مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 11
الابتكار الثقافي: الماهية والكيفية
يرتاب الكثير من رواد الثقافة من إدخال مصطلحات السوق إلى حقول الثقافة، ويرون فيها تهديداً بالتسليع والشعبوية وضياع الحدود التي تميز الثقافة. وبعدِّ الابتكار أحد تلك المصطلحات ربما يرتاب البعض من هذا المصطلح ويظن أنه إقحام في غير محلِّه.
نعم، قد يكون المصطلح جديداً بعض الشيء، ولكن هذا لا يعني أن الممارسة فيه جديدة أيضاً، فالثقافة على مر التاريخ تعتاش على الابتكار في المضامين والأساليب والأفكار، ولو أردنا تتبع تاريخ الابتكار الثقافي فسنُدخل فيه كل الاختراعات الثقافية على مر العصور، بدءاً من ابتكار الكتابة نفسها وسيلة تعبير، وصولاً إلى الآلة الكاتبة وبداية الطباعة التي غيرت شكل العالم، كما سنُدخل فيه التجديد الثقافي في المفاهيم والرؤى والأطروحات الفكرية والنتاجات الأدبية، وتطوير أساليب العمارة ومدارس الفنون التشكيلية وغيرها من التطورات في مختلف المجالات الثقافية.
ما يمكن عدُّه مستحدثاً في الآونة الأخيرة، والذي أرفض تخصيص الابتكار الثقافي فيه هو استخدامات التقنية في الثقافة، والابتكار في المنظمات الثقافية بوصفها كيانات حديثة إلى حد ما، وبالتأكيد التأطير لهذه الممارسات في الابتكار الثقافي، ولهذا آثرت عدم الإثقال بتكرار الكلام عن اختراعات ثقافية طال العهد بها حتى لم نعد نستشعر ثورتها التي قامت بها لحظة ابتكارها، ولا الحديث عن مجالات ثقافية بعينها وكأن الابتكار الثقافي محصور فيها، وإنما أردت فتح الباب على مختلف المجالات الثقافية بدءاً من التعريف وليس انتهاء بالأدوات والأشكال، مع التأكيد على توسيع دلالة المصطلح وعدم الانصياع للتصور المختزل عنه والمربوط دائماً بالابتكار التكنولوجي.
تعريف الابتكار الثقافي
إذا كان مصطلح "الابتكار" يكاد يستحيل حصر تعريفاته، فكيف إذا أضفنا له مصطلحاً يفوقه في التعقيد وكثرة التعريفات! "الابتكار الثقافي" مصطلح مركَّب، وجرت العادة بتعريف أفراد المصطلح المركب ثم تعريفه بوصفه مصطلحاً واحداً. وفي هذه الحالة فالابتكار كما قلنا تتعدد تعريفاته بتعدد الكتب فيه، وكذلك الثقافة التي تفاوتت التعريفات لها على وجه يصعب الإمساك بتعريف متفق عليه. ولهذا نجد أنفسنا مضطرين لاختيار أحد التعريفات الموجودة، أو صك تعريف خاص نتفق عليه ونتمركز حوله في هذا العدد الخاص بالابتكار الثقافي.
ولأن موضوع "الابتكار الثقافي" ما زال تحت الإنضاج والمدارسة ولم تستقر فيه الأدبيات ولا التعريفات، لم يكتب فيه الكثير حتى الآن، مما يدعو لمزيد عناية به وتأمل ونظر. من التعريفات ما صاغه الفيلسوف الإيطالي ريكاردو بوزو ومن معه في بحث (What does cultural innovation stand for) من أن الابتكار الثقافي هو: "نتيجة عمليات الإبداع المشترك المعقدة التي تنطوي على انعكاس تدفقات المعرفة عبر البيئة الاجتماعية داخل مجتمعات الممارسات مع تعزيز إدراج التنوع داخل المجتمع، والتي تتخذ موقفاً حاسماً ضد عدم المساواة في توزيع المعرفة واستخدامها وتبني الابتكار لتحسين رفاهية الأفراد والمجتمعات".
وهذا التعريف ينطلق من تعريف الثقافة الأنثروبولوجي الشامل، ويُرى الابتكار فيه محصوراً في الإبداع المشترك. ومع أن سمة الاشتراك هي إحدى سمات الابتكار إلا أنه ليس محصوراً فيها، كما توسع التعريف ليشمل الأهداف والآثار.
والتعريف الذي أود الانطلاق منه في هذا المقال للابتكار الثقافي هو: "استحداث ذو قيمة في المجالات الثقافية".
فالابتكار كما نراه هو الإضافة ذات القيمة، فليست الغاية التجديد والاختلاف، بل الأثر والمعنى المطلوب إحداثه هو الأهم. والتخصيص المراد بـ"الثقافي" أي: الصناعات الثقافية، أو ما يسمى بالصناعات الإبداعية، ومن ثم فالابتكار الثقافي يتضمن تطوير فكرة أو تصميماً جديداً في المجال الثقافي، والذي يمكن أن يشمل الأدب والفنون والموسيقى والتصميم والأزياء والمطبخ والعمارة وغيرها من المجالات الثقافية. سواء جاء الابتكار الثقافي متمثلاً في إدخال تغييرات جذرية في الأساليب التقليدية والمتبعة في هذه المجالات، أو تحديثها بإضافة عناصر جديدة ومبتكرة.
وهذا التعريف يفتح الأفق لبحث فرص الابتكار والاستحداث في هذه المجالات، مستفيدين من الصناعات الأخرى، ومن الحقول الأخرى، مع الحرص على المواءمة والتبيئة وفق الخصوصية الثقافية، بالإضافة إلى كون التعريف واسع الدلالة على مختلف أنواع الابتكار الثقافي كما سيأتي، وعدم التركيز على الابتكار في المحتوى أو الابتكار في المؤسسات الثقافية كما خصصته بعض الدراسات المشار إليها في هذا المقال. فالابتكار الثقافي بهذا المنظور يمكن أن يتمثل في إبداع عمل فني جديد، أو تصميم منتج جديد يتميز بالجمال والوظيفية، أو تطوير تقنية جديدة تساعد على تعزيز الثقافة وتحفيز الإبداع والابتكار في المجتمع، كما يدخل الابتكار في إدارة المنظمات الثقافية وآلية إنتاجها وكيفية تمويلها.
العلاقة بين الابتكار الاجتماعي والابتكار الثقافي
يرتكز الابتكار الاجتماعي على كونه مرغوباً اجتماعياً، مجدٍ اقتصاديَّاً، ممكناً تقنيَّاً، وتضيف بعض المنهجيات كونه صانع أثر اجتماعي. الابتكار الثقافي لا يشترط هذه الشروط كاملة، فالثقافة هي ما تصنع الرغبات الاجتماعية، وتقييد الابتكار الثقافي بالرغبة الاجتماعية قلبٌ لآلية تشكيل المجتمعات والثقافات، والتغيرات الحضارية في الأمم غالباً ما تكون نتيجة ابتكارات ثقافية أعادت تكوين مفاهيم ورؤى هذه الجماعة ومن ثم أعادت تشكيل عاداتها وثقافتها.
أما اشتراط الجدوى الاقتصادية في الابتكارات الثقافية فيمكن تقييده بالمؤسسات الثقافية لا الابتكار الثقافي العام، فالثقافة على مر العصور لم تكن المورد المالي الأهم، بل هي معالة أغلب الوقت من الدولة أو من جهات وأفراد يحملون هذا الهم، فبذلك تقنين الابتكار الثقافي بما يثمر عوائد مالية عالية هو خلط في مقاييس التخصصات ونكران لتاريخ الحضارات، أو يمكن وصفه بأنه هرطقة على مبدأ الحضارة، كما يقول أنسي الحاج في (خواتم).
الإمكان التقني أيضاً يجب حصره في المنتجات الثقافية التي تحتاج إلى التحقق الواقعي والتداول والتفاعل، أما مفهوم الابتكار الثقافي فهو أوسع من حصره في المنتجات والخدمات كما سنبيِّن، وعليه فلا يمكن تقييد الابتكار الثقافي بقابلية التنفيذ الملموس.
معايير الابتكار الثقافي يجب أن تأتي من الداخل فحسب، من المجال الثقافي المراد الابتكار فيه. أما دخول معايير السوق في تقييم الابتكار الثقافي تسليعٌ للثقافة.
أهمية الابتكار الثقافي
يعد الابتكار الثقافي أمراً ضرورياً لعدة أسباب، من أهمها:
- التطوير والتحسين: مع الثورة الصناعية وما تلاها من تطورات تقنية ونظرية زادت الأدوات والأساليب والتقنيات التي يمكن استثمارها في المجالات الثقافية لتحسين جودة المنتجات والخدمات والمنظمات الثقافية.
- التميز والتفرد: نعيش في عصر معولم يزيد من حاجتنا إلى الابتكار الثقافي لكي يساعد على تميز المجتمعات والأفراد والمؤسسات في مجالاتهم الثقافية، كما نحتاج إليه في بناء الهوية الثقافية الفريدة لكل مجتمع.
- النمو الاقتصادي: تتنافس الدول والمجتمعات في الجذب السياحي والكسب الاقتصادي، ويمكن للابتكار الثقافي أن يساعد على تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل الجديدة في المجالات الثقافية من خلال تجديد المنتجات والمعارض والأفكار الجاذبة لإنسان اليوم.
- الحفاظ على التراث الثقافي: مع التطور الحداثي المتسارع بات التراث مهدداً بالانقراض لصالح المستقبل، ومهمة الحفاظ عليه مهمة ثقافية بالدرجة الأولى، ومهمة وطنية وعالمية أيضاً، والابتكار الثقافي يمكن أن يساعد على الحفاظ على التراث الثقافي وإعادة اكتشافه وتحديثه وتطويره، كما صنعت بعض الشركات أدوات لتوثيق المناطق التراثية بأدق الصور والتقنيات الحديثة، مما يساعد على إبقاء التراث الثقافي حياً وحيوياً وملائماً للعصر الحديث.
عموماً يمكن القول: إن الابتكار الثقافي بات أمراً ضروريَّاً لتحقيق التطور والتقدم في المجالات الثقافية، ولتلبية احتياجات المجتمعات المتغيرة والمتنوعة في العالم الحديث، كما يعد الابتكار الثقافي عاملاً رئيسياً في تطور المجتمعات وتقدمها الحضاري، وأداة مهمة في تعزيز الهوية الثقافية والتفرد الثقافي للشعوب والمجتمعات.
تصنيف الابتكارات الثقافية
لم يكن للابتكار الثقافي نظرياته الخاصة به، فالتنظير المعتمد في الابتكار الثقافي لم يكن محصوراً في هذا النوع من الابتكارات، وإنما يشمل الابتكارات بشكل عام، وهذا لا يتماشى مع خصوصية المجالات الثقافية، وخاصة التنظير المرتبط بتصنيف الابتكارات.
فمن التصنيفات المشهورة للابتكار والتي تدخل في كثير من القطاعات تصنيف أوسلو، والذي كان في نسخة 2005 يضم أربعة أنواع ثم اختصرت إلى نوعين في النسخة الأخيرة 2018، وهي: ابتكار المنتجات وابتكار العمليات. ويعرف الدليل ابتكار المنتج بأنه: سلعة أو خدمة جديدة أو محسنة تختلف اختلافاً ملموساً عن السلع أو الخدمات السابقة في الشركة والتي قُدِّمت إلى السوق. فنجد أن ابتكار المنتجات يدخل في المنتج كسلعة والمنتج كخدمة. أما ابتكار العمليات فهو: عمليات جديدة أو محسنة لواحدة أو أكثر من وظائف الأعمال التي تختلف اختلافاً جوهرياً عن عمليات الأعمال السابقة للشركة. ويدخل فيها حسب الدليل ست عمليات، هي: إنتاج السلع والخدمات، التوزيع والخدمات اللوجستية، التسويق والمبيعات، أنظمة المعلومات والاتصالات، التنظيم والإدارة، تطوير المنتجات والأعمال. وهذه الأنواع ليست فئات متعارضة، بل توليفات متنوعة يمكن أن تجتمع في ابتكار واحد.
هذا التصنيف قاصر عن حصر الابتكار الثقافي، فالقطاعات الثقافية أوسع من العمليات والمنتجات، ولبيان ذلك نحتاج إلى عرض موجز عن سلسلة القيمة للمنتج الثقافي وطبيعة العمليات والعاملين فيها ليتضح لنا الإضافات الممكنة لأصناف الابتكار الثقافي.
يشير هذا النموذج المقتبس من (Lewandowski,2013) إلى أربعة عناصر أساسية يمكن استخدامها في توليف أنماط الابتكار، وهي:
- العمليات الرئيسية: العملية الإبداعية، نشر الفن، الإدراك الفني، التبادل الفني.
- الجهات الفاعلة الرئيسية: الفنان، عاشق الفن، الزبون، وسيط الفن.
- العمل الفني نفسه.
- مجالات التقييم: مجالان رئيسيان للتقييم هما قيمته الاقتصادية والجمالية.
على أساس هذا النموذج، صُنفت أنواع الابتكارات المحددة مسبقاً وفقاً لمكون معين من نموذج الحالة الاقتصادية والجمالية. وتظهر نظرة فاحصة على الجدول أن هناك الكثير من أوجه التشابه بين أنواع الابتكار المعهودة والتي أشار إليها كثرٌ عموماً، كما تنطبق على الأنواع الرئيسية المحددة في دليل أوسلو والتي تشمل المنتجات والعمليات. إن الفهم المحدث لهذه الأنواع من الابتكارات مفيد لابتكار منتجات ثقافية أو فنية أو حرفية جديدة أو محسنة، سواء كانت سلعاً أو خدمات، وأيضاً تساهم في ابتكارات في العمليات، مثل الابتكار في عملية إنتاج المنتجات والخدمات الثقافية والفنية والحرفية وإعدادها وتقديمها وغير ذلك.
إلا أن الدكتور ماتيوز ليفاندوفسكي في دراسته حول (أنواع الابتكارات في المنظمات الثقافية)، وبعد دراسة ميدانية مع بعض المنظمات الثقافية، توصل إلى أن لديهم من الابتكار ما هو خارج عن الأصناف السابقة، وحاول تأطيرها في أصناف ثلاثة:
أولاً: ابتكار ثقافة: النشاط الفني أضيق من أن يصور مجموعة متنوعة من الإجراءات والأنشطة التي تقوم بها المؤسسات والمجتمعات الثقافية. ومن ثم من الأفضل الحديث عن نشاط ثقافي واسع يشمل النشاط الفني وغيره. تشمل هذه الأنشطة الثقافية على سبيل المثال الفنون الجميلة، وفنون الهواة، وورش العمل، والسياحة الثقافية، والحفاظ على التراث ونشره، والتعليم الثقافي، والمناسبات الاجتماعية، والمحاضرات، والاجتماعات، والحفلات الموسيقية، والحرف اليدوية وما إلى ذلك مما تقدمه مسارح الأوبرا والمكتبات والمراسم الفنية والمراكز الثقافية من مختلف الأنشطة.
يمكن تطبيق الإطار المقترح بناء على الوضع الاقتصادي الجمالي لمجموعة واسعة من الأنشطة الثقافية. كما تتعلق الابتكارات أيضاً بالمعايير والاحتفالات والطقوس والرموز والسلوكيات وأحداث المجتمع والتقاليد وغيرها، فهذه الابتكارات ليست سلعاً ولا خدمات، ولكنها نوع منفصل من الابتكار.
ولهذا حرصت على توسيع تعريف الابتكار الثقافي ليشمل الاستحداث ذا القيمة في مختلف الصناعات الثقافية.
ثانياً: ابتكار تصوُّر: في المجال الجمالي عمليتان رئيسيتان هما جوهر النشاط الثقافي والفني: الإبداع ومشاركة الجمهور. تشمل الابتكارات المتعلقة بإدراك الفن بخاصة، الموضحة في الجدول، بوجه غير كاف أشكال المشاركة الثقافية، ويمكن الإشارة إلى ثلاثة أشكال للمشاركة في الفنون: التدريب العملي (النشط المباشر)، من خلال الحضور (المبني للمجهول)، ومن خلال وسائل الإعلام (غير المباشرة). وبطبيعة الحال تختلف هذه الأشكال الثلاثة من الإدراك باختلاف نوع العمل الفني، كما تؤثر الابتكارات التكنولوجية في الإدراك والمشاركة في الأعمال الفنية والثقافية (على سبيل المثال: تعتمد جودة الصورة أو الصوت على المعدات)، مثل حالة تنفيذ أجهزة المساعد الرقمي الشخصي للمتاحف وأكشاك المعلومات التي تؤثر في الطرائق التي يفحص بها الزائرون ويختبرون المعروضات.
تعتمد الابتكارات في مجال الإدراك الفني على المنتجات المبتكرة الأولية أو الابتكارات التقنية. تعد التغييرات في الإدراك أحد تأثيرات الابتكارات، ومع ذلك يمكن تعيينها معياراً للتمييز بين أنواع الابتكار، أما فيما يتعلق بالفنون، فإن الإدراك عملية أساسية، لذلك يجب أن يحتضن تصنيف الابتكار مثل هذه الابتكارات بوصفها نوعاً منفصلاً مما يثري معرفة الابتكارات في المؤسسات الثقافية.
ثالثاً: ابتكار وظيفة: لا يكفي المنظور الجمالي والاقتصادي لتقييم قيمة السلع والخدمات الثقافية أو الفنية. تصف نظرية الوظائف الثقافية الجوانب المختلفة لهذه القيمة وتشير إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية: 1-تحافظ على التكامل الاجتماعي وتحسنه، 2-تلعب دوراً مهماً في التنشئة، 3-تكوين الهوية، 4-التعليم، 5-السماح بتلبية الاحتياجات الجمالية، 6-توفير الترفيه والسماح بالتمتع بأوقات الفراغ، 7-تعزيز العلاج والتعافي، 8-دعم النمو الاقتصادي. يمكن عدُّ هذه العوائد جميعها جزءاً من القيمة العامة، ومن ثم يجب أن يشمل الابتكار في خلق القيمة كل هذه الأبعاد.
قد يفهم مثل هذا الابتكار على أنه استخدام الثقافة لخلق قيمة في بعد جديد (يظهر من خلال وظيفة الثقافة) أو أساليب جديدة لتسخير هذه القيم من قبل السياسيين، أو التجمعات التي تمول النشاط الثقافي، أو المستثمرين من القطاع الخاص. إن الطرائق الجديدة لقياس القيمة التي أنشئت لمجموعات مختلفة من أصحاب المصلحة ستكون بالأحرى ابتكاراً تنظيميَّاً متعلقاً بالسيطرة.
مواقع الابتكار الثقافي في المنظمات الثقافية
حضرت عدة هاكثونات ومسرعات تستهدف القطاع الثقافي ومنظماته، سواء شركات الإنتاج السينمائي أو دور النشر أو المعارض الفنية وكذلك مكاتب تصميم العمارة، ومع لهفتي لتعلم شيء جديد في هذه المجالات وكيفية تطويرها والابتكار فيها كنت أجد ميسّري الورش الخاصة بالابتكار في نموذج العمل التجاري بعيدين كل البعد عن المجال الثقافي، ومن ثم لا يتطرقون لأي أمثلة متعلقة بهذه المجالات ولا يدركون أي خصوصية عنها، بل تأتي الأمثلة والنماذج شديدة العمومية بعيدة الفائدة.
تتجه الثقافة اليوم نحو المأسسة أكثر مما كانت عليه على مر التاريخ، وكل يوم يجري تضييق الخناق على الأفراد في الفعل والتأثير الثقافي وفق ما تسعى إليه الدول والأنظمة من حوكمة عالية للأموال والتشريعات والتنظيمات، خاصة تلك المتصلة بالتأثير على الجماهير، ومن ثم فالمؤسسات الثقافية اليوم هي اللاعب الأكبر في المشهد، وهي المنتظر منها الابتكار الثقافي على نطاق أوسع.
وعندما يجري الحديث عن أشكال الابتكار في المنظمات الثقافية فغالباً ما تقصر على عدة أشكال، تتمثل في تطوير المنتجات والخدمات الجديدة، وتطوير العمليات والإجراءات، والتجديد في الإدارة والقيادة، وتبني تقنيات وأدوات جديدة، والتعاون والشراكات، وتطوير الموارد البشرية. إلا أن إيان مايلز ولورنس جرين في دراستهما الموسعة عن "الابتكار الخفي في الصناعات الإبداعية"، قدما إطار عمل مفاهيمي يوضح مواقع الابتكارات في المنظمات الثقافية، تستحق التأمل، وهي:
- الإدارة العامة والإدارة المالية: تشترك الابتكارات في هذه المنطقة بالمجالات الأخرى مع تفاوت حجم الشركة ونطاقها، ويمثَّل لها في أتمتة المكاتب وأنظمة الرقابة المالية وغيرها من تقنيات الإدارة المبتكرة كالإدارة الرشيقة.
- نموذج العمل التجاري: وقد يدخل الابتكار في مختلف خانات نموذج العمل التجاري، وإن غلب التركيز فيه على الابتكار في التمويل واشتقاق الأرباح، كما حصل مع تغيير المستهدف بتحصيل العوائد منه فأصبح المعلِن بدل القارئ في المنصات الثقافية.
- موقع سلسلة القيمة: ما هي عناصر المنتج الإبداعي التي يجري إنتاجها ومعالجتها بواسطة الشركة؟ وما الدور المناط بالشركة، هل هو القيادة أم دور آخر في السلسلة؟ قد يتعلق الابتكار هنا في "الارتقاء في سلسلة القيمة" أو تحمل المسؤولية عن عناصر إنتاج أقل.
- التواصل الخارجي: مع الموردين، والمتعاونين، وشركاء سلسلة التوريد، وغيرهم، يتقاطع هذا مع الابتكار في سلسلة القيمة، ولكن الأدوات والتقنيات المتعلقة بالتعامل مع الشركاء وكيفية إدارة هذه العلاقة يمكن أن تكون مواقع للابتكار من مختلف الأنواع.
- التواصل الداخلي: إدارة الموارد البشرية وتنظيم العمل ويدخل فيها الابتكار في إدارة المعرفة وطرائق الحفاظ على الموظفين وأنظمة التدريب الحديثة.
- المكتب الخلفي: لإنتاج العمليات وإدارتها وتصميمها خلف الكواليس وتشمل العمليات كافة المتعلقة بتصميم المنتج وكتابته والتدريب عليه ونمذجته، وهذه بطبيعة الحال تختلف باختلاف نوع الصناعة. يمكن أن تعتمد الأنشطة على المحترفين أو على الهواة، أو ربما على التكنولوجيا، والتي باتت تنافس تنافساً كبيراً (CHATGPT). وقد تعرض هذه العمليات بصفتها جزءاً من تجربة المستفيد، كما يمكن أن يشمل الابتكار تطبيق تقنيات أو إجراءات جديدة لمثل هذه التحضيرات.
- التحويلات: يمكن للابتكار أن يدخل في عمليات الدفع مقابل الوصول للمنتج: التجارة الإلكترونية، أنظمة الحجوزات، وبطاقات الولاء، وأنواع التذاكر والعضويات الموسمية. كل هذه تشترك مع المنطقة الثامنة.
- التسويق وإدارة علاقات العملاء: الابتكار في التسويق ليس محصوراً في الصناعات الإبداعية، ويمكن الاستفادة من أمثلته في المجالات الأخرى كنوادي المعجبين وغيرها، مع مراعاة عدم تسليع الثقافة.
- محتوى الإنتاج: هذه المنطقة هي الموطن الأساسي للابتكار الثقافي، والتي يظن كثير من المشتغلين في هذه المجالات أن الاقتصار على الابتكار فيها كافٍ لخلق اقتصاد إبداعي، ولا حاجة للتأكيد على خطأ هذا التصور. المحتوى هو المادة الأساسية التي تقصد ويستفاد منها: النص والصورة والمواد الرمزية الأخرى، والتي تتراوح الابتكارات فيها بإنشاء أنواع جديدة تماماً من هذه الأنواع أو إعادة صياغة محتوى مألوف في سياقات جديدة.
- عمليات الأداء والإنتاج: الرحلة لإصدار المحتوى، والعملية التي ينشأ من خلالها المنتج الإبداعي، والمتمثلة غالباً في الكتابة والتمثيل وأداء الفنانين والمصورين وغير ذلك من عمليات الإنتاج، ويدخل الابتكار فيها بإيجاد أدوات إنتاج جديدة أو الاستفادة من التقنية الداعمة وتنظيم العمل الإبداعي.
- شكل المنتج الثقافي: يحتوي المنتج الإبداعي على تنسيق وشخصية معينة اعتماداً على نوع الأدوات المستخدمة في تشكيله ومزاياها، ويمكن أن تتضمن الابتكارات أنواعاً جديدة من المنتجات ومزايا محسنة للمنتجات الحالية.
- إيصال المنتج: كيف لمعلومات المحتوى أو للوسيط المادي لهذا المحتوى أن يصل إلى المستفيد أو المستهلك، وكيف تتكون أماكن الأداء والعرض. يتعلق الكثير من ابتكارات الخدمة بالتسليم، مع أهمية تقديم المعلومات إلكترونياً، والدعم التكنولوجي للأداء التقليدي، وإنشاء أماكن جديدة، وإعادة تخصيص الأماكن الموجودة أو إعادة هيكلتها لتوفر أبعاداً جديدة لتجربة المستفيد.
- واجهة المستخدم: كيف يتفاعل المستخدم مع المنتج ونقاط وصوله إلى المحتوى والخدمات. ويشمل التفاعل الواقعي والإلكتروني، فالواقعي مثل المرافق والمباني الإبداعية كدور السينما والمسارح وصالات العرض ومعارض الكتب، ويمكن للابتكار أن يتمثل في قرارات حول هذه المنشآت وكيفية إنشائها واستخدامها، وكيفية تقديمها للتجارب. أما الوسائط المادية كأجهزة التلفزيون والهواتف أو الوسائط المطبوعة فقد يشعر المستخدم معه بنوع من التقييد، وهنا يأتي دور ابتكار المنطقة القادمة.
- تفاعلات المستخدم ويشمل: (العرض، وإعداد المحتوى) ابتكار التفاعل يكسر قيود استخدام المنتج الثقافي، ويتيح للمستفيد عكس مدخلاته فيه، بل وصناعة تجربة من خلال التفاعلات بين المستفيدين. حيث يعد الإنتاج المشترك سمة مهمة للكثير من الخدمات الإبداعية.
- قدرات المستخدم والوسائط (مثال: الإلكترونيات الاستهلاكية): المنطقة في دائرة "تجربة المستخدم" هي أيضاً موطن للابتكار، مثل الهواتف المحمولة التي تعرض البث التلفزيوني المباشر، وربما في تطوير مهارات المستفيد وأذواقه المطلوبة لتأمين الاستفادة الكاملة من المنتجات الإبداعية. وهذه المنطقة قد تكون أبعد من العمليات التجارية للشركة الإبداعية، فهي مما يقوم به المستخدمون بأنفسهم، ومع ذلك يمكن أن يشمل ذلك موردي التقنيات الاستهلاكية بدلاً من الجهات الإبداعية.
وأخيراً هذا المقال محاولة لتأطير الابتكار الثقافي لا يزعم الكمال، بل هو فتح لباب المناقشة والدرس لكي نخرج بأطروحات خاصة بالمجال الثقافي. كما آمل أن يكون المقال خطوة في طريق الوعي بأشكال الابتكارات الثقافية وأنماطها لكي نتمكن أولاً من الابتكار بمختلف هذه الأنواع والأصناف، وثانياً لكي تُعدَّ مثل هذه الابتكارات في الإحصائيات والمسوحات المتعلقة بالابتكار، خاصة في المملكة العربية السعودية التي بدأت من قريب خطواتها نحو مأسسة الابتكار وتأسيس هيئة خاصة به، فاستحضار مثل هذه الفروقات الدقيقة بين المجالات والقطاعات مهم في تصميم المقياس الوطني للابتكار، حتى لا نكرر خطأ الدول التي همَّشت الأنواع الدقيقة من الابتكارات الثقافية وحرمتها من الاعتبار.