقدر أن الإضراب قد وفر الوقت الذي يستغرقه التنقل أكثر مما كلف، كما تؤدي فترات الركود إلى "تدمير إبداعي"، فحسب ما صاغه "شومبيتر": الشركات الأمريكية في المناطق الأكثر تضرراً من الأزمة المالية أعادت هيكلة الإنتاج نحو استخدام أكبر للتكنولوجيا، مما ترك بصمة على أسواق العمل استمرت حتى بعد عودة البطالة إلى مستوياتها الطبيعية، لكن حجم ونتائج تجربة العمل من المنزل لهذا العام تتجاوز أي مثال سابق.

ويبدو اكتشاف الشركات والعاملين المفاجئ لمزايا العمل عن بعد اكتشافاً غير منطقي؛ فالتكنولوجيا التي تسمح بذلك ليست وليدة اليوم، ويبدو الأمر مناقضاً للفكرة الشائعة عن كيفية عمل الاقتصاد العالمي، وفي عام 1997 كتبت "فرانسيس كايرنكروس" والتي كانت تعمل وقتها في مجلة The Economist)) كتاباً أسمته "نهاية المسافات"، قائلة بأن تكنولوجيا الاتصالات تجعل الموقع أقل صلة بالعمل والحياة الشخصية، وقد بدا أن العقدين التاليين يتحديان فرضيتها؛ حيث تَركّز النشاط الاقتصادي في المدن الناجحة مثل سان فرانسيسكو، ونيويورك، ولندن، وطوكيو، وسيدني، ويعتقد الكثيرون أن تفسير هذا يكمن في الآثار الناجمة عن التكتل للجمع بين العاملين في مجال المعرفة، فالعلاقات المثمرة بين الناس تنمو بشكل كبير عند جمع عدد كبير من الناس في مكان واحد. وذلك قبل التفكير في التفضيلات التي قد تكون لدى العاملين في كل من الثقافة والخدمات المتجمعة في المدن الكبرى.

فهل يمكن لكل هذا أن يتغير نتيجةً لحدث واحد؟ ما تخبرنا به الدراسات الاستقصائية للشركات والعاملين بأن هذا ممكن جزئياً، فهم يقولون بأن الجائحة قد قللت من وصمة العار التي تلحق بالعمل من المنزل، وحفزت الشركات على الاستثمار في التجهيزات اللازمة لجعل العمل التعاوني عن بعد أمراً ممكناً، وأثبتت أن مجموعة البرامج والأجهزة التي تسمح بالعمل من المنزل هي -في معظمها- موثوقة.

ووفقاً لبلوم وزملائه، توقعت الشركات الأمريكية أن نسبة أيام العمل من المنزل ستقفز من 5٪ قبل "كوفيد-19" إلى حوالي 20٪ بعده، وهو رقم يتوافق مع متوسط ​​رغبة العمال، ويُحتمل أن تتبنى العديد من الشركات نموذجاً تقسم فيه أعداداً هائلة من ساعات عملها بين العمل الفردي من المنزل والمشترك في المكتب.

ولن يؤدي هذا التقسيم إلى القضاء على المدن اللامعة أو الآثار التي أحدثها التكتل، إذ تحتاج الشركات إلى مكاتب لدمج الموظفين ومراقبة الأداء وبناء العلاقات ونشر المعرفة، ولا يزال الكثير من الناس، وخاصة الشباب، يرغبون في التجمع والاحتفال، كما تظهر الحفلات الموسيقية المكتظة في "ووهان"، ولا يزال الناس بحاجة إلى الالتقاء بشكل شخصي، وقد وجدت الأبحاث الحديثة التي أجراها "ميشيل كوسيا" من جامعة كوبنهاغن لتقنية المعلومات وكل من "فرانك نيفكي" و"ريكاردو هاوسمان" من جامعة هارفارد، أن الإغلاق الدائم لسفر العمل الدولي من شأنه أن يقلّص الناتج الإجمالي العالمي بنسبة صاعقة تبلغ 17٪ من خلال إعاقة تدفق المعرفة عبر الحدود، ويبدو التحول إلى العمل عن بعد مثيراً للفضول كظاهرة "الأنجلوسفير" أي: البلدان الناطقة بالإنجليزية، وقد سبق عمال أوروبا القارية عمال بريطانيا وأمريكا في الرجوع إلى المكتب.

ومع ذلك، فإن التحول سيؤدي إلى تغييرات هيكلية كبيرة، أحدها أن العديد من الوظائف التي فُقدت بسبب "كوفيد-19" لن تعود؛ لأن سوق العمل سوف يتكيف مع عالم يقل فيه الإنفاق في المدن ويكثر الإنفاق في الضواحي وعلى الإنترنت.

وبناءً على الدراسات الاستقصائية وأسعار الأسهم، يتوقع بلوم وزملاؤه أن ثلث إجمالي فقدان الوظائف أثناء الجائحة أو أكثر من الثلث سيكون فقداناً دائماً، وسيشكل هذا صدمة كبيرة للكثيرين ممن ما زالوا يتوقعون عودة وظائفهم، فحيث أُبلغ عن 19٪ فقط من إجمالي عمليات التسريح الأمريكية منذ آذار أنها دائمة، ولكن بحلول آب قد استعادت العمالة الإجمالية أقل من نصف خسائرها في هذا العام.

وثاني هذه التغيرات هو فترة ارتفاع نسبة التفاوت، إذ عادة ما تكون حالات الركود أسوأ بالنسبة للفقراء ومن لا يملكون مهارة بالمقارنة مع غيرهم، لكن الجائحة كانت سيئةً بالنسبة لهم حتى بعد الضربة الشديدة التي لحقت بسوق العمل، ووفقاً لورقة عمل أعدها "إيبي شيباتا" من صندوق النقد الدولي، فقد كانت نسبة فقدان الوظائف كبيرة بين العاملين في مجال الخدمة (يُرجح أن يكونوا صغاراً في السن وإناثاً وسمر البشرة) الذين يعتمد توظيفهم على إنفاق المهنيين ذوي الدخل المرتفع، وكشفت بيانات صادرة عن منظمة "Opportunity Insights" (وهي تضم فريقاً من الباحثين في جامعة هارفارد): أنه  في أمريكا بحلول نهاية شهر يوليو، قل عدد الوظائف التي تصل رواتبها السنوية إلى أكثر من 60.000 دولار بنسبة 2٪ مقارنة بشهر يناير، في حين قلت الوظائف التي تقل رواتبها عن 27.000 دولار بنسبة 16٪.

ويشير كل من "ديفيد أوتور" و"إليزابيث رينولدز" من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن العاملين الذين يطبخون ويوصلون ويحيكون ويؤدون العروض الترفيهية للأشخاص العاملين خارج المنزل يمثلون حوالي ربع العمالة الأمريكية، فغالباً ما يتم التأسف على العدد الكبير من وظائف الخدمة منخفضة الأجر، ولكن وجود عدد قليل جداً من الوظائف منخفضة الأجر وغير الآمنة اقتصادياً هو في الواقع أسوأ من وجود عدد كبير جداً منها.ولقد أدت المبالغ الهائلة التي أنفقتها الحكومات على تعويض الأجور المفقودة إلى الحد من الأثر غير المتكافئ لفقدان الوظائف على دخل الأسرة، ومن المحتمل أن يكون معدل الفقر في أمريكا قد انخفض في الأشهر الأولى من الجائحة، ووفقاً لـ "جيهون هان" من جامعة تشجيانغ و "بروس ماير" من جامعة شيكاغو و"جيمس سوليفان" من جامعة نوتردام، فقد حصل الأمريكيون على شيكات بقيمة 1200 دولار وعُزز تعويض البطالة بمقدار 600 دولار في الأسبوع.

هذا وانخفض الإنفاق الاستهلاكي في الرموز البريدية للمناطق منخفضة الدخل في آب انخفاضاً بسيطاً عما كان عليه في يناير، وذلك على الرغم من انهيار الوظائف، ولكن الكونجرس أنهى هذا الدعم، ومع توقف الحكومات عن تعويض دخل الأسرة، سيُرفع الحجاب كاشفاً عن سوق عمل أكثر تفاوتاً.

وقد لا يدوم هذا الأمر، حيث ستحل وظائف الخدمات الجديدة -مثل توصيل الطلبات للمنازل ومطاعم الضواحي- في نهاية الأمر محل الوظائف المفقودة في مراكز المدن.، ولكن تحولات كهذه تعد مؤلمة، ومن المهم أن نحدد من يتحمل العبء الناتج عنها، ويقول "جيسون فورمان" من معهد بيترسون الذي يعتبر مركزاً للأبحاث و"ويلسون بأول الثالث" من جامعة هارفارد: إنه حتى في حال استبعاد جميع العمال الذين يصرون بتفاؤل على أنهم قد سُرحوا من العمل بصورة مؤقتة، يبقى معدل البطالة في أمريكا في شهر أغسطس 6.6٪، وهذا يعادل تقريباً مستويات البطالة في أوائل عام 2014، أي قبل وقت طويل من القول إن سوق العمل يتمتع بصحة جيدة.

 فحتى لو انخفضت البطالة الآن بسرعة، كما حدث بعد الركود في أوائل الثمانينيات، فسيستغرق الأمر أكثر من عام للتخلص من فقدان الوظائف فقط.

نقاط حول تدبير شؤون المنازل

قد يؤدي ثالث التغيرات التي سيحدثها التحول إلى زيادة النمو وتقليل عدم المساواة على المدى الطويل، ويتمثل هذا التأثير في أن العبء الذي يلحق بالاقتصاد العالمي من نقص المساكن في المدن الناجحة المحيطة به سيكون أقل إحكاماً، وقد أدى نقص المساكن إلى الحد من النمو عن طريق إبطاء آثار التكتل الذي يعتمد على المساكن، فضلاً عن تشكيله حواجزاً أمام الفرص من خلال جعل انتقال الفقراء والشباب إلى وظائف أفضل أمراً أكثر صعوبة، كما وسعوا الانقسامات بين ملاك المنازل، الذين حققوا مكاسباً غير متوقعة من أسعار المساكن والمستأجرين.

 ووفقاً لأحد التقديرات، فسيكون الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي أعلى بنسبة 3.7٪ إذا كانت القيود التنظيمية على عملية البناء متساهلة في كل من نيويورك وسان خوسيه وسان فرانسيسكو كما هو الحال بالنسبة لمتوسط المدن الأمريكية.

ولكن زيادة العمل عن بعد ستوزع الفرص على الاقتصاد بغض النظر عن تكاليف السكن، وفي أفضل الأحوال سيتغلب الإنترنت على المدن في جنيه للأرباح، ويشير "آدم أوزيميك" وهو خبير اقتصادي في موقع "Upwork" (وهو موقع إلكتروني خاص بمن يعمل بشكل مستقل): أنه من حيث المبدأ، يمكن لأعداد أكبر من الناس التجمع والتفاعل عبر الإنترنت مقارنة بالقرب المادي.

وعلاوة على ذلك، فإذا أصبح ممكناً لأرباب العمل توظيف أي شخص لديه اتصال بالإنترنت عوضاً عن أن ينحصر اختيارهم بين من هم ضمن المدينة، فإن مجموعة المرشحين المحتملين تزداد بشكل كبير، وبالتالي يحصل تطابق أنسب بين أرباب العمل والموظفين مما يؤدي إلى زيادة النمو، وربما في النهاية إلى إطلاق العنان لمكاسب الإنتاجية المحسوبة التي وعدت بها التحسينات التكنولوجية في القرن الحادي والعشرين منذ فترة طويلة، ولكنها فشلت في تحقيقها.

فما الذي يتطلبه تحقيق هذه الرؤية المتفائلة؟ ستحتاج الشركات إلى مواصلة تجربة التغيير بدلاً من الدخول في حالة روتينية جديدة، ويرى البعض أن مستقبل العمل التعاوني عن بُعد ليس في مؤتمرات الفيديو المنمقة، ولكن في بيئات افتراضية غامرة يمكن مقارنتها بألعاب الكمبيوتر التي يقضي فيها العديد من الأشخاص بالفعل ساعات من وقت الفراغ دون المعاناة مما يسمى "إجهاد استخدام تطبيق Zoom"، حيث يمكن لمثل هذه البيئات أن تخلق إحساساً أفضل بالخبرة المشتركة والتفاعل البشري العفوي وبالتالي بناء العلاقات. (تحدّث السيد بلوم مؤخراً في مؤتمر حول مستقبل العمل تم استضافته على QUBE، وهي منصة تشبه اللعبة تكملها قاعة مؤتمرات افتراضية وفضاءات يمكن أن تختلط فيها الصور الرمزية الافتراضية).

وقد يسمح ذلك لمزيد من الشركات بالعمل بشكل افتراضي بالكامل، بدلاً من نموذج تقسيم الوقت بين البيئة الواقعية والافتراضية الذي يتوقعه الكثيرون الآن.

ويشكل التأكد من أن التحولات الهيكلية الجارية بالفعل لن يعوقها ركود مطول كالذي أعقب الأزمة المالية تحدياً بالنسبة لواضعي السياسات، وهذا يعني أنه يجب إعطاء الاقتصادات حوافز كافية لتشجع الشركات على خلق وظائف جديدة لتحل محل تلك التي أصبحت الآن زائدة عن الحاجة، ومع ذلك، فقد طرحت الجائحة تحدياً لهذا متمثلاً في تخفيض أسعار الفائدة أكثر مما هي عليه.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...