الابتكار الاجتماعي
الطب الشخصي.. توجهٌ جديد في عالم الرعاية الصحية

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 9

الطب الشخصي.. توجهٌ جديد في عالم الرعاية الصحية

نينا نزار هي أستاذة في إدارة الأعمال يبلغ عمرها 42 عاماً ويبلغ طولها 122 سم فقط، وذلك بسبب أن نهايات عظامها لينة ومرنة وتبدو متقصفة على الأشعة السينية تماماً مثل فرشاة الرسم البالية. خضعت نينا خلال طفولتها ومراهقتها التي قضتها في دبي 30 مرة لعملياتٍ جراحية. ولكن ظل مصدر مشكلتها لغزاً محيراً حتى عام 2010، حيث تلقت أخيراً وبعد ثلاثة عقودٍ من التساؤل تشخيصاً لمرضها وهو أنّ لديها خلل التّنسُّج الغضروفي الميتافيزيقي لجانسن (JMC)، وهي حالة تم التّعرف عليها لأول مرة في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تنشأ مشاكل نينا من نسخة معطلة من جين واحد فقط من جيناتها البالغ عددها 20.000.

وتُعتبر الدكتورة نينا حالة غريبة للغاية من بعض النواحي، حيث إن أقل من واحد من كل 200 مليون شخص لديه طفرة في جين PTH1R الذي يسبب مرض جانسن، ولكنها من نواحٍ أخرى هي مثل أي شخصٍ آخر. وعموماً ترتبط صحة الجميع واعتلال صحتهم بمحتويات جينوماتهم، حيث تحتوي جميع الجينومات على ترتيباتٍ معينة للجينات تجعل الاضطرابات النفسية أو السرطانات أو الخرف أو أمراض الدورة الدموية إما مشكلة كبرى أو مشكلة لا تكاد تُذكر بالنسبة للفرد. فكل شخص لديه جينات تجعله أفضل أو أسوأ في التجاوب للأدوية؛ وأكثر أو أقل عرضة للاستفادة من أشكال معينة من التمارين؛ وأكثر قدرة على هضم بعض الأطعمة من غيرها.

لن نتمكن من رؤية نفس ترتيب الجينات مرتين. على الرغم من أن الاختلافات في التوائم المتطابقة تكون طفيفة للغاية وبالكاد تكون ملحوظة، إلّا أن كل واحد من الجينوم البشري البالغ عدده 7.5 مليار جينوم يعيش على هذا الكوكب هو جينوم فريد من نوعه. ويمثل هذا التنوع غير القابل للاختزال تحدياً للعديد من أعظم التطورات الطبية التي تم استحداثها في القرن العشرين والتي طالما استندت إلى نهجٍ واحد يناسب جميع الحالات. لذلك يعد إضفاء الطابع الشخصي على تقديم الرعاية الصحية فرصةً مغرية للتحسين.

ولطالما عالج الأطباء الجيدون مرضاهم كأفراد، ففي القرن العشرين، ساعدت اختبارات الدم والأشعة السينية والفحوصات الطبية وأدوات التشخيص الأخرى على جعل تفاصيل المشاكل الخاصة بكل مريض أكثر وضوحاً. وإنّ التخفيض المذهل في تكلفة قراءة أو فك تسلسل "قواعد" الحمض النووي (DNA) التي تشكل المعلومات الجينية البشرية يضيف مستوىً جديداً من التخصيص والتعامل على أساسٍ فردي. وأصبح من الممكن الآن فحص الاختلافات الجينية بسهولةٍ لم يكن من الممكن تصورها سابقاً، وبالتالي معرفة شيءٍ ما عن قابلية الأفراد للمرض قبل ظهور أي أعراض.

لا أحد يعرف بالضبط عدد الجينوم البشري الذي تم فك تسلسله بالكامل، كما أنّ إجراءات فك التسلسل المختلفة تقرأ الجينوم بدرجاتٍ مختلفة - فهناك عمليات قراءة سريعة وكذلك دراسات لغوية شاقة ومُضنية- ولكن العدد بالملايين (انظر الرسم البياني). وبحلول عام 2030 من المحتمل أن يصبح فك تسلسل الجينوم أمراً روتينياً في بعض الأماكن تماماً مثل وخز الكعب الوليدي الذي يتم إجراؤه اليوم -وقد يصبح جزءاً من نفس هذا الإجراء. إذاً، أصبح علم الجينوم من مسائل الطب العملي، كما أن العلاجات الجديدة التي تجعل من الممكن تعديل أو ضبط هذا الوراثة الجينية ستُطرح في الأسواق قريباً.

Asset 23@2x.png

هذا الفيض من البيانات يسمح للطب بأن يصبح أكثر دقةً وشخصيّة - فمن نواحٍ كثيرة، الدقة، والشخصية وجهان لعملة واحدة. وقد تم رد منشأ الأمراض الوراثية المعترف بها سابقاً، مثل مرض جانسن، إلى جيناتٍ معينة، كما يمكن ربطها بعيوب في البروتينات التي تنتجها هذه الجينات. وتقوم البروتينات بجميع الأعمال الكيميائية للجسم تقريباً). ومعظم هذه الأمراض تكون نادرة، حيث إنها لا تصيب عادةً أكثر من شخص واحد من بين 2000 من عامة الناس. ولكن مع التعرف الآن على أكثر من 6000 من هذه الأمراض النادرة، فإن هذا يعني أنها شائعة بشكلٍ إجمالي. في بريطانيا، يُتوقع أن يعاني واحد من كل 17 شخصاً من مرضٍ نادر في مرحلةٍ ما.

إنّ دراسات الأمراض الوراثية ليست مجرد غاية مفيدة في حد ذاتها؛ حيث يمكن أن يكشف فهم الخطأ الذي يحدث عندما يتعطل بروتين معين عن معلومات أساسيّة حول طريقة عمل الجسم والتي قد تكون مفيدة في علاج الأمراض الأخرى. والفهم المتزايد لكيفية مساهمة مجموعات كبيرة من الجينات في حدوث المرض يجعل من الممكن انتقاء المرضى الأكثر عرضة لخطر الإصابة بأمراض شائعة مثل السكري وأمراض القلب والسرطان. وذلك سيساعد الأطباء على تخصيص تدخلاتهم على أساس فردي ووضع علاجات على مقاس مرضاهم. فمن الناحية النّظرية، إن زيادة الوصول إلى المعلومات الجينية الشخصية تسمح للأفراد بحساب هذه المخاطر بشكلٍ أفضل واتخاذ إجراءاتٍ وقائية، أما من الناحية العمليّة، فيبدو أنّ قلةً من الناس يفعلون ذلك حتى الآن.

وعلم الجينوم ليس المصدر الوحيد للحصول على البيانات الصحيّة الشخصية الجديدة. تماماً مثلما أن جميع الجينومات فريدة من نوعها، كذلك هي الحياة التي يعيشها حاملو الجينوم، وإن الزيادة في الأشكال الأخرى من البيانات حول الأفراد، سواء في المعلومات الجزيئية الأخرى المستمدة من الاختبارات الطبية، أو السجلات الصحية الإلكترونية، أو البيانات الرقمية المسجلة بواسطة أجهزة استشعار رخيصة منتشرة في كل مكان، تسهّل استيعاب ما يجري في تلك الحياة. وإن ظهور الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية يجعل من الممكن تحليل فيض البيانات هذا.

ثمّة ما يقرب 4 مليارات شخص يحملون هواتف ذكية يمكنها مراقبة نشاطهم البدني. وتشير التقارير إلى أنه بحلول عام 2022، وصل عدد الأشخاص الذي يرتدون جهازاً ذكياً، مثل الساعة الذكية التي يمكنها مراقبة معدل ضربات القلب، إلى مليار شخص. وتتوق الشركات العملاقة والشركات الناشئة في وادي السيليكون التي تعتمد على البيانات إلى تقديم المساعدة. إذاً، لم يعد المستهلكون بحاجة للذهاب إلى الطبيب لإجراء فحص للجينوم أو للدخول بطائفةٍ واسعةٍ من الآراء حول ما يصيبهم أو سيصيبهم من الأمراض. تعمل شركات الأدوية التي اعتادت على الهيمنة على الطب جاهدةً لمواكبة ذلك، وكذلك الحال بالنسبة للأطباء والمستشفيات والأنظمة الصحية.

تحرك بحريّة، لكن لا تكسر الأشياء:

هذه الاحتمالات لا تخلو من إشارةٍ إلى وجود مخاطر ومعوقات واحتمالات لخيبة الأمل. فمثلاً القدرة على تحديد الخطأ الذي حدث في الجينوم لا يعني أنه أصبح من السهل إصلاحه، أضف إلى ذلك أنه بما أنّ التكنولوجيا تساعد الأشخاص على مراقبة أنفسهم بمزيدٍ من الطرق، فسوف يتضخم عدد "الأصحاء القلقين" وستزداد الرعاية غير الضرورية. كما يمكن أن يلحق الكثير من الضرر الحقيقي بسبب الوهم الخوارزمي.

وغير ذلك، فإن عقلية "تحرك بسرعة واكسر الأشياء" الشائعة في شركات التكنولوجيا لا تتماشى مع مبدأ "لا ضرر ولا ضرار". كما أن وسائل الحصول على البيانات غير المقيّدة وغير الخاضعة للرقابة أو المساءلة التي شوهدت في الصناعات الأخرى الخاضعة للتحولات الرقمية تتعارض مع المخاوف بشأن الخصوصية الطبية.

ومع ذلك، فإن طبيعة الطب ذاتها تعني أنّ المستقبل لن يكون مجرد مسألة أهداف تجارية، وثقافات بحثية، وبراعة تكنولوجية، وممارسة حكيمة، وأنظمةً مُصاغةً بعناية. بل تعني أن المستقبل سيخضع أيضاً للمصالح الدافعة لأفراد معينين بطرقٍ لم يسبق لها مثيل. فمثلاً تأثر تطوير البحث الطبي القائم على الجينات في بريطانيا بشدة بالحياة القصيرة والصعبة لإيفان كاميرون، الذي بذل والده، ديفيد كاميرون، الكثير لبناء علم الجينوم عندما كان رئيساً للوزراء. فالكثير من العاملين في هذا المجال تدفعهم الخسائر الشخصية.

ثم هناك أشخاص تنبع اهتماماتهم من الطريقة التي تشكل بها جيناتهم حياتهم، مثل الدكتورة نينا التي تقوم الآن بصياغة أجندة بحثية جديدة لمرض جانسن الذي قد يكون هناك 30 شخصاً فقط في العالم يعانون منه، لكن اثنين منهم هم أطفالها، إذ يعانون من ألمٍ مستمر. والعلم يعرف السبب لكن الطب لا يمكنه أن يساعد حتى الآن. تقول نينا: "نحن نؤمن بالمعجزات"، وهي تعمل أيضاً على صنع إحدى هذه المعجزات.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...