الابتكار الاجتماعي
فخ البيانات

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 10

فخ البيانات

   عامر قاسم

في مطلع القرن الماضي ومع انتقال أسواق العمل الصغيرة المحصورة في بعض المدن والقرى إلى أسواق عمل أكبر، زادت التحديات أمام مسوقي المنتجات والخدمات لتسويق ما يقدمونه بسبب زيادة المنافسة، وهذا الأمر دفع عدداً منهم إلى إعادة النظر في أسلوب تسويق منتجاتهم وخدماتهم، نتج عن ذلك ظهور الكثير من أساليب التسويق المختلفة التي تحاول التأقلم مع نمو هذا السوق.

وقد وصف الكاتب (روبرت كيث Robert J. Keith) عام 1960 في (مجلة التسويق journal of marketing) إحدى هذه الأساليب التي اعتمدتها شركة (بيلزبري Pillsbury)[1] بأنها ثورة في عالم التسويق، حيث قال في ذلك: "لم تعد الشركات هي العنصر الأهم في عالم الأعمال، بل أصبح المستفيد هو الأهم، فانتقل اهتمامنا من التركيز على المنتج إلى التركيز على تسويق المنتج، ومن الاهتمام بالمنتج الذي نستطيع إنتاجه إلى المنتج الذي يريده المستفيد، ومن التركيز على الشركة إلى التركيز على سوق العمل"

فالتسويق في جوهره ما هو إلا صلة وصل بين مقدّمي المنتجات والخدمات والمستفيدين منها، والهدف النهائي منه هو تحقيق عملية البيع، أي تحقيق الربح لمقدّمي المنتجات والخدمات وتحقيق رغبة المستفيدين، ورغم أن النهاية تصب في نقطة واحدة إلا أن الطريق إلى هذه النقطة يختلف حسب أولوية مقدّمي المنتجات والخدمات، فمنهم من يركّز على ما يقدّمه من منتج أو خدمة، وعملية الترويج والبيع والربح تأتي لاحقاً، ومنهم من يركز على الأرباح التي يريد تحقيقها، ومنهم يهتم بعملية البيع ذاتها، ومنهم من يركز على ما يريده المستفيد.

ففي شركة (بيلزبر (Pillsburyكان التركيز على المنتج أو حتى على أن يكون الربح مناسباً في وقت من الأوقات (ما قبل 1960م)، نظراً لضيق سوق عمل الشركة ومحدوديته، ومع توسع هذا السوق من مجتمع صغير إلى مدينة ثم ولاية إلى عدة ولايات وصولاً إلى كافة الولايات الأمريكية، ظهرت المنافسة من شركات تقدم منتجات وخدمات مشابهة لشريحة مشابهة من المستفيدين، مما دفع (بيلزبري (Pillsbury إلى مستوى آخر من التركيز، وهو التركيز على المستفيد، وخلال سنوات قليلة انتقل هذا الأسلوب من شركة (بيلزبري (Pillsburyإلى عديد من الشركات التي تبنته وطورت عليه، ليتحقق بعد ذلك ما وصفه الكاتب (روبرت كيث (Robert J. Keith بثورة التسويق، الذي تحدث عن التغيير في المستقبل فقال: "إن هذه الثورة ما زالت في بدايتها، وإن ما يقدمه التسويق المهتم بالمستفيد هو ما يؤمّن للشركات استدامة أكبر، ويحفزها على التخطيط طويل الأمد بدلاً من تركيزها على تسويق قصير الأمد، يسعى لبيع منتج محدد وتحقيق ربح محدد في وقت محدد، بل يفتح المجال للتفكير في التطوير لتظل منتجات هذه الشركات مرغوبة من المستفيدين لأطول وقت ممكن".

ومنذ ذلك الحين انتقل التسويق من مجرد طريقة للإعلان والترويج لمنتج أو خدمة ما، إلى عملية أكثر تعقيداً، تتطلب من مقدمي المنتجات والخدمات الذين يريدون التركيز على المستفيدين أن يقوموا بجمع المعلومات عما يحتاجه المستفيدون، وعن رغباتهم الحقيقية، وما الذي ينقصهم، من أجل أن يطوروا منتجاتهم أو خدماتهم الحالية، أو يطوروا منتجات أو خدمات جديدة تلبي هذه الحاجات والرغبات وتملأ النقص الناتج عنها.

كانت عملية جمع البيانات وتحليلها سابقاً تحتاج إلى العديد من الأدوات كإجراء المقابلات، أو إجراء المسوحات البيانية، وتنفيذ الدراسات المعمقة عن المستفيدين، ثم تحليل تلك البيانات، واستخراج أهم البصائر التي تساعد مقدمي المنتجات والخدمات في بناء استراتيجيات تسويق جديدة، وقد كانت هذه العملية تشكل تحدياً حقيقياً نظراً لاستهلاكها كثيراً من الوقت والجهد والموارد.

مع نهايات القرن الماضي ظهر الحل الأمثل لهذا التحدي، بظهور شبكة الإنترنت التي وفّرت طرقاً جديدة في مجال الاتصالات وجمع البيانات والمعلومات وتبادلها بسهولة وبسرعة أكبر من السابق، لكن القفزة الحقيقية التي حصلت هي ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نقلت التواصل المحدود عبر البريد الإلكتروني وبعض المواقع والمنتديات إلى طريقة أكثر تفاعلية، سهّلت الوصول والاستخدام والانتشار على نطاق واسع، وصل تقريباً إلى كل شخص لديه القدرة على الاتصال بشبكة الإنترنت، حتى أصبح النطاق الذي وصلت إليه وسائل التواصل الاجتماعي سبباً في جعلها منجماً للبيانات.

فسهولة الوصول لهذه البيانات، ووجود بعض الأدوات المساعدة في تحليل هذه البيانات، لم يساعد في الوصول إلى بصائر ملهمة في تحديد احتياجات المستفيدين ورغباتهم فحسب، بل سهّل عملية فهم المستفيدين وتلقي ردود أفعالهم وتقييماتهم، ما ساهم بدوره في عملية صنع القرار حول المنتجات والخدمات، وفتح أبواب عمل جديدة لمقدميها، وهذا ما جعل التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي يسمى بــ "ثورة التسويق الإلكتروني".

أصبح الآن فهم المستفيد ومعرفة رغباته أسهل من أي وقت مضى، وبات التسويق المرتكز حول المستفيد ليس "ثورة في التسويق" فحسب، بل يكاد يكون الطريقة المثلى للتسويق، ولكن هل هذا ما حدث حقاً؟

في الحقيقة، وعلى الرغم من كل الإيجابيات التي تكلمنا عنها، إلّا أن بعض المشكلات بدأت بالظهور، فقد وقعت الكثير من الشركات وخاصةً الناشئة منها في فخ البيانات، إذ بدأ التركيز في التسويق ينساب شيئاً فشيئاً من التركيز على المستفيد لينتقل إلى التركيز على البيانات بحد ذاتها، مما يفقد هذه البيانات قيمتها والهدف والمغزى الرئيسي منها، فأكبر مشكلة تواجه معظم الشركات الناشئة في وقتنا الراهن هي الاستدامة، وفي دراسة أجرتها مجلة (فوربس forbes) العالمية نشرتها عام 2015 [2] تبين أن 90% من الشركات الناشئة تخفق في تحقيق الاستدامة، وأن نصف هذه الشركات تقريباً تعتقد أن السبب الوحيد والرئيسي لإخفاقها هو تقديم منتجات وخدمات لا أحد يريدها، فبدون منتج أو خدمة مرغوبة لن تستطيع الانتقال إلى الخطوة التالية.

في النهاية إن "ثورة التسويق الإلكتروني" ماهي إلا امتداد "لثورة التسويق" التي بدأت في ستينيات القرن الماضي، والمسبب الرئيسي لكلا الثورتين واحد وهو توسع سوق العمل، وزيادة حاجة مقدمي الخدمات والمنتجات لتقديم ما يحتاجه المستفيد، ليستطيعوا ضمان استدامة شركاتهم.

 والآن أكثر من أي وقت مضى، ولوصول سوق العمل إلى أوسع ما يمكن أن يصل إليه في الغالب، يجب على مقدمي الخدمات والمنتجات العمل بجهد أكبر لإيجاد الثغرة التي يريدون إغلاقها في سوق الترويج الضخم، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي من أفضل الوسائل المساعدة على ذلك، لكن التحدي الحقيقي هو الاستمرار في التركيز على المستفيد وعلى ما يريده ويحتاجه، وعدم الوقوع في فخ التركيز على بعض البيانات التي لا تفيد، كأرقام الوصول والمشاهدات التي ستتحقق لاحقاً في حال التركيز على المستفيدين والاهتمام بحاجاتهم.


[1]  شركة بيلزبري هي شركة أمريكية تأسست عام 1869م في مدينة مينيبوليس التابعة لولاية مينيسوتا وهي من أكبر شركات العالم المنتجة للحبوب والقمح

 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...