مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 11
الابتكار عند مفترق الطرق
توافد حشدٌ من أعضاء هيئة التدريس والطلبة إلى المبنى ذي الطراز النيوكلاسيكي المزخرف بالجص، وامتلأت بهم مع عدد من الزوار المرموقين مقاعد القاعة المركزية في مقر المجلس الأعلى لجامعة كامبريدج، اجتمعوا كلهم لحضور إحدى مناسبات الاحتفالات العامة في كامبريدج، وهي محاضرة "ريد" السنوية التي سيلقيها هذه السنة شخص لُقِّب بالكثير من الألقاب ورفضها مكتفياً باسمه الصريح.
في السابع من مايو ١٩٥٩م وبعد الخامسة عصراً بدقائق، اقترب شخص ضخم يمشي متثاقلاً إلى منصة المحاضرات، جلس عالم الفيزياء والأديب الإنجليزي سي بي سنو ليلقي محاضرته "الثقافتان"، لتصدر بعد ذلك في كتاب ظل لسنوات عدة مثار بحث ونقاش، وما زال حتى اليوم يشار إليه في نقاش الكثير من الموضوعات التي تطرق إليها.
ناقش سنو في المحاضرة الثقافةَ العلمية وتعريفها، وبيَّن دورها المهم في الثورة العلمية والصناعية، والأهم ما قصده من عنوان المحاضرة من أن المثقفين أصبحوا ينتمون إلى فئتين متباعدتين، الأولى أصحاب الثقافة العلمية ممن يشتغلون بالعلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها من العلوم التطبيقية، والفئة الثانية فئة أصحاب الثقافة التقليدية أو الإنسانية التي يعمل أفرادها في مجالات الآداب والفنون والإنسانيات عموماً، وقال سنو: "إن الفئتين منفصلتان تقريباً بلا تواصل، ولا يعرف أفراد كل فئة عن نشاط الفئة الأخرى إلا أقل القليل. قلما يقرأ أفراد الثقافة العلمية الأدب أو التاريخ، وأفراد الثقافة التقليدية أو الأدبية لا يعرفون أبسط القوانين العلمية".
زاد هذا التنافر حدَّة مع تفرع التخصصات وتوسع كل تخصص بمناهجه الخاصة وحدوده المعرفية، وصار أهل كل تخصص يعادون أصحاب التخصصات الأخرى ولا يقبلون الكلام في تخصصهم من أحد سواهم، وكأنهم يدافعون عن أراضيهم الخاصة، وقوبلت محاولات الجمع بين التخصصات أو التقريب بينها بكثير من العدائية، حتى لو جاءت من أشخاص لهم وزنهم واعتبارهم، كما حصل مع عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران الذي يحكي في سيرته الذاتية (دروس قرن من الحياة) عن التلقي السلبي الذي واجهه عند إخراجه أول كتاب من سلسلة (المنهج)، والتي حاول فيها تأصيل النظر للعلوم الاجتماعية والظواهر الإنسانية بأدوات مجتمعة من التخصصات المختلفة، حينها وجد نفسه "في أكثر الأحيان عرضةً لسوء التقدير من قِبل بعض ملَّاك عقارات المعرفة، وشنعوا بي بوصفي غير كفء أو مُبسِّط معارف، والحال أنني كنت أعيدُ تفسير المعارف المتفرقة وربطها، وأصوغ المنهج بمعالجة التعقيدات".
هاجم سنو بشدة هذا الانفصال مبيِّناً ما فيه من ضرر للمجتمع، ذلك أن الثقافتين من ضروريات تقدم الأمم والمجتمعات محليَّاً وعالميَّاً، وأكَّد على أن استمرار هذا الانفصال يمثل عائقاً كبيراً في وجه تقدم المجتمعات ورفاهية الإنسان.
بعد ستين عاماً من محاضرة سنو تلك، جاء تقرير (مؤهل للمستقبل) الصادر من الأكاديمية البريطانية في مايو 2020م، ليؤكد على أن خريجي التخصصات الإنسانية والاجتماعية يمتلكون مهارات قيمة لأصحاب العمل، قد تفوق ما يمتلكه خريجو التخصصات العلمية، مثل مهارات التواصل والتعاون والبحث والتحليل والاستقلالية والإبداع والقدرة على التكيف، وأنهم يتمتعون بفرص توظيف عالية عبر مجموعة من القطاعات والأدوار، كما أنهم قادرون على بناء وظائف مرنة قد تنتقل عبر عدد من مجالات التوظيف مع الحفاظ على المرونة في مواجهة الانكماش الاقتصادي.
واستناداً للتقرير السابق جاء في 2021م تقرير عن معهد (HEPI)، مشيراً إلى الدور المهم الذي تقوم به العلوم الإنسانية والاجتماعية في تزويد الأفراد بالمهارات والمعارف التي يمكن أن تحدث تقدماً في مختلف القطاعات والصناعات، وليس في الإسهام في حل المشكلات المعنية بالإنسانيات فحسب. إذ تمنح الموضوعات الإنسانية الطلاب القدرة على العمل بطرائق معقدة مع اللغة والنصوص والمعلومات المكتوبة التي لا تقدر بثمن لغالبية المهن في الاقتصادات القائمة على المعلومات.
يقول ستيف جوبز: "إن التزاوج بين التكنولوجيا والفنون الحرة والإنسانيات هو ما جعل قلب آبل يغني"، فهو يرى أن التكنولوجيا لا تحيا من خلال الحاسب وحده، بل من خلال الاتصال بالعلوم والفنون الإنسانية. ويقول رئيس إحدى الشركات التكنولوجية: "إن من يريد الذهاب بعيداً في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات سيحتاج إلى التركيز على الشهادات الخاصة بالأعمال التجارية بلا شك، وسيحتاج في الوقت نفسه إلى أساس متين في العلوم الإنسانية يسمح له بفهم اللغة والتواصل والفلسفة من أجل القيام بالابتكارات الأخرى".
كما أثبتت الأبحاث الحديثة التي قامت بها شركة نيستا وجود علاقة قوية بين الطلب المهني المستقبلي والمهارات المعرفية العليا التي تُطور في برامج الآداب والعلوم الإنسانية، مثل الأصالة وطلاقة الأفكار والتعلم النشط والعقليات الخيالية، وغيرها.
مؤسف أن يتم اختزال الابتكار في العلوم الطبيعية والتقنية، وأن تهمَّش قيمة العلوم الإنسانية في بناء العقلية الابتكارية لصالح الرياضيات والفيزياء وغيرها من مواد (STEM) التي يُحصر بناء الموهوبين في مدارسنا عليها. إن مستقبل التوظيف والمهارات والنمو غير مؤكد، حيث لا يقتصر الطلب على التكنولوجيا والأتمتة فحسب، ولكن أيضاً من خلال الطريقة التي نعيش بها في بيئتنا المحلية والعالمية وعدم اليقين السياسي والتغيير الديموغرافي، كما يؤكد ذلك تقرير (واقع العلوم الإنسانية اليوم). نحن بحاجة إلى تخطيط نظام تعليمي مهاري من شأنه أن يبني المجتمع الذي نريد العيش فيه، بحيث يكون الأفراد قادرين على مواجهة التحديات التي نواجهها وتشكيل المستقبل، ولا شك أن الفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية ستكون حيوية في القيام بذلك، لأنها توفر لنا الأدوات لفحص السلوك البشري وشرحه، وفهم كيفية عمل المجتمع، والتعلم من الماضي وتطبيق هذه الدروس على الحاضر، وتحليل الدوافع والآثار، في عالم متغير تتفاعل وتتداخل في البلدان والأماكن والثقافات المختلفة.
ما أدعو إليه في مقالي هذا هو ما أشار إليه سنو، وأكَّد عليه غيره، من أن أفضل فرص الإبداع والفكر تتمثل في نقطة الاصطدام بين موضوعين، أو بين فرعين من المعرفة، أو بين ثقافتين، حتى بلغ الأمر مع سنو إلى عدِّ الاصطدام بين مجرتين فرصة ابتكار.
نقطة الاصطدام هذه ينبغي أن ينتج عنها إتاحة فرص إبداعية، وهذه النقط في تاريخ النشاط العقلي هي النقط التي تأتي منها النجاحات المخترقة. وكما يقول -مع بالغ الأسف-: "إن هذه الفرص موجودة الآن، وفي كل وقت، ولكنها هناك في فراغ، لأن الأفراد من كلا الثقافتين لا يتحدثون لبعضهم بعضاً".
الابتكار يبدأ عند تجاوز التخصص الواحد، والقطاع الواحد، والمجال الواحد، التساؤل الأفقي أرض اكتشاف الفرص، الفضول المولد للاحتمالات الخصبة للأفكار الإبداعية.