الابتكار الاجتماعي
كيف يبدو مستقبل أسواق الإسكان في العالم الغني

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 8

كيف يبدو مستقبل أسواق الإسكان في العالم الغني

ينص قانون (مور) -تقريباً- على أن القدرة الحاسوبية تتضاعف كل عامين، وقد توقع الخبراء نهايتها مراراً وتكراراً، وقد عللوا توقعهم هذا بأنه لا يمكن أن تتضاعف قوة الحواسيب أضعافاً مضاعفة بصورة مستمرة، إلا أنها قد استمرت لمدة نصف قرن على الأقل.

وقد ازداد تساؤل الناس عما إذا كان هناك نسخة خاصة بالإسكان من قانون (مور)، فقد تضاعفت أسعار المساكن عالمياً على مدى السنوات السبعين الماضية أكثر من أربعة أضعافِ ما كانت عليه قيمتها الحقيقية، حتى أن سعرها قد تجاوز الذروة التي بلغتها قبل وقوع الأزمة.

وقد يبدو هذا ضرباً من الجنون، ولكن نشر كل من (ديفيد مايلز) -وهو عضو سابق في لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا- و(جيمس سيفتون) -من كلية لندن - ورقةً بحثية تقول: "من المعقول في العديد من البلدان أن ترتفع أسعار المنازل الآن ارتفاعاً مستمراً بصورة أسرع من ارتفاع الدخل"، وذلك حيث تؤدي الزيادة السكانية وارتفاع الدخل إلى زيادة الطلب على المساكن، وهذا الطلب يتعارض مع العرض الثابت للأراضي في المناطق التي توجد فيها فرص عمل مرموقة، كما يحد من إجراء تحسينات لسرعة النقل.

وقد جاء أيضاً في هذا التقرير أن أسعار العقارات المرتفعة ترتبط بكل من انخفاض الديناميكية الاقتصادية وارتفاع حالة عدم الاستقرار المالي، ولكن على الرغم من أن السادة (مايلز) و(سيفتون) يقولان بأن الممتلكات ذات الأسعار الأغلى "معقولة"، إلا أنهما لا يقولان بأنها حتمية.

 فإذا أرادت الحكومات إبقاء تكاليف الإسكان منخفضة على المدى الطويل فهي بحاجة إلى تصحيح ثلاثة أمور:

أولها: تنظيم التمويل الإسكاني بصورة أفضل، فمثلاً: تقترب سويسرا من معاملة كل من ملكية المنازل واستئجارها على نحو متكافئ في نظامها الضريبي، وهذا الأمر لا يشجع الناس على توجيه رأس المال إلى سوق الإسكان، حيث يجب على المزيد من البلدان أن تحذو حذوها، ويعد الإصلاح الضريبي الذي وضعه الرئيس (دونالد ترامب) عام 2017 -الذي حد من خصومات فوائد الرهن العقاري- خطوةً في الاتجاه الصحيح.

ويمكن النظر في إصلاحاتٍ أكثر جذرية، حيث يتبنى مقرضو الرهن العقاري الألمان تقنية غير معتادة للتقييم، فهم نادراً ما يشيرون إلى سعر السوق عند تقييم قيمة أحد المنازل ويعتبرون بدلاً من ذلك "قيمة إقراض الرهن العقاري"، وهو تقييم للسعر المحتمل للمنزل على مدار الدورة الاقتصادية، ويشير أحد التقارير الصادرة عن بنك التسويات الدولية -وهو ناد للبنوك المركزية- إلى أنه من خلال خصم تقلبات الأسعار على المدى القصير، يمكن لتقنية التقييم هذه أن تمنع تشكل الفقاعات الاقتصادية.

 وقد أشار (Ed Pinto) من معهد (Enterprise) الأمريكي -الذي يعد مؤسسة فكرية- أن المقرضين في أمريكا اعتمدوا هذه التقنية مرة واحدة، فأصبحت بعد الحرب العالمية الثانية تقنية غير سائدة.

وإن مجموعة الإصلاحات الثانية متعلقة بالنقل، إذ كانت أسعار المساكن مستقرة جزئياً حتى منتصف القرن العشرين، وذلك لأن التكلفة والسهولة التي يمكن للناس التنقل بها تتحسن بنفس سرعة النمو الاقتصادي تقريباً، فقد أصبح الانتقال من النقطة (أ) إلى (ب) يستغرق وقتاً اقل من أي وقت مضى، مما أدى إلى زيادة مساحة الأراضي القابلة للتطوير الموجودة تحت تصرف الاقتصاد.

 ولكن بعد الحرب العالمية الثانية تباطأت وتيرة التحسينات المدخلة على النقل، مما سبب ارتفاعاً في أسعار المساكن، لأن عدداً أكبر من الناس كانوا يتنافسون على نفس المساحة.

وفي الآونة الأخيرة، طال الوقت الذي يستغرقه التنقل المنتظم لمكان العمل في أكبر مدن العالم الغني، مما أدى إلى زيادة قسط المعيشة بالقرب من مراكز المدن أو فيها، وبالتالي فإن ابتكار شبكة أفضل من القطارات والطرق سيسمح لمزيد من الناس بالعيش في أماكن أبعد، كما يمكن أن تقلل السيارات ذاتية القيادة من مشقة التنقل (أما عندما يعول على مؤتمرات الفيديو بشكل كامل، فقد تزيد نسبة من هم على استعداد للعيش بعيداً عن مكاتبهم وعقد الاجتماعات من مكان تواجدهم).

وتتعلق المجموعة الثالثة من الإصلاحات متعلقة بالتخطيط، فقد أشار هذا التقرير بأن الحكومات تنبّهت أخيراً إلى حقيقة أن هناك نقصاً هيكلياً في المعروض من المساكن، إذ يمكنهم التعلم من أفضل الممارسات المتبعة دولياً، فمثلاً يمنح تفويض الضرائب على المستوى الإقليمي أو المحلي -وهو الحال في سويسرا- الحكومات المحلية حافزاً أقوى للموافقة على الإجراءات التنموية.

وقد حذت فرنسا حذو سويسرا في زيادة الضغط على الحكومات المحلية لزيادة الإيرادات من الضرائب العقارية، حيث ترى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن هذه الإيرادات يمكن أن تؤدي بدورها إلى جهود محفزة لتنمية الأراضي، ومن الخيارات الأخرى الجيدة إلغاء التخطيط العمراني للمنازل التي تتسع لأسرة واحدة، الذي يحول دون زيادة الكثافة، وقد اتخذت ولاية (Minneapolis) الأمريكية هذا الخيار العام الماضي، كما يعد تعزيز بناء المساكن العامة خياراً مرحباً به.

كما أن سنغافورة التي يعيش 80٪ من سكانها في شقق بنتها الحكومة، تبدو في بعض النواحي النموذج المراد تقليده، حيث تجدد الدولة المباني بشكل دوري، كما تشجع الاختلاط بين الناس من أعراق وديانات مختلفة، وذلك للمساعدة في منع ظهور أحياء فقيرة خاصة بالأقليات.

روما لم تُبن بين عشية وضحاها

إن المكاسب الناتجة عن السماح بمزيد من البناء ستكون مكاسباً هائلة، فوفقاً لإحدى الأوراق البحثية قد يرتفع إجمالي الناتج المحلي الأمريكي بنحو 10٪ إذا كان هناك وفرة من الإنشاءات الجديدة في كل من نيويورك وسان فرانسيسكو وسان خوسيه فقط.

كما أن المساكن الأرخص ثمناً من شأنها أن تجعل السياسة أقل تقلباً: حيث تُظهر مجموعة متنامية من الأبحاث أن دعم الأحزاب الشعبوية يرجح على وجه الخصوص في البلدان التي لا يستطيع قاطنوها الانتقال إلى المدن الكبرى، وبالتالي فهم محاصرون في الأماكن التي "تخلفت عن الركب".

ويساور الشك بعضاً من خبراء الإسكان في إمكانية قبول أي من المجتمعات الديمقراطية لمثل هذه الزيادة في المباني -وهذه النظرة تشاؤمية للغاية- فقد أدت سلسلة الإصلاحات التي أجرتها اليابان من مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حتى منتصفه إلى تخفيف نظام التخطيط مما سمح بمعالجة الطلبات بسرعة أكبر ومنح السكان مزيداً من حرية التصرف بشأن كيفية استخدامهم لأراضيهم.

 وقد ارتفع معدل بناء المساكن في طوكيو بنسبة 30٪ منذ إجراءات الإصلاح، وبنت طوكيو بين عامي 2013 و2017 عدداً من المنازل بعدد منازل إنجلترا بأكملها، هذا وتعد مدينة طوكيو من أكثر المدن الغنية من حيث الاختلاط، ولكن قوانين تقسيم المناطق الحالية تؤكد بأنها ليست مدينة مضطربة وبلا نظام مثل مدينة هيوستن على سبيل المثال، وتشير النسب المعدلة حسب التضخم، بأن أسعار المنازل في العاصمة اليابانية أقل بنسبة 9٪ مما كانت عليه في عام 2000، بينما في لندن هي أعلى بنسبة 144٪.

هذا ويحتاج عامة الناس إلى تغيير مواقفهم، حيث يعارض الكثيرون في الغرب التنمية بشكل غريزي، إما بسبب الإزعاج المرتبط بها أو لأنهم يكرهون فكرة تحقيق شركات الإسكان للأرباح، وقد يساعد تقديم تعويض أفضل من التعويض الحالي للأشخاص المتضررين من بناء المساكن في استمالة المزيد من السكان، كما يمكن للحكومات أن تهتم أكثر بتفسير السبب الذي يجعل النقص في المساكن أمراً سيئاً للجميع، وذلك بدلاً من الاحتفال كلما ارتفعت أسعار المساكن، لذلك فإن الحاجة تدعو إلى اتخاذ إجراءات جريئة، وحتى يتم اتخاذها، فستستمر مسألة الإسكان في إضعاف أسس العالم الحديث.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...