الابتكار الاجتماعي
الطفرة الرقميّة في عالم الرعاية الصحيّة

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 9

الطفرة الرقميّة في عالم الرعاية الصحيّة

لطالما كان قطاع الرعاية الصحية الواسع والبيروقراطي البدائي يتخوّف من إدخال التغييرات، إلى أن تسببت حالة طوارئ تعد الأكبر منذ عقود في إحداث ثورةٍ في هذا القطاع. وبعد كورونا، ارتفع معدل التفاعل الحيوي للقطاع بدايةً من المختبرات ووصولاً إلى غرف العمليات، وسارع العاملون في المجال الطبي لمساعدة المرضى بسرعةٍ ونجاح في كثيرٍ من الأحيان إضافةً إلى أنهم ارتجلوا تقنياتٍ جديدة. ويبشر إبداعهم بعصرٍ جديدٍ من الابتكار والذي من شأنه أن يخفض التكاليف ويعزز إمكانية وصول الفقراء إلى خدمات الرعاية الصحية ويحسن العلاج. ولكن للحفاظ على استمرار اعتماد هذه التقنيات الجديدة، يجب على الحكومات أن تمنع الجماعات الضاغطة القوية من عرقلة طفرة الابتكار عندما يزول الوباء.

ولقد أدت جائحة كوفيد-19إلى إحداث تطويرٍ مذهلٍ للقاحات باستخدام تقنيات الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) الجديدة، إضافةً إلى معجزاتٍ أخرى أصغر لا حصر لها حاول الأخصائيون الصحيون من خلالها إنقاذ الأرواح. وقد تم إهمال التقنيات المتقادمة وتبني برنامج مكالمات الفيديو والنسخ الصوتي، وكذلك صيانة الآلات عن بُعد بواسطة صانعيها. ومع بقاء المرضى في منازلهم أصبح الأطباء يسارعون إلى اعتماد المراقبة الرقمية لأولئك الذين يتعالجون من النوبات القلبية، وفي النهاية تم حل التعنت والانعزال القائم في المنظمة. وحدث كل هذا جنباً إلى جنب مع طفرةٍ في زيادة رأس المال الاستثماري للابتكار الطبي؛ فقد وصل إلى 8 مليار دولار في جميع أنحاء العالم في الربع الأخير من العام، أي ضعف الرقم مقارنةً بالعام السابق.

وثمة حاجةٌ إلى مزيدٍ من الابتكار، حيث يمثل الإنفاق العالمي على الصحة 5% من الناتج المحلي الإجمالي في البلدان الفقيرة و 9% في الدول الغنية و 17% في أمريكا. ويوظف القطاع أكثر من 200 مليون شخص ويدر أرباحاً تزيد عن 300 مليار دولار سنوياً. بالإضافة إلى أن هذا القطاع يكره المجازفة والمخاطر، فهو بمنأى أيضاً عن التغيير. وقد لا يعرف المرضى أي نوعٍ من أنواع العلاجات هي الفعالة لذلك قد تؤدي الحاجة إلى مواجهة المخاطر بين العديد من الأشخاص إلى إنشاء مجموعات عمل إدارية، مثل مخططات الصحة الوطنية في أوروبا، أو شركات التأمين في أمريكا، وبعض الأسواق الناشئة. إضافةً إلى أن القواعد المعقدة تمكّن الشركات من جني أرباحٍ عالية.

والنتيجة كانت تباطؤ نمو الإنتاجية في الفترات الأخيرة، كما أن ارتفاع التكاليف يعني أن العديد من الناس في العالم النامي يفتقرون إلى خدمات الرعاية الصحية. وقد تتسبب الكفاءة المنخفضة بحدوث أزمةٍ مالية في بعض البلدان الغنية على مدى العقدين المقبلين، فشيخوخة السكان تؤدي إلى ارتفاع فواتير الخدمات الطبية.

Asset 24@2x.png

وكان للوباء دورٌ في مساعدتنا على رؤية ما هو ممكن، ويُعزى ذلك جزئياً إلى دفعه الناس لتنحية خوفهم وحذرهم جانباً. ويمكن أن تؤدي الاستشارة والمراقبة الطبية عن بُعد إلى خفض التكاليف وزيادة إمكانية الوصول، فقد ارتفعت نسبة الزيارات عن بُعد في مركز مايو كلينيك، وهو مركز طبي أمريكي، من 4% المسجلة قبل الوباء إلى 85% في أوقات الذروة. كما ساعدت شركة "سيهات كاهاني" الباكستانية طبيبات عن بُعد في علاج الفقراء في مجتمعٍ متحفظٍ اجتماعياً. في وقتٍ استقبلت فيه البوابة الصينية "بيج آن غود دكتور" 1.1 مليار زيارة خلال ذروة الوباء في الصين.

كما أنّ الزيادة الكبيرة في عدد الصيدليات التي تعمل على الإنترنت مكّنت من تصعيد حدة المنافسة. ففي 17 نوفمبر، أعلنت شركة أمازون عن دخولها في القطاع الصحي، الأمر الذي يَعد بزعزعة الصناعة الأمريكية التي تهيمن عليها شركات الأدوية الكبرى والوسطاء. وهذه ليست سوى البداية، حيث يمكن للتشخيص الوافر بالبيانات أن يساعد الخبراء في إجراء التحاليل الروتينية للفحوصات الطبية كالأشعة السينية. كمايمكن أن يستفيد الجيل الجديد من أجهزة مراقبة مستوى السكر في الدم من التحسينات الأخيرة في أجهزة الاستشعار. ومع الوقت سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى ابتكاراتٍ في مجال الأدوية، فمثلاً أعلن مختبر "ديب مايند" هذا الأسبوع عن طفرةٍ في تحليل البروتينات.

ومن شأن العديد من هذه الاتجاهات أن تحسن الكفاءة بشكلٍ مباشر –تزامناً مع انخفاض إيجارات المكاتب، أو توزيع الأطباء حينها للمناطق الريفية التي تندر فيها العمليات الجراحية. ومن المحتمل أيضاً لهذه الاتجاهات أن تطلق العنان لموجةٍ من المنافسة والتحسين المستمر. حيث توفّر المزيد من البيانات الأمر الذي من شأنه أن يسهل تقرير العلاجات الأكثر فاعلية. ومراقبة الصحة الشخصية تعني أن العلاج سيصبح وقائياً أكثر من كونه علاجياً. وبالحصول على مزيدٍ من المعلومات سيتمكن المرضى من اتخاذ قراراتٍ أفضل.

ويمكن للحكومات أيضاً أن تقوم بدورها في تقديم المساعدة، حيث أنه يجب أن تكون شركات الرعاية الصحية الكبرى، كشركات التأمين، والخطط الصحية التي تديرها الدولة، حريصةً على التعرف على الخدمات الرقمية الجديدة ودفع ثمنها، فمثلاً أصدرت ألمانيا والصين قوانين أو قواعد جديدة تحث على سداد تكاليف الخدمات عبر الإنترنت. كما يجب أن يكون تقييم فعالية الخدمات الرقمية أسرع، على سبيل المثال قامت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية بتحديث عملية الموافقة على التطبيقات.

أما الدور الآخر للحكومات فهو بناء نظامٍ لتدفق بيانات الرعاية الصحية. فيتوجب على الأفراد التحكم في سجلاتهم وأن يمنحوا الإذن لمقدمي الخدمات للوصول إليها. وتعمل الهند على إنشاء هوياتٍ صحيةٍ وطنية تهدف إلى الجمع بين البيانات الخصوصية والبيانات الجماعية.

ومن الممكن أن تتلاشى إحدى الفرص النادرة لتحسين جودة الرعاية الصحية وخفض تكاليفها بحلول نهاية عام 2021، لأن عمال الرعاية الصحية المنهكون قد يفضلون الراحة على الثورة. كما أنه من الممكن أن تفشل بعض الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الطبية الحالية، مما سيؤدي إلى رد فعلٍ عكسي. وقد يحاول عددٌ قليل من شركات التكنولوجيا الكبرى احتكار مجموعات البيانات، وستحاول الجماعات الضاغطة القوية في القطاع إقصاء المنافسين. فالرعاية الصحية ليست مجالاً تبدأ فيه التعلم من أخطائك ومع ذلك، فقد كشف الوباء أن القطاع اعتاد على توخي الحذر أكثر من اللازم، كما أنه أعاد تفسير ما يمكن إنجازه.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...