الابتكار الاجتماعي
الشعور بالوحدة.. شعورٌ قد يؤدي إلى مشكلاتٍ صحيةٍ خطيرة

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 10

الشعور بالوحدة.. شعورٌ قد يؤدي إلى مشكلاتٍ صحيةٍ خطيرة

يقول توني دينيس (Tony Dennis)، حارس الأمن البالغ من العمر 62 عاماً، إنّ لندن هي مدينة "منعزلون اجتماعيون"، حيث يرغب السكان في التعرف على بعضهم البعض ولكن قلّ ما يجدون طرقاً للقيام بذلك. لكن في هذه الليلة الوضع مختلف تماماً، حيث يتنافس دينيس وعشرات من السكان المحليين الآخرين في مسابقة شهرية أجرتها جمعية “Cares Family” الخيرية التي تهدف إلى التغلب على الشعور بالوحدة.

والمنافسون هم مزيج مدروس من السكان الكبار بالسن والمهنيين الشباب الجدد في المنطقة. ويقول مؤسس الجمعية الخيرية أليكس سميث (Alex Smith) البالغ من العمر 35 عاماً: "يشعر الشباب أيضاً أكثر وأكثر بالعزلة"، وهو يأمل أن تعزز مثل هذه الليالي شعوراً بالانتماء.

كما يتزايد قلق الأطباء وصناع السياسات في العالم الغني من الشعور بالوحدة، وتم إطلاق حملات للحد منه في بريطانيا والدنمارك وأستراليا. أما في اليابان، فقد أجرت الحكومة مسحاً حول (الهيكيكوموري hikikomori)، وهي الحالة التي تصف "الأشخاص الذين يغلقون أنفسهم عن المجتمع ويبقون في منازلهم". وفي العام الماضي، وصف الجراح العام السابق للولايات المتحدة فيفيك مورثي (Vivek Murthy) الشعور بالوحدة بأنه وباء، مشبهاً تأثيره على الصحة بتأثير السمنة أو تدخين 15 سيجارة يومياً. وفي يناير من عام 2018، عينت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي (Theresa May) وزيرةً للتعامل مع الشعور بالوحدة.

وإنّ وجود المشكلة هو أمر واضح وجلي ولكن طبيعتها ونطاقها ليسا كذلك، حيث أنه يمكننا قياس السمنة باستخدام مقاييس معينة ولكن كيف لنا أن نقيس المشاعر؟ يبدأ الباحثون من خلال تمييز العديد من الظروف ذات الصلة. فالوحدة ليست مرادفاً للعزلة الاجتماعية (عدد المرات التي يلتقي فيها الشخص أو يتحدث مع الأصدقاء والعائلة) أو الانفراد (مما يعني اختيار المرء أن يكون وحيداً).

بل يعرّف الباحثون الوحدة على أنها عزلة اجتماعية مدركة، وهي شعور بعدم وجود العلاقات الاجتماعية التي قد يريدها المرء. وبطبيعة الحال، من المرجح أن يشعر الشخص المنعزل بالوحدة أكثر من الشخص العادي. لكن الشعور بالوحدة يمكن أن يصيب أيضاً أولئك الذين لديهم عدد وافر على ما يبدو من الأهل والأصدقاء. كما أنّ الوحدة ليست دائماً أمراً سيئاً، حيث وصف عالم النفس الأمريكي جون كاسيوبو (John Cacioppo)، الذي توفي في مارس من عام 2018، الأمر بأنه رد فعل تلقائي مدفوع بالانتقاء الطبيعي. وأشار إلى أنّ الإنسان القديم كان يمر بظروف سيئة إذا تم عزله عن المجموعة، لذلك من المنطقي أن تثير الوحدة الرغبة في الرفقة. ولا تزال الوحدة العابرة تخدم هذا الغرض حتى يومنا هذا ولكن المشكلة تأتي عندما تطول هذه المرحلة.

ولمعرفة عدد الأشخاص الذين يشعرون بهذا الشعور، قامت كل من مجلة الإيكونوميست ومنظمة عائلة كايزر (KFF) الأمريكية غير الربحية التي تركز على الصحة بمسح عينات تمثيلية على المستوى الوطني لأشخاص في ثلاثة بلدان غنية[1]. ووجدت الدراسة أنّ 9% من البالغين في اليابان، و22% في أمريكا، و23% في بريطانيا دائماً أو غالباً ما يشعرون بالوحدة، أو يفتقرون إلى الرفقة، أو يشعرون بالاستبعاد أو العزلة (انظر الرسم البياني 1).

Asset 30@4x.png

وتأتي هذه النتائج مكملة للبحث الأكاديمي الذي يستخدم استبيانات موحدة لقياس الشعور بالوحدة، والذي تم إعداده في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس (UCLA) وهو يحتوي على 20 عبارة، مثل "ليس لدي من أتحدث إليه"، و "أجد نفسي أنتظر من الناس أن تتصل بي أو تكتب لي". ويتم تمييز الردود بناءً على مدى موافقة الأشخاص. ويتم تصنيف المستجيبين الذين تزيد إحصاءاتهم الحد الأقصى على أنهم يشعرون بالوحدة.

وبحسب تقدير إحدى الدراسات التي نشرت في عام 2010 باستخدام هذا المقياس أنّ 35% من الأمريكيين فوق 45 عاماً يعانون من الوحدة، و45% منهم شعروا بذلك لست سنوات على الأقل، و32% أخرى لمدة سنة إلى خمس سنوات. وفي عام 2013، صنّف مكتب الإحصاء الوطني البريطاني (ONS)، من خلال طرح سؤال بسيط، 25% من الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 52 عاماً أو أكثر على أنهم "يشعرون بالوحدة أحياناً" مع 9% إضافية "يشعرون بالوحدة في أغلب الأحيان".

وتشير أدلة أخرى إلى مدى العزلة. ووفقاً لجمعية “Age UK” الخيرية فإنّ 41% من البريطانيين الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً يعتبرون التلفزيون أو الحيوانات الأليفة رفيقهم الأساسي. أما في اليابان، وفقاً لتقرير صادر عن الحكومة في عام 2016 يظل أكثر من نصف مليون شخص في المنزل لمدة ستة أشهر على الأقل في المرة الواحدة دون أي تواصل مع العالم الخارجي. وبحسب دراسة حكومية أخرى فإنّ 15% من اليابانيين يأكلون بمفردهم دائماً على غرار البرنامج التلفزيوني الشهير الذي يسمى الذواق الوحيد (The Solitary Gourmet).

هل يعتصر قلبك ألماً؟

ثمة ندرة في البيانات السابقة حول الشعور بالوحدة. لكن يبدو أنّ العزلة تتزايد فعلياً، وبالتالي قد يكون هذا هو الحال أيضاً بالنسبة للشعور بالوحدة. ضع في اعتبارك الزيادة في العيش الانفرادي (انظر الرسم البياني 2). قبل عام 1960 نادراً ما ارتفعت نسبة الأفراد الذين يعيشون بمفردهم في أمريكا أو أوروبا أو اليابان عن 10%. أما اليوم فنجد في مدن مثل ستوكهولم أنّ معظم المنازل فيها فرد واحد فقط. ويختار الكثير من الناس العيش بمفردهم كدليل على الاستقلال. ولكن هناك أيضاً العديد من الناس في البلدان الغنية الذين يعيشون بمفردهم بسبب الطلاق أو وفاة أحد الزوجين مثلاً.

Asset 31@4x.png

وتتزايد العزلة من نواح أخرى أيضاً. فمن عام 1985 إلى عام 2009، انخفض متوسط حجم الشبكة الاجتماعية الأمريكية -المحددة بعدد الأفراد المقربين- بأكثر من الثلث. وتشير دراسات أخرى إلى تناقص عدد الأمريكيين الذين ينضمون إلى المجتمعات الاجتماعية مثل جماعات الكنيسة أو الفرق الرياضية.

كما أن فكرة الوحدة مضرّة بصحتك ليست بجديدة، حيث كانت إحدى الوظائف المبكرة لشرطة الخيّالة الملكية الكندية في منطقة يوكون هي مراقبة السلامة النفسية للمنقبين عن الذهب الذين قد يمضون شهوراً دون تواصل بشري. كما تشير الأدلة إلى القوة الإيجابية للحياة الاجتماعية، حيث تنخفض حالات الانتحار خلال نهائيات كأس العالم لكرة القدم مثلاً ربما بسبب الشعور العابر بالانتماء للمجتمع.

ولكن لم يدرس الطب الروابط بين العلاقات الاجتماعية والصحة إلا في الآونة الأخيرة. ففي عام 2015، قام تحليل شمولي بقيادة جوليان هولت لونستاد (Julianne Holt-Lunstad) من جامعة بريغهام يونغ في ولاية يوتا بتجميع 70 ورقة بحثية، تم من خلالها متابعة 3.4 مليون مشارك على مدى سبع سنوات في المتوسط. ووجدت أنّ أولئك الذين تم تصنيفهم على أنهم وحيدون لديهم مخاطر أعلى بنسبة 26% للوفاة، وأنّ أولئك الذين يعيشون بمفردهم لديهم فرصة أعلى لذلك بنسبة 32%، وذلك بعد مراعاة الفروق في العمر والحالة الصحية.

كما وجدت دراسات على نطاق أصغر ارتباطاً بين الشعور بالوحدة والعزلة وبين مجموعة من المشكلات الصحية، بما في ذلك النوبات القلبية والسكتات الدماغية والسرطانات والاضطرابات الغذائية وتعاطي المخدرات والحرمان من النوم والاكتئاب وإدمان الكحول والقلق. كما تشير بعض الأبحاث إلى أنّ الأشخاص الوحيدين هم أكثر عرضةً للمعاناة من التدهور المعرفي والتطور الأسرع لمرض الزهايمر.

وتقول نيكول فالتورتا (Nicole Valtorta) من جامعة نيوكاسل إنّ الباحثين لديهم ثلاث نظريات تفسر كيفية تسبب الوحدة بالاعتلال الصحي. وتتناول النظرية الأولى السلوك، ففي ظل غياب التشجيع من العائلة أو الأصدقاء، قد يغرق الشخص الوحيد في عادات غير صحية. والنظرية الثانية بيولوجية، حيث قد تؤدي الوحدة إلى زيادة مستويات التوتر مثلاً أو قلة النوم وبالتالي الإضرار بالجسم. أما النظرية الثالثة فهي نفسية، فالشعور بالوحدة يمكن أن يزيد من الاكتئاب أو القلق.

أو هل العكس صحيح؟ فربما يكون المرضى أكثر عرضةً للشعور بالوحدة. ففي استطلاع أجرته مجلة الإيكونوميست بالتعاون مع منظمة عائلة كايزر، قام ستة من كل عشرة أشخاص قالوا إنهم وحيدون أو منعزلون اجتماعياً بإلقاء اللوم على أسباب محددة مثل ضعف الصحة العقلية أو البدنية. وقال ثلاثة من كل عشرة إنّ وحدتهم دفعتهم إلى التفكير في إيذاء أنفسهم. كما تشير الأبحاث التي قادها ماركو إلوفينيو (Marko Elovainio) من جامعة هلسنكي وزملاؤه، باستخدام البنك الحيوي البريطاني (UK Biobank)، وهي قاعدة بيانات تطوعية لمئات الآلاف من الأشخاص، إلى أنّ العلاقة تسير في كلا الاتجاهين، فالشعور بالوحدة يؤدي إلى اعتلال الصحة والعكس بالعكس.

وتظهر دراسات أخرى المزيد عن أسباب الشعور بالوحدة، والسبب الشائع هو عدم وجود شريك. ووجد تحليل بيانات المسح أنّ المتزوجين أو المتعايشين كانوا أقل عزلةً بكثير. ويبدو أنّ وجود شريك هو أمر مهم لا سيما لكبار السن، نظراً لأن لديهم علاقات أقل (ولكن غالباً ما تكون أوثق) من علاقات الشباب.

ومع ذلك، فإنّ الشعور بالوحدة ليس ظاهرةً خاصة بكبار السن، فلم يجد الاستطلاع أي صلة واضحة بين العمر والشعور بالوحدة في أمريكا أو بريطانيا وكان الشباب في اليابان في الواقع أكثر عزلة. ويميل الشباب وكبار السن (الذين تزيد أعمارهم عن 85 عاماً) إلى الحصول على أعلى نسبة من الأشخاص الوحيدين من جميع الفئات العمرية للبالغين. وتشير أبحاث أخرى إلى أنّ الشعور بالوحدة لدى كبار السن يرجع عادةً لسبب محدد مثل الترمل. أما لدى الشباب، يرجع ذلك عموماً إلى وجود فجوة في التوقعات بين علاقاتهم الحالية وتلك التي يريدونها.

ومن المرجح أن تشعر بعض المجموعات بالوحدة بغض النظر عن عمرهم مثل الأشخاص ذوي الإعاقة والمهاجرين. ووجدت دراسة للمهاجرين البولنديين في هولندا نشرت في عام 2017 أنهم أبلغوا عن معدلات أعلى بكثير من الشعور بالوحدة من الأشخاص المولودين في هولندا الذين تتراوح أعمارهم بين 60 و79 عاماً (على الرغم من أنّ المهاجرات الإناث تملن إلى أن تعاملن بشكل أفضل من أقرانهن الذكور). وخلص مسح أجرته إحدى النقابات العمالية الصينية في عام 2010 إلى أنّ "السمة المحورية لتجربة المهاجرين" هي الشعور بالوحدة.

وغالباً ما تعاني المناطق التي هاجر منها الأفراد، مثل المناطق الريفية في الصين، من معدلات أعلى من الشعور بالوحدة أيضاً. وجدت دراسة أجريت على كبار السن في مقاطعة أنهوي بشرق الصين نشرت في عام 2011 أنّ 78% أفادوا بوجود "مستويات معتدلة إلى شديدة من الشعور بالوحدة"، غالباً نتيجة انتقال الأقارب الأصغر سناً. وتم العثور على اتجاهات مماثلة في أوروبا الشرقية التي غادر منها الشباب للعثور على عمل في مكان آخر.

وعادةً ما يكون أفضل تفسير للشعور بالوحدة بأنه نتيجة عوامل فردية مثل الإعاقة أو الاكتئاب أو الترمل أو مغادرة البلد بدون شريك حياتك. ومع ذلك، يقول بعض المعلقين إنّ هناك قوى أكبر موجودة مثل "الليبرالية الجديدة".

من أين يأتي هذا كله؟

في الواقع، من الصعب إثبات أنّ الأشياء المجردة تثير بعض المشاعر. كما أنّ الأبحاث حول معدلات الوحدة المبلغ عنها لا يدعم الرأي القائل بأنّ المجتمعات الفردانية الغنية أكثر شعوراً بالوحدة من غيرها. ووجدت دراسة نشرها توماس هانسن وبريت سلاجفولد (Thomas Hansen and Britt Slagvold) من جامعة أوسلو متروبوليتان في عام 2015، مثلاً، أنّ الشعور "الشديد" بالوحدة تراوح بين 30-55% في جنوب وشرق أوروبا، مقابل 10-20% في غرب وشمال أوروبا. وخلص المؤلفون إلى أنّه "من التناقض إذن أن يكون كبار السن أقل عزلةً في ثقافات أكثر فردية وأقل اتساماً بالطابع العائلي".

وأشار بحثهم إلى تفسيران، والتفسير الأهم هو أنّ بلدان أوروبا الجنوبية والشرقية أفقر بشكل عام، مع وجود القليل من دول الرفاهية. أما السبب الثاني فيتعلق بالثقافة، حيث جادل المؤلفون أنه في البلدان التي يتوقع فيها كبار السن العيش بالقرب من الأقارب الأصغر سناً وتلقي رعايتهم، تكون الصدمة أكبر عندما لا يحدث ذلك.

وثمة شيء آخر هو رأس المشكلة في الجدل المعاصر ألا وهو التكنولوجيا، حيث يتم إلقاء اللوم على الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي في زيادة الشعور بالوحدة لدى الشباب. وهذا أمر غير مستبعد، حيث تشير البيانات الواردة من نادي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في معظم الدول الغنية إلى أنه في كل دولة عضو تقريباً، ارتفعت نسبة الأطفال في سن 15 عاماً الذين يقولون إنهم يشعرون بالوحدة في المدرسة بين عامي 2003 و2015.

ومن السهل أن نعتبر الهاتف الذكي كبش الفداء في هذه الحالة، حيث أنّ الانخفاض الحاد في عدد المرات التي يخرج فيها المراهقون الأمريكيون بدون والديهم بدأ في عام 2009، وذلك عندما أصبحت الهواتف المحمولة في كل مكان. فبدلاً من الالتقاء وجهاً لوجه في كثير من الأحيان، كما يقال، أصبح الشباب يتواصلون عبر الإنترنت.

لكن هذا لا يجب أن يزيد شعورهم بالوحدة، فقد تساعدهم تطبيقات السناب شات والانستغرام على الشعور بمزيد من التواصل مع الأصدقاء. ومن بين أولئك الذين قالوا إنهم شعروا بالوحدة في استطلاع الإيكونوميست/منظمة عائلة كايزر، وجد الكثيرون أنّ وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة بقدر ما اعتقدوا أنها جعلتهم يشعرون بالسوء (انظر الرسم البياني 3). ومع ذلك، يقول بعض علماء النفس إنّ تصفح صور الآخرين المختارة بعناية يمكن أن يجعل الناس يشعرون بأنهم مستبعدون ومهملون ووحيدون. وفي دراسة أجريت على الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و32 عاماً، والتي نشرت في عام 2017، وجد بريان بريماك (Brian Primack) من جامعة بيتسبرغ وزملاؤه أنّ الربع الذي غالباً ما يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كان أكثر عرضةً للإبلاغ عن الشعور بالوحدة بمقدار الضعف مقارنة بمن يستخدمها بنسبة أقل.

Asset 32@4x.png

وليس من الواضح ما إذا كان الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى الشعور بالوحدة أم العكس. ويظهر بحث آخر أنّ العلاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والاكتئاب مثلاً ضعيفة. بينما وجدت الدراسة الحديثة الأكثر دقة حول استخدام المراهقين البريطانيين لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي نشرها أندرو برزيبيلسكي ونيتا وينشتاين (drew Przybylski and Netta Weinstein) في عام 2017، عدم وجود صلة بين الاستخدام "المعتدل" ومعايير مستوى الرفاه. لقد وجدوا أدلة تدعم "فرضية الاعتدال الرقمية"، فربما الأفضل هو عدم قضاء وقت أقل ولا أكثر من اللازم على شاشات الأجهزة.

فلتعلم ما أشعر به الليلة

يعتقد البعض الآخر أنّ التكنولوجيا يمكن أن تقلل من الشعور بالوحدة. فعلى قمة تل في منطقة جيوفيك في النرويج، على بعد ساعتين بالقطار من أوسلو، يعيش بير روليد ((Per Rolid، وهو مزارع أرمل يبلغ من العمر 85 عاماً. وتعيش ابنة واحدة له في الجوار، لكنه يعترف بأنه يشعر بالوحدة. لذا فقد وافق على المشاركة في تجربة جهاز Komp لكبار السن الذي صنعته شركة “No Isolation” الناشئة التي تأسست في عام 2015. ويتكون هذا الجهاز من شاشة كمبيوتر أساسية ليس لها لوحة مفاتيح أو تسجيل دخول أو كلمة مرور وهناك زر واحد فقط لتشغيل الجهاز، وهو يمكّنه من تلقي الرسائل والصور ومكالمات الفيديو من أحفاده وأقاربه المنتشرين في جميع أنحاء العالم.

على صعيد آخر، يساعد روبوت AV1 من إنتاج الشركة النرويجية “No Isolation” الأولاد المصابين بأمراض مزمنة. وهو عبارة عن روبوت على شكل رأس أبيض بدون جسد مع وجود كاميرات في تجاويف العين، يسمح للأطفال الذين تفوتهم المدرسة بالشعور كما لو كانوا حاضرين في الفصل بفضل تقنية البث المباشر. يمكن وضع روبوت AV1 على المقعد حتى يتمكن الأطفال الغائبون من متابعة ما يجري. وإذا أرادوا طرح سؤال، يمكنهم الضغط على زر موجود في تطبيق AV1 فيضيء الجزء العلوي من رأس الروبوت.

وفي اليابان، تم استخدام ما يسمى بـ "الروبوتات الاجتماعية"، مثل روبوت Paro، للترفيه عن كبار السن والعجزة لفترة من الزمن إلا أنها أصبحت أكثر تعقيداً فيما بعد. ويمكن لـ Pepper، وهو روبوت بشري تم تصنيعه بواسطة شركة تابعة لشركة “SoftBank” اليابانية، متابعة نظرة الشخص وتكييف سلوكه استجابةً للبشر. في العام الماضي، بدأ المجلس في بلدة ساوثيند الساحلية الإنجليزية في نشر Pepper في دور الرعاية الصحية.

ويقوم مقدمو الرعاية الصحية الآخرون بتجربة الواقع الافتراضي. ففي أمريكا، تجري جامعة “UCHealth” تجارب على العلاج بالواقع الافتراضي الذي يسمح لبعض مرضى السرطان بالحصول على تجارب "قائمة الأمنيات"، مثل التزلج في كولورادو. في عام 2016، تعاونت شركة “Limal” الأسترالية للواقع الافتراضي، مع شركة “Medibank” للتأمين، لبناء تجربة افتراضية للأشخاص الوحيدين الذين لا يستطيعون مغادرة أسرّتهم في المستشفى.

ونظراً لأن التكنولوجيا أصبحت أكثر إنسانية، فقد تكون قادرةً على فعل المزيد والمزيد لتحل محل العلاقات الإنسانية. ففي هذه الأثناء، تزدهر الخدمات التي تقدم تواصلاً بشرياً للأشخاص الوحيدين. ويتجلى هذا في اليابان من خلال الوكالات والتطبيقات التي تسمح لك باستئجار عائلة أو صديق، أي صديقة للشاب الأعزب مثلاً، أو نائحين في الجنازة، أو مجرد رفيق لمشاهدة التلفزيون معه.

مثل هذه المنتجات ليست مجرد عادات يابانية غريبة، حيث تقوم شركة “One Caring Team” الأمريكية بالاتصال بالأقارب المسنين الوحيدين والاطمئنان عليهم مقابل دفع رسوم شهرية. وثمة خط ساخن مشابه (لكن مجاني) يسمى Silver Line”" تديره مؤسسة خيرية بريطانية تم إطلاقه في عام 2013 ويستقبل ما يقرب من 500.000 مكالمة في السنة. ويتم دعم موظفيه في مقرهم في بلاكبول من قبل متطوعين في جميع أنحاء البلاد في خدمة “Silver Friend”، وهي مكالمة منتظمة مرتبة مسبقاً بين متطوع وأحد كبار السن.

وتستغرق معظم المحادثات حوالي 15 دقيقة. وبدأ أولئك الذين يتصلون بالخط الساخن أثناء زيارة مراسلك بموضوع عام، مثل الحديث عن الطقس والحيوانات الأليفة وعما فعلوه ذلك الصباح. ولم يظهر السبب الحقيقي لدعوتهم إلا لاحقاً من خلال تعليق عفوي. وغالباً ما يشير ذلك إلى الحاجة إلى الشريك والصحبة التي سيجلبها. وأشار أحد موظفي “Silver Line” إلى أنّ آخرين يتصلون ولكن بالكاد يتحدثون.

بالنسبة للكثيرين، لا تعتبر المكالمات الهاتفية بديلاً عن الصحبة. وتم تأسيس شركة “Nesterly” في عام 2016 بهدف تسهيل الأمر على الأفراد الأكبر سناً الذين لديهم غرف فارغة يمكنهم تأجيرها للشباب الذين يساعدونهم في الأعمال المنزلية مقابل تقديم خصم على الإيجار. وكما تشير نويل ماركوس (Noelle Marcus) المؤسسة المشاركة للشركة إنّ هذه المنصة "وجدت نفسها فجأة تعالج الشعور بالوحدة". ويقوم المستخدمون بالتسجيل على المنصة وإنشاء ملف تعريف ثم عمل قائمة بغرفهم. وفي العام الماضي، تعاونت الشركة الناشئة مع مدينة بوسطن، ماساتشوستس، لاختبار المبادرة في جميع أنحاء المدينة.

وثمة مشاريع مماثلة تديرها شبكة الجمعيات الخيرية “Homeshare” تعمل في 16 دولة من بينها بريطانيا. وفي أماكن أخرى، يختبر صانعو السياسات بعض الحوافز لتشجيع الكبار والصغار على الاختلاط. وفي مدن مثل ليون في فرنسا وديفنتر في هولندا وكليفلاند في أوهايو، تقدم دور رعاية المسنين أو السلطات المحلية للطلاب إيجاراً مجانياً أو رخيصاً مقابل المساعدة في الأعمال المنزلية.

ومما يعتبر مساهمة إيجابية هو أنّ هناك الكثير من الشركات الناشئة التي تريد "زعزعة" الشعور بالوحدة. ولكن معظم العبء الناتج عن الشعور بالوحدة ستتحمله النظم الصحية. وتحاول بعض الشركات معالجة المشكلة من جذورها، ففي العام الماضي، أطلقت شركة “CareMore” الأمريكية للرعاية الصحية المملوكة لشركة “Anthem” للتأمين، مخططاً مخصصاً. ويوضح رئيسها ساشين جين (Sachin Jain) قائلاً: "نحاول إعادة طرح شعور الوحدة بوصفه حالةً صحية يمكن علاجها".

الحل بيدك

هذا يعني، أولاً، فحص 150.000 مريض لتحديد الشعور بالوحدة. ويسأل الأشخاص المعرضون للخطر عما إذا كانوا يريدون التسجيل في برنامج "Togetherness" الذي يتضمن مكالمات هاتفية من موظفين يطلق عليهم "الموصلات" الذين يساعدون في تعريف المرضى على الأحداث والأفكار حول التواصل الاجتماعي. ويتم حث المرضى على زيارة العيادات، حتى عندما لا يكونون بحاجة إلى علاج عاجل، وذلك للعب الألعاب وحضور صالة الألعاب الرياضية لكبار السن والدردشة فقط.

ومن جانبها، تستخدم دائرة الصحة الوطنية في إنجلترا بشكل متزايد "الوصفات الطبية الاجتماعية"، وترسل المرضى إلى الأنشطة الاجتماعية بدلاً من إعطائهم الأدوية. وثمة أكثر من 100 برنامج من هذا القبيل في بريطانيا. ومع ذلك، خلص استعراض 15 تقريراً في العام الماضي إلى أنّ الأدلة حتى الآن كانت أضعف من أن تدعم أي استنتاجات حول فعالية هذه البرامج، مما ينعكس سلباً على حالة التفكير بالشعور بالوحدة. وهناك الكثير من الأسباب لأخذ آثاره على الصحة على محمل الجد، إلا أنّ جودة الأدلة حول أي العلاجات أكثر فاعلية هو أمر مخيب للآمال. ويؤسفنا القول إن من المتوقع أن يظل الشعور بالوحدة موضوعاً يسبب قدراً هائلاً من القلق مع تغيب إمكانية المعالجة.



[1] يمكن الاطلاع على تقرير مفصّل عن نتائج المسح من خلال زيارة الموقع التالي: https://www.kff.org/other/report/loneliness-and-social-isolation-in-the-united-states-the-united-kingdom-and-japan-an-international-survey

 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...