الابتكار الاجتماعي
كيف يؤثر الواقع الافتراضي على عالم الرعاية الصحيّة

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 9

كيف يؤثر الواقع الافتراضي على عالم الرعاية الصحيّة

يراقب الجندي السيارة وهي تقترب من نقطة تفتيش على طريقٍ ترابيٍ حار، وعندما تبطئ السيارة وتتوقف أمامه، يطلب من السائق الخروج وإظهار هويته. وبعد ثوانٍ، يسمع صوت دوي إطلاق النار يخترق الهواء، أعقبه صوت انفجارٍ كبير ووميضٍ شديدٍ ملتهب. وبعد أن سقط الجندي على الأرض واندفع نحو الأمام، نظر خلفه ليرى حطاماً مشتعلاً تماماً في المكان الذي كانت فيه السيارة قبل لحظاتٍ فقط.

ثم يتوقف المشهد ويسمع الجندي صوتاً يقول: "دعونا نرجع مشهد المحاكاة التمثيلي إلى الثواني التي سبقت الانفجار مباشرةً -صِف لي بالضبط ما حدث". هذا الصوت هو صوت الطبيب النفسي وهو يتحدث إلى جندي سابق يتم وضعه في بيئةٍ افتراضية، حيث تم تصميم المحاكاة التي يشاهدونها على غرار تجارب الجندي السابق في مناطق الحرب، وهي الأحداث التي سببت له اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD).

هذا هو نظام "بريف مايند" الذي وضعه في عام 2005 ألبرت سكيب ريزو وأرنو هارثولت، الخبراء في الواقع الافتراضي الطبي في جامعة جنوب كاليفورنيا، لعلاج الجنود العائدين إلى ديارهم من حرب العراق وأفغانستان. وفيه يروي الجنود القدامى المشهد لطبيبٍ نفسي وهم منغمسين في بيئةٍ افتراضية تحاكي تجاربهم المؤلمة، وحيث يمكن لهذا الطبيب التحكم بكيفية تطور الأحداث في مشهد المحاكاة. كما يمكن ملائمة جميع الأصوات والوقت من النهار وعدد الأشخاص أو السيارات الموجودة في مكان الحادث لتناسب المشهد الفعلي. ويتعرض الجندي السابق على مدى عدة جلسات لسيناريوهات متزايدة الشدة تقترب من إحياء ذكرى الصدمة الأصلية. والهدف من هذا العلاج النفسي هو التهدئة التدريجية من ردود الفعل السلبية للجنود القدامى على الذاكرة. ويُستخدم نظام "بريف مايند" الآن في حوالي 60 مركزاً للعلاج النفسي حول العالم.

ويعتمد نظام "بريف مايند" على تقنية نفسية شائعة تُعرف باسم العلاج بالتعرّض، يتم فيه إحضار الأشخاص لمواجهة مخاوفهم بطريقةٍ يمكن السيطرة عليها. ويضيف الواقع الافتراضي طريقةً لإنشاء سيناريوهات مفصّلة ومضبوطة بعناية يمكن أن تثير مستويات مختلفة من الخوف. وهذه الطريقة تجدي نفعاً لأنه حتى عندما يعرف الناس أنهم يشاهدون رسوميات حاسوبية، فإن أدمغتهم تتفاعل مع البيئات الافتراضية كما لو كانت حقيقية.

فمثلاً سيجد الشخص الذي يخاف من المرتفعات أن نبضات قلبه تتسارع وأن راحة يده تتعرق حتى لو كان يعلم تماماً أن الهبوط الحاد الذي يراه من خلال نظارة أو خوذة الواقع الافتراضي ما هو إلا رسومياتٌ حاسوبية. وذلك لأن الجهاز المسؤول عن استجاباتنا السلوكية والعاطفية في الدماغ، والذي يتحكم في استجابة "قاتل أو اهرب" يَنشط خلال أجزاءٍ من الثانية رداً على التهديدات المحتملة، أي قبل أن يتدخل الجزء المنطقي من الدماغ -والذي يعرف أن تجربة الواقع الافتراضي ليست حقيقية فعلياً- بوقتٍ طويل.

قد يحتوي على محتوى رسومي:

استخدم العلماء أنظمة الواقع الافتراضي للإنشاء والتحكم بـ عوالم ثلاثية الأبعاد معقدة ومتعددة الحواس للمتطوعين في مختبراتهم منذ التسعينيات. كما يمكن لجهاز محاكاة الطيران تدريب الطيارين واختبارهم في مجموعة متنوعة من البيئات، كذلك تسمح العوالم الافتراضية لعلماء النفس وعلماء الأعصاب بمراقبة الاستجابات المعرفية والعاطفية للأشخاص في المواقف التي يصعب إعدادها أو التحكم فيها بالعالم الحقيقي. لكن هذه التكنولوجيا عادةً ما تكون باهظة الثمن ومكلفةً للاستخدام السريري على نطاقٍ واسع.

لكنّ ذلك بدأ يتغير، ويعود الفضل لانخفاض تكاليف الحوسبة وازدياد قدرات الجيل الجديد من أنظمة الواقع الافتراضي، في وقتٍ نمت فيه قاعدة من الأدلة العلمية التي تقوم عليها الاستخدامات السريرية للواقع الافتراضي. وتم تطبيق هذه التقنية بنجاح لمعالجة الفصام والاكتئاب والرُّهاب (بما في ذلك الخوف من الطيران ورهاب العناكب واضطراب القلق الاجتماعي ورهاب الأماكن المغلقة)، وتقليل الألم لدى مرضى السرطان الذين يخضعون للعلاج الكيميائي. كما يمكن أن تساعد هذه التقنية في التدريب على مهارات الملاحة المكانية لدى الأطفال والبالغين الذين يعانون من إعاقاتٍ حركية والمساعدة في إعادة التأهيل بعد السكتة الدماغية أو إصابات الدماغ. ويمكن أيضاً استخدام مجموعة الأدوات هذه لمراقبة الأشخاص وتحديد المشكلات الطبية؛ مثلاً تم استخدام الواقع الافتراضي لتشخيص اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD) وأمراض باركنسون والزهايمر.

وعلى الرغم من أن كل حالة هي حالة فريدة من نوعها، إلا أنّ الباحثين وجدوا قواعد أساسية مشتركة لتصميم تجارب افتراضية ناجحة؛ حيث يتوجب على المعالجين أن يتحكموا في المشهد ويحددوا ما يراه المريض ويسمعه من أجل تعديل قوة الحوافز المخيفة؛ ويعمل العلاج بصورةٍ أفضل عندما يتجسد المريض في صورةٍ رمزيةٍ افتراضيةٍ لنفسه، بدلاً من أن يراقب المشهد من بعيد، حتى يشعر بأنه موجودٌ داخل المشهد؛ والمرضى بحاجةٍ أيضاً إلى الإدارة حتى يتمكنوا من ترك المكان إذا كان الأمر صعباً عليهم. وكل هذا يتضافر لإعطاء المريض وهم السيطرة ويجعل تجربة الواقع الافتراضي تبدو "حقيقية" من الناحية النفسية.

في بعض الحالات، تكون الأنظمة العلاجية قويةً جداً لدرجة أنه بدلاً من أن يقوم المعالج النفسي الواقعي بتوجيه المريض عبر المحاكاة المحفزة للقلق، يمكن للصورة الرمزية المتحركة التي تمثّل الطبيب القيام بالمهمة عوضاً عنه. وأظهرت تجربة سريرية أن مثل هذا النظام الآلي، الذي صممه الطبيب النفسي من جامعة أكسفورد دانيال فريمان، قد ساعد الناس على التقليل من خوفهم من المرتفعات. ففي المحاكاة الافتراضية، قام مستشارٌ افتراضي بإرشاد المرضى خلال صعودهم في مجمّع مكاتب افتراضي مؤلف من عشرة طوابق، حيث تطل الطوابق العليا على القاعة المركزية للمبنى. وفي كل طابق، حدد المستشار مهام المريض التي تم تصميمها لاختباره ومساعدته على تنظيم استجاباته للخوف، مثل المشي إلى حافة الشرفة أثناء خفض سياج الشرفة أو الركوب على أرضية متحركة في أعلى القاعة.

ووجد الدكتور فريمان أن ست جلسات من العلاج الافتراضي الآلي على مدار أسبوعين قللت بشكلٍ كبير من خوف الناس من المرتفعات، مقارنةً بالأشخاص الذين لم يتلقوا علاجاً. كما ساعد العلاج الافتراضي الآلي المشابه الذي تم تصمميه لعلاج رهاب العناكب والذي طوره فيليب ليندنر في جامعة ستوكهولم المرضى على لمس العناكب في نهاية المطاف. وبقي التناقص في مستوى الخوف واضحاً عندما تمت متابعة المشاركين بعد عام.

Asset 22@2x.png

بالنسبة للأطباء، توفر البيئات الافتراضية هي طريقة خالية من المخاطر لممارسة التجارب المهمة، حيث إنها تسمح للجراحين بالعمل في بيئاتٍ عالية الضغط تتطلب الكثير من المعارف. ويقول فيصل مشتاق، عالم الأعصاب الإدراكي بجامعة ليدز في إنجلترا: "عليك أن تتعلم بسرعةٍ كبيرة، وعليك اتخاذ قراراتٍ في مدةٍ زمنيةٍ ضيقةٍ للغاية وبدقة الملليمتر".

ومن شأن التدرب على المحاكاة بالحاسوب أن يقدم المساعدة. ففي نظام الواقع الافتراضي العصبي الذي طورته مجموعة من المستشفيات والجامعات الكندية يمكن للجراحين استخدام فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي الخاصة بمرضاهم للتمرن على إزالة أورام المخ قبل استخدام المشرط بشكلٍ حقيقي، حيث يحصل الجراح على عرض ثلاثي الأبعاد للورم على الشاشات ويتمرن على القص والحركات اللازمة عن طريق تحريك الأدوات المتصلة بذراع آلية تستجيب بردود فعلٍ لمسية. ويتيح ذلك للمستخدمين استشعار ما إذا كانوا يمرون على مواد صلبة أو لينة، وما إذا كانوا يمرون على الورم أو الأنسجة السليمة. ومن مزايا هذا النظام أنه بمجرد الانتهاء من تدريب الطبيب، سيصبح من الممكن استخدام التكنولوجيا لإجراء الجراحة عن بُعد. ويُعتبر كلٌ من التدريب الافتراضي والتجارب عن بُعد التي يتم إجراؤها على المرضى مفيداً في الوقت الذي أجبر فيه فيروس كوفيد-19 أنظمة الرعاية الصحية حول العالم على الفصل بين الأطباء والمرضى الذين لا يعانون من حالاتٍ طارئة.

في العملية:

عندما يحاول الجراحون إعادة بناء أحد أطراف المريض، فإن المشكلة الرئيسية هي تحديد الأوعية الدموية المهمة التي يجب حمايتها أثناء الجراحة. في السابق، كان الجراح يحاول تحديد تلك الأوعية باستخدام مسبار الموجات فوق الصوتية، لكن هذه العملية تستغرق وقتاً طويلاً وهي غير دقيقة. لذلك كان جيمس كينروس، الجراح الاستشاري في إمبريال كوليدج لندن، يقوم بتجربة نظارات هولولينس من مايكروسوفت، وهي سماعة رأس تعمل بتقنية الواقع المعزز، والتي يمكنها إسقاط النصوص والصور التي تم إنشاؤها بواسطة الحاسوب على العالم الحقيقي.

ولقد استخدم الدكتور كينروس التصوير المقطعي لأطراف المريض لتسليط الضوء على الأوعية الدموية الأكثر أهمية. وأعاد بناء هذا المسح كنموذج ثلاثي الأبعاد في محرك الألعاب يونيتي. ثم أسقطت نظارات هولولينس تلك المحاكاة على الطرف الحقيقي للمريض في غرفة العمليات أثناء العلاج.  يقول الدكتور كينروس، الذي استخدم أيضاً هذه التقنية أثناء جراحة السرطان لمساعدة الجراحين على تحديد الأنسجة السليمة وحمايتها: "ما قصدته هو أن الجراح يمكن أن يتخيل على الفور، وعلى وجه الدقة، تشريح هذه الأوعية الدموية، والتعرف عليها بسرعة كبيرة وحمايتها"، ويضيف أن اعتماد التكنولوجيا تم بسلاسةٍ كبيرة، لأنها سهلة التعلم وتوفر "استفادة فورية وواضحة جداً للطبيب".

ويعتقد الدكتور كينروس أنه يمكن دفع التكنولوجيا إلى أبعد من ذلك بكثير ويفضل تجربة بعض التعاون الآني مع زملائه أثناء إجراءٍ جراحي. وكما يقول: "لذلك إذا كنت تجري عملية جراحية صعبة، أو كنت ترغب في إجراء مناقشةٍ مع أحد الزملاء، فمن السهل جداً القيام بذلك ويمكن أن يكون لديهم وجهة نظر مختلفة".

على العموم فإن الاستخدامات الطبية للمحاكاة بالحاسوب تبشر بالخير، ولكن سيستغرق تقييم مدى فائدتها وقتاً طويلاً. حيث سيتطلب ذلك تجارب سريرية قوية ومناقشات حول أطر حماية البيانات على التقنيات التي يمكن، إذا تم تحقيق إمكاناتها، أن تصبح نوعاً جديداً من الأجهزة الطبية.

ويقول الدكتور مشتاق: "نحن لا نريد تسميم المورد، حيث أننا لا نريد أن نضع أنظمة غير فعالة، والتي ستكلف نظام الرعاية الصحية الكثير، مما سيؤثر سلباً على نمو هذا القطاع." بل يركز بحثه على سدّ بعض هذه الفجوات المعرفية من خلال بحث كيفية تحويل الدروس التي يتعلمها المستخدمون من التدرب على المحاكاة الافتراضية إلى مهاراتٍ في العالم الحقيقي.

ويمكن أن يتخذ تحديد صحة جهاز محاكاة عدة أشكال، أبسطها هو "صحة الوجه"، والتي تعكس مدى جودة شَبَه المحاكاة للمهمة في العالم الحقيقي. و"صحة البناء" هي طريقة لمقارنة فروق الأداء في المحاكاة بين الخبراء والمبتدئين. أخيراً، تعتبر "الصحة التنبؤية" مفيدة للغاية، لأنها تقيس مدى جودة أداء الشخص على جهاز المحاكاة في توقع قدرته على القيام بنفس المهمة في العالم الحقيقي.

تماماً مثل الحياة الواقعية:

يمكن استخدام هذا أيضاً لمعرفة الأوقات التي يعاني فيها المتعلمون من صعوبات وتقديم الدعم والتدخل المبكر لهم. ووجد الدكتور مشتاق وزملاؤه في بحثٍ نُشر في عام 2019 أن النتائج على جهاز المحاكاة تنبأت بأداء شخصٍ ما في العيادة بعد عامين.

ولقد ساعدت محركات ألعاب الفيديو على جعل التحقق من صحة الوجه أسهل بالنسبة لأجهزة المحاكاة. والخطوة التالية هي قياس صحة البناء والتنبؤ بشكلٍ أقوى. لسوء الحظ، يتم تنفيذ القليل من هذا النوع من أعمال التحقق من الصحة بواسطة الأكاديميين أو الشركات التي تبيع أجهزة المحاكاة. وللمساعدة على تحريك الأحداث وتشجيع الباحثين على بناء كمٍ من المعارف، أنشأ الدكتور مشتاق وزملاؤه مؤخراً مجموعة من الأدوات والبروتوكولات التي تُبّسط أبحاث السلوك البشري وتستفيد من محرك ألعاب اليونيتي كمنصة.

يعتقد مارك مون ويليامز، اختصاصي علم النفس المعرفي في جامعة ليدز الذي عمل مع الواقع الافتراضي لأكثر من عقدين، أن عوالم المحاكاة لديها إمكانات هائلة لتحسين التعليم والصحة البدنية والعقلية. ويقول: "ولكن إذا كنت تريد أن تحقق أقصى استفادة من هذه المجموعة القوية من الأدوات، فاستخدم التجربة العلمية للتأكد من أنها تعمل بشكلٍ صحيح".

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...