الابتكار الاجتماعي
دور القراءة في التفكير التصميمي

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 9

دور القراءة في التفكير التصميمي

   رائد العيد

تتميز منهجية التفكير التصميمي بقدرتها على تصميم الحلول الأكثر مناسبة للمشكلات، فهي تنطلق من مبادئ مصممة للعمل على المشكلات قبل البدء في اقتراح الحلول لها. ومنذ ظهور هذه المنهجية؛ طرأ عليها العديد من التعديلات غير الجوهرية، واستحدثت بعض المراكز محطات خاصة بها وأدوات خاصة لكل محطة، ولكنها في المجمل تدور في خمس مراحل أساسية غير خطية تبدأ بالتعاطف، ثم تعريف المشكلة، ثم ابتكار الأفكار، ليأتي بعدها إعداد النموذج الأولي، وأخيرًا التجربة والتنفيذ. وكل مرحلة من هذه المراحل لها مجموعة من الأدوات التي تستخدم من أجل العمل على تطبيق تلك المرحلة.

وما أود التركيز عليه في هذا المقال هو دور القراءة والكتب في كل مرحلة من مراحل التفكير التصميمي، أو بصيغة سؤال تصميم الحلول: كيف يمكننا الاستفادة من الكتب في كل مرحلة من مراحل التفكير التصميمي؟

عندما سألت أحد الأصدقاء هذا السؤال أجاب مباشرة بأسماء الكتب التي تحدثت عن التفكير التصميمي نفسه، فأخبرته بأن هذا الجواب ليس موافقًا لسؤالي، وإنما أردتُ بيان كيفية تفعيل القراءة بمجالات مختلفة وبكيفيات مختلفة في مراحل التفكير التصميمي. فعلّق مازحًا: "هذا تحيّز تجاه الكتب!"، فأجبته: "نعم، وإني متحيز للكتب دائمًا، فلا مناص عن التحيز، ولا مشاحة في الإفصاح عنه، بل الخلاف في إخفائه".

المرحلة الأولى: التعاطف

أول مرحلة، وأهم مرحلة من مراحل التفكير التصميمي هي التعاطف مع الفئة المستهدفة أي أصحاب المشكلة، والقدرة على الشعور بهم، والإحساس بمشكلتهم، ومعرفة اهتماماتهم وأفكارهم؛ من خلال تجربة أن تضع نفسك مكانهم كأنك واحد منهم، وأن تندمج في بيئتهم، وتتعايش معهم، وتستمع إلى قصصهم الشخصية ومواقفهم التي يمرون بها؛ بهدف الوصول إلى فهم عميق لاحتياجاتهم، وإدراك مشكلتهم، وتحديدها بشكل دقيق.

ومن الأدوات المهمة في هذه المرحلة، والمفيدة في جمع المعلومات حول الجمهور المستهدف: البحث الميداني، والمقابلة والحوار، والملاحظة والمراقبة، والقصص والمواقف. والأهم من ذلك قراءة السير الذاتية لتلك الفئة، فقراءة سيرة ذاتية مكتوبة بعناية لواحد من الجمهور المستهدف تقطع لك أشواطًا من معرفة الحالة وفهم دوافعها وسلوكياتها، فالسيرة الذاتية غوص الذات في الذات، وهو ما يمكّن من الوصول إلى مناطق يصعب الوصول إليها دون القيام بذلك.

في هذه المرحلة، يتم التركيز على حاجات الفئة المستهدفة دون التفكير بالحلول، مع حرص المفكر التصميمي على عدم التطفل على الآخرين ومضايقتهم، بل يحاول تعزيز الشعور لديهم باهتمامه الشخصي بهم، وسعيه لحل مشكلاتهم وتحقيق رغباتهم، وسعيه لتطوير وتحسين جودة حياتهم وبيئتهم، كما يحرص على أن يكون صبوراً حليماً أثناء تعامله مع هذه الفئة. وقراءة السير الذاتية أشبه بالإنصات لصاحب المشكلة، والإصغاء إليه بعناية، وإبداء الاهتمام له للتعبير عن تفاصيله صغيرها وكبيرها، وهو ما نحتاجه في هذه المرحلة.

المرحلة الثانية: تعريف المشكلة

بعد التعاطف مع الفئة المستهدفة والإصغاء إلى تعبيراتهم عن المشكلة؛ تأتي مرحلة تحليل المدخلات وإعادة تعريف المشكلات، وهذه المرحلة تتطلب النظر إلى المشكلة من زواياها المتعددة، وفحصها، والتأمل بها، وإعادة التعبير عنها بصيغ أكثر دقة.

ومن الكتب المفيدة في اكتساب مهارة تعريف المشكلات وإعادة صياغتها كتب التعريفات، والمعاجم اللغوية والفلسفية، والدراسات المعنية بتحرير المصطلحات. تتميز هذه الكتب بقدرتها على تقليب النظر بذات المنظور إليه، فالكلمة الواحدة تجد لها عشرات التعريفات، وعين المصطلح يُتناول من عشرات الزوايا. وهذا ما تتميز به هذه المرحلة من مراحل منهجية التفكير التصميمي، وهي أنها تحاول البحث عن المشكلة وراء المشكلة، فلا تكتفي بالنظر للسطح المعبّر عن تجليات المشكلة، بل تغوص إلى الأعماق للنظر في جوهر المشكلة، وهذا بلا شك أحد أهداف الفلسفة التي تسائل البدهيات، وتفكر في المعتاد، وتوقف العابر لإعادة النظر فيها.

كما تحتاج هذه المرحلة إلى وضع فرضيات لسياقات المشكلات ثم اختبار هذه الفرضيات، وهو ما تساعد فيه كتب الخيال وأدب الروايات التي تتناول سردية متخيلة لشخصيتها وتمضي في اختبارها وبناء قصة حياة مكتملة، ولا تكتفي بذلك؛ بل تمضي لاختبار حيوات لم تعش لتفهم كيف يمكن لها أن تعاش.

المرحلة الثالثة: ابتكار الأفكار

بعد معرفة المشكلة وتحديدها بشكل دقيق، ومن خلال بيان المشكلة الذي تم إعداده؛ تبدأ هذه المرحلة بتوليد العديد من الأفكار والحلول لهذه المشكلة وكتابتها.

ويعتبر "الكم" هنا أكثر أهمية من "الكيف"، فبالإمكان التدرج باقتراح الحلول العادية للوصول بعدها إلى الحلول الإبداعية والمبتكرة، ويمكن في هذه الخطوة التعاون مع الجمهور المستهدف في صياغة بعض الحلول وسماع أفكارهم حولها.

ومن الأدوات التي تساعد على توليد الأفكار: العصف الذهني، والاستلهام من التجارب الناجحة، والخرائط الذهنية، والرسم.

ويعتبر التفكير التباعدي مهما في هذه المرحلة، وهو ما يتطلب الانفتاح على مجالات أكثر بعدًا من المشكلة وحقلها الأساس، وهذا ما يحتاج القراءات الموسعة والاطلاع المفتوح على الحقول المتباعدة، فربما نظرية فيزيائية حلّت معضلة نفسية، أو معادلة رياضية فكّت لغزًا في الهندسة الاجتماعية.

والانحصار في قراءة ما له علاقة بموضوع البحث قد يعيق الإبداع ويمنع الابتكار، وامتلاك عقلية الابتكار يجعل من كل قراءة فرصة لتوليد أفكار جديدة.

المرحلة الرابعة: إعداد نموذج أولي

بعد وضع مجموعة من الأفكار والحلول المبتكرة للمشكلة؛ تأتي مرحلة اختبارها لاختيار أفضل تلك الحلول القابلة للتنفيذ، ويتم ذلك من خلال إعداد نموذج أولي لخطة تنفيذ الحل المقترح، وتصميم وتطوير المنتجات والأدوات المصاحبة له؛ كنموذج أولي يمكن تعديله وتطويره وتحسينه حسب نتائج تجريب الحل، واختباره في المرحلة الخامسة.

ومن الكتب التي تساعدك في تصوّر قيمة النموذج الأولي، وتمكنك من إتقان المرحلة هي الدراسات الأكاديمية، التي تلزم الباحث بوضع خطة عمل وهيكلة مقترحة للدراسة لاعتمادها قبل البدء بها، ويتم اختبار هذه الخطة وتحكيم هذه الهيكلة للتأكد من جدواها معرفيًّا ومن تغطيتها لكل متطلبات عنوان البحث قبل البدء بالبحث والتشتت في جوانبه.

وتشبهه أيضًا في طريقة العمل خطة الرواية، التي اختلف الرواة في تبنّيها، فبعضهم لا يؤمن بالتخطيط المسبق للعمل الروائي وينصح بالانطلاق في الكتابة دون معرفة مسبقة بالطريق، بينما يرى من يتبنى خيار التخطيط المسبق أن التخطيط المسبق طريق أسرع لتأليف رواية متقنة.

وقد يبيع الروائي حقوق روايته لناشر ما قبل حتى إنهاء كتابتها؛ من خلال تقييم الناشر لخطة الرواية وهيكلها الأولي. ورغم تحفظ الرواة على الإفصاح عن مخططاتهم المسبقة، إلا أنه بالإمكان الإمساك بأطراف هذه الخطط في سيرهم الذاتية وحواراتهم الأدبية عن أعمالهم.

المرحلة الخامسة والأخيرة: مرحلة التجربة

فبعد أن أصبحت خطة تنفيذ الحل وأدواته ومنتجاته جاهزة؛ يتم الآن نقل الحل من مرحلة التخطيط والإنتاج إلى مرحلة التجربة والتنفيذ على أرض الواقع، وتتم التجربة على مجموعة من الجمهور المستهدف لضمان جودة الحل، والجدوى الاقتصادية والاجتماعية منه، ومناسبته مع المشكلة.

وإن كان لا يمكننا الزعم بأن الكتب النظرية تجسد الحلول بشكل واقعي، إلا أنه يمكن اعتبار أدب الخيال العلمي هو التجربة الواقعية للحلول المقترحة؛ فهي أشبه بالنماذج الأولية لعوالم متخيلة وحلول لم تتحقق، وكم هي كتب الخيال العلمي التي صادقها الواقع بعد سنوات بتحقق نموذجها سواء بشكل كامل أو جزئي، فقراءة مثل هذه الكتب تفتح الأفق تجاه خيارات غير مسبوقة، وتزيل الغبار عن مناطق غير مأهولة، وتستعرض الحلول وفق سياقاتها الكاملة للمستفيد ومنتج الحل والبيئة. بل ويبيّن الخيال العلمي ما تحتاجه هذه الأفكار من بيئة صالحة لأن تولد فيها.

قبل الختام؛ من المهم الإشارة إلى أن مراحل التفكير التصميمي ليست خطية، بل هي مراحل متوازية أو تكرارية للمراجعة والإصلاح والتعديل، وهي صفة تصلح للقراءة، فقراءة الكتب ليست خطية دائمًا، فكثيرًا ما يحتاج القارئ إلى العودة لبعض الكتب بعد قراءة غيرها لتحسين فهم أو استعادة معرفة، وهو ما يحتاجه المصمم التفكيري من خلال الرجوع إلى مرحلة سابقة أو أكثر للحصول على معلومات أكثر عن الجمهور المستهدف، أو لإعادة تعريف المشكلة، أو لتعديل الحلول، أو لابتكار أفكار جديدة، أو لتعديل النموذج الأولي.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...