الابتكار الاجتماعي
ماذا لو هاجر تِسلا إلى بلاد العرب

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 9

ماذا لو هاجر تِسلا إلى بلاد العرب

   باسم جفّال

في عام 1882 ترك تسلا قريته التي ترعرع فيها في كرواتيا وتوجه إلى باريس للعمل في شركة أديسون كونتيننتال، بعد سنتين من النجاح اللافت للأنظار، قرر بتوصيةٍ من مديره الهجرة إلى أمريكا ليعمل هناك مع إديسون، المخترع العظيم.

في أمريكا تمكّن تِسلا من صنع المستحيل أو أقل بقليل، انتصر على إديسون في حرب التيارات من خلال مولد التيار المتردد، وابتكر طريقة لنقل الكهرباء لا سلكياً لكنه لم يحصل على تمويل. كان يروّج لنظريات حول تسخير الطاقة الشمسية، ويستكشف أيضاً ما أسماه “Telegeodymanics”، وهو حقل يستخدم مبادئ الاهتزاز لإرسال الموجات لاسلكياً عبر الأرض للكشف عن النفط والمعادن في باطن الأرض. كان قادراً على التحكم بالقوارب لاسلكياً، وكان هذا كالسحر في ذلك الوقت. كان تِسلا أعظم مخترع عرفَته أمريكا على الإطلاق. يمكنكم أن تطّلعوا على تفاصيل القصة المُلهمة والمحزنة في مقالي السابق.

دعونا نعود في الزمن إلى عام 1884، ماذا لو فكّر تِسلا وتفكّر، ثم قرر الهجرة شرقاً بدلاً من الغرب؟ ماذا لو قرر الهجرة إلى بلاد العرب؟

أترانا وبمساعدة تِسلا كنا سنكتشف البترول في الدول العربية قبل وقته بخمسة وأربعين عاماً؟ أترانا كنا سنضيء منازل القاهرة قبل موعدها بخمسة عشر عاماً؟ أترانا كنا سنضيء المسجد الحرام قبل وقته بخمسة وثلاثين عاماً؟ أترانا كنا سنكون جزءاً مهماً من الثورة الصناعية الثانية؟ أترانا... أترانا؟

قررتُ أن أبحث حول سُبل جذب المبدعين أمثال تِسلا إلى بلداننا؟ ما الذي يدور بخُلدهم إذا أرادوا الهجرة؟ بل كيف يمكننا أن نكتشف أمثال تِسلا من الذين يعيشون بيننا في عمر صغير؟ وهل يمكننا صناعة الموهوبين والمبتكرين في أوطاننا؟

لقد قمت ببحث مطوّل وتتبعت قصص أشهر العلماء المهاجرين مثل تِسلا وجراهام بِل وآينشتاين وحسن الصبّاح وأحمد زويل وفاروق الباز وغيرهم، واستعنت بثلاثة تقارير دولية، التقرير العالمي للمواهب من معهد آي إم دي السويسري لعام 2019، وتقرير مؤشر تنافسية المواهب العالمي من إنسياد وجوجل لعام 2020، والمؤشر العالمي للابتكار لعام 2019، لن أخوض في تفاصيل التقارير لكنني سأكتفي ببعض الإشارات والإضاءات التي قد تُساعدنا في فهم كيف يمكن للدول أن تبني الموهوبين والمبدعين وتجذبهم وتحافظ عليهم.

الهدف من تقارير تنافسية المواهب هو قياس قدرة البلد على توفير الموهوبين الذين تحتاجهم الشركات للارتقاء بالاقتصاد الوطني والتقدم والازدهار. وتقوم التقارير على ثلاثة محاور أساسية، جذب المبدعين والموهوبين وصناعتهم والمحافظة عليهم.

هذه التقارير مفيدة لنعرف أين نقف في دولنا العربية اليوم، وكيف يمكننا أن نتقدم، ولنرى كيف أنّ دولاً صغيرة صارت تنافس الدول العظمى وتسبقها في جذب الموهوبين وصناعتهم.

 جذب المبدعين والموهوبين:

جذب المبدعين واستقطابهم أقل تكلفة من صناعتهم بالتأكيد. من خلال البحث المطوّل والتقارير الدولية فإن من أهم ما يجذب المبدعين والموهوبين إلى بلداننا هو: جودة الحياة والرواتب والمحفزات في مكان العمل، والجامعات المميزة ومراكز الأبحاث، والاستقرار السياسي والاقتصادي، والقدرة على التملّك والاستقرار.

إن منظومة العمل المتكاملة (قوانين ممكّنة، تمويل، مراكز أبحاث، جامعات، ...) والتي تساعد المبتكرين في دفع ابتكاراتهم للعالم مهمة للغاية. ولو نظرنا إلى المؤشر العالمي للابتكار لعام 2019 فسنرى أن سويسرا والسويد وأمريكا -والتي تحتل المراكز الثلاثة الأولى على التوالي - قد اهتمت كثيراً بهذه الجوانب.

تظل أمريكا من الدول الأكثر جاذبية بحسب التقارير، على الرغم من أنها بدأت تفقد شيئاً من جاذبيتها مؤخراً لصالح دول أوروبية صغيرة. أمريكا الفاتنة ذات الجامعات المميزة ومراكز الأبحاث تمكنت من جذب العلماء والمخترعين من كل مكان، فكانت النتيجة أن جلبوا لها 117 جائزة نوبل.

Asset 21@2x.png

استطاعت أمريكا أن تجذب الكثير من المبتكرين من أنحاء الدنيا. جذبت سيرجي برِن الشريك المؤسس لجوجل من روسيا، واستطاعت أن تجذب ألبرت آينشتاين من ألمانيا، وأندرو كارنيجي جاء من اسكتلندا ليصبح من أشهر رجال الأعمال ويؤسس جامعة كارنيجي ميلون الشهيرة ثم يتبرع بـ %90 من ثروته التي تقدر اليوم بـ 77 مليار دولار للمشاريع الخيرية، أليكساندر جراهام بِل مخترع الهاتف هاجر إلى أمريكا من اسكتلندا أيضاً، وحسن الصبّاح لبناني جذبته أمريكا وكان يُلقّب بإديسون الشرق، أحمد زويل من مصر جلب لأمريكا جائزة نوبل في الكيمياء، فاروق الباز عالم ناسا المصري ساهم في هبوط المركبة أبولو على سطح القمر، وغيرهم كثير.

كوننا نعيش في ظل جائحة كورونا؛ فإننا نذكّر بأن أمريكا جذبت المغربي منصف السلاوي ليعمل في أكبر شركات الأدوية. واليوم -وبأمر مباشر من الرئيس ترامب - يصبح مُنصف القائد الأول لفريق البحث عن لقاح لفيروس كورونا. اليوم يُعلّق الأمريكيون -بل ومئات الملايين حول العالم- على مُنصف وفريقه الآمال بأن يجلبوا لهم اللقاح الذي يخلصهم من هذه الأزمة الخانقة.

بالنسبة للدول العربية، نرى أن دولة الإمارات قد جاءت في المرتبة الثالثة عالمياً في القدرة على جذب الموهوبين، فيما حلّت المملكة العربية السعودية في المرتبة الحادية والأربعين.

صناعة المبدعين والموهوبين:

حتى نصنع المبدعين والموهوبين في أوطاننا فلا بد من الاهتمام بالتعليم بالدرجة الأولى، وهذا أحد الأسباب التي جعلت سويسرا ذات الـثمانية ملايين ونصف المليون نسمة تتربع على عرش التقارير الدولية الثلاثة، فهي الدولة الأولى في العالم في بناء واستقطاب الموهوبين –بحسب التقريرين- وهي الدولة الأولى في العالم في مؤشر الابتكار.

سويسرا تستثمر بصورة كبيرة في بناء الإبداع والمواهب لدى أبنائها منذ الصغر، وتُركز كثيراً على جودة مخرجات التعليم. %70 من الطلاب السويسريين يختارون التعليم والتدريب المهني على التعليم الجامعي الأكاديمي لأنه يصقل مهاراتهم ويقرّبهم من السوق أكثر. بعد ثلاث سنوات يتخرج الطالب من الكلية ولديه قرابة السنتين والنصف من الخبرة العملية، بل إن نصف الوزراء في سويسرا جاؤوا من تخصصات صناعية، اعتناء سويسرا بجودة مخرجات التعليم الصناعي يفسر كونها الدولة الأولى في العالم في عدد براءات الاختراع مقارنة بعدد السكان.

يُعتبر حجم الإنفاق على التعليم أحد المؤشرات المهمة في صناعة الموهوبين بالنسبة للدول، وهنا نرى أن كوريا الجنوبية والدنمارك على سبيل المثال تستثمران أكثر من %25 من الناتج المحلي للفرد في التعليم، فيما يبلغ متوسط الإنفاق عالمياً %21. بالمقابل تستثمر إحدى الدول العربية المتقدمة حوالي %7 فقط، وهنا نحتاج إلى مزيد من الإنفاق والتركيز في العملية التعليمية حتى نتمكن من صنع المبدعين.

سنغافورة من أفضل دول العالم في التعليم، وهذا ساعدها في الانضمام إلى قائمة الخمس الكبار في مؤشر تنافسية المواهب العالمي، تتّبع سنغافورة نظاماً تعليمياً يركز على ما يحتاجه السوق، وعلى آخر ما توصلت له العلوم والتقنية. يمكنهم تغيير المناهج بسهولة كلما دعت إلى ذلك الحاجة، ويركزون بصورة أساسية على تعليم الطلاب طرق إيجاد الحلول الإبداعية للمشكلات الموجودة حولهم. الطالب السنغافوري ذو الخمسة عشر عاماً يسبق الطلاب في الدول الغربية بما معدله 15 شهراً، ويسبقهم في الرياضيات بعشرين شهراً.

من خلال تتبع بعض قصص المبتكرين -على سبيل المثال: سيرجي برِن مؤسس جوجل وأحمد زويل عالم ناسا - نرى أن مراكز الأبحاث والجامعات المميزة تعتبر عنصر صناعة وجذب للمخترعين في الوقت ذاته. سيرجي ذهب ليُكمل تعليمه في جامعة ستانفورد فصنع مع شريكه شركة جوجل، وأحمد زويل أراد أن يكمل تعليمه في جامعة بنسلفانيا فصار أستاذاً رفيعاً في معهد كاليفورنيا للتقنية وفاز بجائزة نوبل للكيمياء، والأمثلة على هذا كثيرة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجامعات المميزة التي نبنيها لها أثر اقتصادي عظيم إضافة إلى دورها في بناء جيل مميز، يكفي أن نعلم أن مساهمة الطلبة الأجانب في اقتصاد أمريكا يبلغ 41 مليار دولار سنوياً. وهنا ينبغي الإشادة بتجربة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في المملكة العربية السعودية. لطالما زرت الجامعة وفي كل مرة يتجدد عندي الشعور بأنها ستكون منارة للبحث العلمي وصناعة المبتكرين في العالم العربي. هي فقط تحتاج إلى مزيد من الوقت والتركيز، وأن تقترب من المجتمع المحيط أكثر.

نحتاج إلى تطوير أساليب التعليم ومناهجه في أوطاننا العربية لجعلها أكثر إسهاماً في بناء المبدعين، يقول التربوي الشهير السير كن روبنسون: "إن أهمية الإبداع معادلةٌ لأهمية القراءة والكتابة، ويجب التعامل معه على هذا الأساس". ماذا لو ركزنا على بناء السمات والعقليات المهمة للابتكار عند أطفالنا منذ الصغر؟ ماذا لو غرسنا فيهم الفضول، والإبداع، والخيال، والنقد، والتعاون، وحسن التواصل؟ هذا بالتأكيد سيُساهم في بناء جيل مميز. وهنا يبرز دور مهم للأسرة، تماماً كما ساهمت الأسرة في سنغافورة في صناعة أطفال مميزين علمياً من خلال العناية بهم، والإيمان بأن كل طفل لديه ما يميزه ولديه القدرة على أن يكون شيئاً عظيماً في المستقبل.

المحافظة على المبدعين والموهوبين:

بعد أن تصنع الموهوبين والمبتكرين داخلياً أو تجذبهم من الخارج تأتي مهمة المحافظة عليهم، وهذه من الأمور الصعبة. بحسب التقارير الدولية فإن سويسرا والنرويج والدنمارك تحتل المراكز الثلاثة الأولى في المحافظة على الموهوبين، بينما تأتي الإمارات والسعودية في المركزين التاسع والعشرين والثاني والأربعين. ويمكن المحافظة على الموهوبين بيننا من خلال توفير أسلوب حياة مميز، وإمكانية للتطوّر والنمو المستمر، ونظام تقاعد جيد، وتأمين طبي ملائم.

في استطلاع للرأي أجري العام الماضي وشمل 650 باحثاً علمياً في الوطن العربي، وجدوا أن 91% منهم يفكرون في الهجرة، السبب الأول هو ضعف الرواتب والتمويل، والسبب الثاني هو عدم وجود فرصة للتطور الوظيفي والنمو، وضعف الحرية في البحث العلمي. بحسب تقرير لمنظمة العمل العربية قبل عدة سنوات، فإن الدول العربية تتكبد خسائر تصل إلى 200 مليار دولار بسبب هجرة العقول إلى الخارج. فالمحافظة على المبدعين لا تتعلق فقط بزيادة الإيرادات، بل بوقف الخسائر.

لو هاجر تسلا لبلاد العرب لربما هاجر بعده بمائة عام ذلك الشاب الجنوب إفريقي، الذي سيرسل الصواريخ إلى الفضاء ويقود أغلى شركة لإنتاج السيارات في العالم، باستلهام من محركات تسلا الكهربائية. لربما كان سيهاجر بعده الكثير إلى بلاد العرب، من العرب ومن غير العرب، لربما.

إن جذب المبدعين وصناعتهم والمحافظة عليهم قد تكون سبباً في نهضة أمّة وتحوّل جيل، بل أجيال. لذا فإن الأمر يستحق مزيدَ عناية واهتمام من الجميع. اليوم نرى دولاً صغيرة مثل سويسرا والسويد والدنمارك وسنغافورة ولوكسمبورغ وفنلندا تسبق دولاً أكبر وأغنى، فالأمر لا يتعلق فقط بالقدرة الاقتصادية، بل هناك بُعدٌ قيادي يقع على عاتق المسؤولين، كل في منصبه، من الأب في بيته والأم في بيتها إلى القيادة العليا في البلاد. ولنعلم جميعاً أن صناعة طفل مميز قد يستغرق سنوات طويلة، فكيف بصناعة أمة مبتكرة مميزة، الأمر يحتاج إلى سنوات من العمل بصبر ويقين، وأخوف ما نخاف على مشاريع البناء هو العجلة واستعجال النتائج.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...