الابتكار الاجتماعي
إطار بناء قدرات المبتكرين - الجزء الأول

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 10

إطار بناء قدرات المبتكرين - الجزء الأول

   كندة المعمار

في أحد الأيام لاحظ الشاب الدانماركي (Ole Kassow) أثناء إحدى زياراته إلى دار لرعاية المسنين أن أحد المسنين الذي كان يقيم في دار الرعاية يعاني من الاكتئاب والعزلة، فقرر أن يستأجر عربةً دراجةً لاصطحاب الرجل المسن في جولة بالدراجة، وعند عودته لاحظ اهتماماً من قبل بقية كبار السن، ورغبة في القيام بنفس التجربة، ولكن كان عليه أن يجد حلاً لمحدودية حركة الكثير من كبار السن فكان الحل هو استخدام دراجة (trishaw).

ومن خلال الاطلاع على التحديات التي تواجهها دور الرعاية، وجد (Ole) أن كبار السن في الدنمارك الذين يقيمون في دور الرعاية يعانون من محدودية الحركة، بالإضافة إلى التهميش، وانعدام التواصل مع جيل الشباب، بسبب عدم قدرة كبار السن على مواكبة الشباب من خلال الأنشطة الفيزيائية والافتراضية، وعدم قدرتهم على فهم العادات وأنماط الحياة المحببة لدى الشباب.

وللعمل على ذلك التحدي بادر (Ole) بالتواصل مع مستشار المجتمع المدني من مدينة كوبنهاغن "Dorthe Pedersen"، حيث أثارت اهتمامه الفكرة واشتروا معاً خمس دراجات، وأطلقوا فكرة مبادرة بعنوان: "ركوب الدراجات لا عمر له" (Cycling Without Age).

ثم تم التعاون مع الجمعيات الاجتماعية المحلية، والتي تعاونت بدورها مع إحدى بلديات الدنمارك للمساعدة في الدمج الاجتماعي لكبار السن، وتشجيع المشاركة المجتمعية والمواطنة النشطة. وبدأت الجمعية العمل عبر مرحلة تجريبية قائمة على المشاركة المجتمعية والمواطنة النشطة من خلال توفير منصة يمكن للمتطوعين من خلالها تقديم رحلة لكبار السن الذين يعيشون في مراكز الرعاية، فكانت النتائج مذهلة، فقد تحسنت الرفاهية الجسدية والعقلية للمسنين، كما أن التفاعل بين كبار السن الذين يعيشون في دور رعاية المسنين وأفراد المجتمع الآخرين ازداد بشكل ملحوظ بعد أن كان محدوداً للغاية، وذلك حيث نشأت روابط جديدة داخل المجتمع وكان لها العديد من الآثار الجانبية الإيجابية للصغار والكبار، حيث عالج الحلّ الجديد التحديات الديموغرافية ودعم التماسك الاجتماعي طويل الأمد من خلال توليد التفاعل بين الناس في المجتمع الذين لم يكونوا ليقتربوا لولا تلك التجربة.

ومن خلال تكثيف الجهود، تم تمويل أكثر من 1500 دراجة (trishaw) تعمل حالياً في أكثر من 35 دولة عن طريق برامج على مستوى البلدية/المقاطعة، بالإضافة إلى التمويل من خلال دور رعاية المسنين المملوكة للقطاع الخاص، فضلاً عن آلاف المؤسسات التي تدعم القضايا الجديرة بالاهتمام من هذا النوع، وهي تتراوح من مؤسسة محلية صغيرة ذات أغراض محددة للغاية إلى مؤسسات وطنية (أو دولية) مع وسائل لدعم القضايا الأكبر، كما ساهمت عديد من الشركات التي لديها برامج اجتماعية تسمح لهم بالتبرع بوقتهم أو أموالهم أو منتجاتهم لأسباب اجتماعية، كما تم تمويل المشروع في اسكتلندا وفي إنجلترا من خلال أول تجربة للتمويل الجماعي.

ومع مرور الوقت، تم توسيع نطاق تطبيق "ركوب الدراجات لا عمر له" (Cycling Without Age) إلى أن شملت 2500 موقعاً حول العالم، ومن خلال وجود 35000 مدرب، كما قام فريق المبادرة بالتوسع في أنشطة المبادرة لتشمل تطبيق بعض قصات الشعر الشبابية على كبار السن إلى جانب ركوب الدراجات.

من هم المبتكرون؟

من خلال استعراض قصة ركوب الدراجات، يمكننا القول بأنّ كل شيء بدأ فعلياً عندما قرر (Ole) مؤسس المبادرة استئجار عربة للقيام بجولة مع رجل كبير السنّ في دار لرعاية المسنين، وبعد تكرار ذلك، وملاحظة رغبة بقية المسنين أن يعيشوا نفس التجربة، قرر (Ole) أن يكون أحد صناع التغيير، وأن ينتقل من فكرته البسيطة إلى مبادرة أحدثت فرقاً في حياة المسنين في عدد كبير من دول العالم، فالمبتكرون حقاً، هم الذين يرون التحديات الاجتماعية فرصة لتغيير المجتمع نحو الأفضل، حيث تولّد تلك الفرصة فكرة، وتتحول الفكرة إلى مشروع يحدث أثراً، ويحقق الربح والنمو.

Asset 40@4x.png

يعمل المبتكرون على تحديد التحديات الاجتماعية، والبدء بالعمل على تلك التحديات من خلال ما لديهم من إمكانيات، وما يتوفر في مجتمعاتهم من موارد محلية، وينطلقون من خلال أهداف واضحة في أذهانهم، من أجل الوصول إلى رؤية بعيدة المدى، متحلين بالعزيمة والثبات والتفاؤل والإيجابية، حتى يحققوا أهدافهم في أن تصبح مجتمعاتهم مكاناً أفضل للعيش.

Asset 39@4x.png

بناء قدرات المبتكرين الاجتماعيين:

إن هذه الرحلة التي يخوضها المبتكرون أثناء صناعة التغيير عادة ما تكون مليئة بالشغف والتحديات والعمل والإصرار، فالطريق طويل، والتحديات كثيرة، ممّا يعني أن الأمر يحتاج إلى الكثير من المثابرة والإصرار والعزيمة. ولكنّ السؤال الأهم هو هل هذه الرحلة متاحة للجميع؟ هذا ما سنعرفه في الجزء الثاني من هذا المقال، والذي سيصدر في العدد القادم من نشرة اتجاهات الأثر الاجتماعي.

من خلال كتابها: (طريقة التفكير: السيكولوجية الجديدة للنجاح، كيف يمكننا أن نستفيد من أقصى إمكانياتنا؟) تقدم البروفيسورة كارول دويك نظرية رائدة في مجال علم النفس الاجتماعي سمّيت بنظرية “العقلية”، وضعت خلالها منظوراً جديداً لتأثير المعتقدات البسيطة على السلوك الاجتماعي، ولقد وجدت أن مجرد تبنّي الأشخاص لنظريات بسيطة في تصور قدراتهم يمكن أن يغير حياتهم جذرياً، وقد يبدو الفارق ضئيلاً إلى درجة لا يصدقها عقل ما لم تدعمها نتائج الأبحاث العلمية. وتتلخص النظرية بأنه يمكن تقسيم الأشخاص بناءً على نظرياتهم البسيطة عن قدراتهم إلى قسمين: أشخاص يؤمنون بأن قدراتهم قد تم تحديدها مسبقاً، وأنها ثابتة لا تتغير، وأنه لم يبق لهم سوى العمل بمقتضى تلك القدرات التي تكونت لهم مسبقاً (سمّي هذا النمط من الاعتقاد بعقلية الثبات). وقسم آخر يعتقد أن قدراتهم (أيّاً كانت) فهي قابلة للنمو والتطور، وأنها تتغير استجابة لمدى استخدامهم لهذه القدرات وعدد التحديات التي يواجهونها (سمّي هذا النمط من الاعتقاد بعقلية النمو). وقد أوْضحتْ النتائج التجريبية بما لا يدع مجالاً للشك بأن التأثير السلوكي المترتب على تبنّي أيّاً من العقليتين هو تأثير حقيقي.

فإن الإيمان بأنّ صفاتنا منحوتة في الصخر –عقلية الثبات- تخلق لدينا ضرورةً لإثبات أنفسنا مراراً وتكراراً، فإنْ كان لدينا مقدار محدد من الذكاء، أو صفة أو خلق معين، من الأفضل أن نثبت أن لدينا نصيباً كافياً منها، ومن العجز أن نكون عكس ذلك.

في المقابل، هناك عقلية أخرى تقول بأن ما لدينا من إمكانات هو مجرد نقطة انطلاق للتقدم والنمو، فعقلية النموّ هذه مبنية على قناعتنا بأن قدراتنا هي أشياء نستطيع إثراءها بمجهوداتنا، وعلى الرغم من أن الناس تختلف فيها من حيث قدراتهم أو مواهبهم أو ميولهم الأولية، إلا أن الجميع يمكنه التغيّر والنمو من خلال الممارسة. وبالطبع هذا لا يعني بالضرورة أن أيّ شخص يمكنه أن يصبح أينشتاين أو بيتهوفن؟ كلا، لكنهم يعتقدون أن قدرات الإنسان الحقيقية مجهولة (ولا يمكن معرفتها)، ومن المستحيل التنبؤ بما يمكن تحقيقه بسنوات من الشغف والعمل الدؤوب والتدريب”.

 "إن هذا يجعل “عقلية النمو” ساحرة" حسب (دويك)، فهي تخلق شغفاً للتعلّم، بدلاً من الحاجة للشعور بالقبول، وتكون سمتها المميزة هي القناعة بأنّ القدرات البشرية كالذكاء والإبداع، وحتى المهارات العاطفية كالحب والصداقة، يمكن صقلها بالجهد الدؤوب والتدريب المتواصل، كما أن الأشخاص الذين يتمتعون بعقلية النمو لا يحبطون بالفشل، فهم لا يرون أنهم فشلوا في هذه المواقف أصلاً، بل يرون أنهم تعلّموا. وتستشهد (دويك) على ذلك بالاستناد إلى نتائج استبيان لـ 143 باحث في الإبداع، اتفقوا أن الصفة الأساسية التي يرتكز عليها الإبداع والإنجاز هي بالضبط سمة الإصرار والمثابرة حتى في حال عدم النجاح في المحاولات الأولى.

كيف نصبح مبتكرين وصانعي تغيير؟

انطلاقاً من الإيمان بعقلية النمو، وإمكانية تطوير القدرات من خلال التدريب، والممارسة مهما بدت محدودة، ومهما تأخر النجاح، ظهرت العديد من النظريات حول بناء قدرات المبتكرين، وتأهيلهم من أجل أن يكونوا صنّاعاً للتغيير، فقد قدم ديفيد كيلي مؤسس شركة IDEO العالمية الرائدة في مجال الابتكار، من خلال كتابه المشترك مع شقيقه توم كيلي "الثقة الإبداعية"، مجموعة من الأنشطة والخطوات التي تساعد على بناء الثقة الإبداعية لدى المبتكرين، ومصممي الحلول، كما تم تقديم العديد من الأطر في بناء قدرات المبتكرين، ولعل من أهم تلك الأطر، إطار بناء قدرات المبتكرين الاجتماعيين الذي قدمته مؤسسة NESTA البريطانية، والذي سنتحدث عنه بشكل تفصيلي من خلال سلسلة من المقالات التي ستشكل زاوية رئيسية في أعداد عام 2023. 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...