مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 11
ابتكار الفعاليات الثقافية
نعيش طفرة ثقافية حقيقية في المملكة العربية السعودية منذ تأسيس وزارة الثقافة ولله الحمد، حراك متزايد من الهيئات الحكومية والشركات الخاصة ومن الجهات غير الربحية، ومبادرات نوعية وفعاليات ثقافية متعددة، وهذا الحراك يتطلب منَّا الوعي به وشحذ الهمم للابتكار من أجله، والتجديد في الأدوات والوسائل لجعل الثقافة نمط حياة.
الفعاليات الثقافية هي الأنشطة المتمحورة حول الثقافة بمفهومها الضيق المتعلق بالآداب والمعارف، فهذا المعنى هو المقصود الأساسي من حديثي هنا، وإن كانت الأدوات قابلة للتفعيل مع مفهوم الثقافة الواسع الشامل لكل مكونات الهوية والحياة.
بعد تجربة لا بأس بها في تأسيس المبادرات الثقافية وإدارة البرامج الثقافية في معارض الكتب لمست الحاجة لابتكار الفعاليات الثقافية بعدما عمَّت فيها الرتابة والتقليد في الأشكال والعناوين والأسماء، وفي هذه المادة التي قدمتها في ورشة عمل لمجموعة من الفاعلين في المجال الثقافي حاولت تأطير عملية ابتكار الفعاليات الثقافية وتصميم مصفوفة مساعدة فيه، على أمل المساهمة في إحداث أثر حقيقي ورؤية فعاليات ثقافية أكثر جاذبية وتأثيراً على المستفيد.
لماذا الفعاليات الثقافية؟
تعد الفعاليات الثقافية من الأدوات الرئيسية التي تساهم في تعزيز الوعي الثقافي وتنمية المهارات الفنية والإبداعية للأفراد. وتعد الفعاليات الثقافية أيضاً فرصة لتواصل الثقافات المختلفة وتعزيز التفاهم والتعايش السلمي بين الشعوب. كما أنها تساهم في:
تعزيز الهوية الثقافية: تساعد الفعاليات الثقافية في تعزيز الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات، وتحفيزهم على الاهتمام بثقافتهم والحفاظ عليها، وما تعاني منه المجتمعات من عولمة وإلغاء للخصوصيات الثقافية محتاج إلى وقفات جادة لمواجهته والتعاطي معه.
نشر الوعي الثقافي: تساعد الفعاليات الثقافية في نشر الوعي الثقافي والتعريف بالتراث الثقافي والفني للمجتمع، وتحفيز الأفراد على الاهتمام به والحفاظ عليه، فبناء الذوق العام وتعزيز العلاقة مع الكتب والثقافة لا يتكون فطرياً.
تنمية المهارات الفنية والإبداعية: تساعد الفعاليات الثقافية في تنمية المهارات الفنية والإبداعية للأفراد، وتشجعهم على التعلم والتطوير والابتكار، فالإنتاج الأدبي والثقافي محتاج إلى تحفيز وتدريب وتمكين تساهم فيه الفعاليات الثقافية.
التفاعل الثقافي: تساهم الفعاليات الثقافية في تعزيز التفاعل الثقافي بين الأفراد والمجتمعات المختلفة، وتعزيز التفاهم والتعايش السلمي بينهم، وما نعيشه من انفتاح على الآخر واستقبال لأطياف مختلفة من بلدان مختلفة يتطلب التمكين والتوعية في أدوات التعامل مع هذا الانفتاح والاستفادة منه.
السياحة الثقافية: تعد الفعاليات الثقافية وجهة سياحية مهمة للسياح الذين يهتمون بالتراث الثقافي والفني للمجتمعات المختلفة، مما يساهم في دعم الاقتصاد المحلي وزيادة الوعي الثقافي للمجتمع.
لماذا الابتكار؟
هناك الكثير من الأسباب التي تدفعنا وتزيد من حاجتنا لابتكار الفعاليات الثقافية، أذكر منها:
زيادة الملهيات: فإنسان اليوم بات متخماً بالكثير من المشروعات والخطط والانشغالات، ومستهدفاً من كثير من الوسائل الاجتماعية والتلفزيونية والحياتية.
ضعف الإقبال على الفعاليات: الملاحظ للمشهد الثقافي يعرف نخبوية الحضور وقلتهم، وقد يرضى بعضهم بهذا ويتكاسل عن الاستكثار من الجماهير، إلا أن صاحب الرسالة يجب أن يكون مهموماً بإيصال رسالته لأكبر عدد ممكن.
زيادة المنافسين: مع أنواع الدعم المختلفة التي تقدمها الجهات الحكومية زادت الجهات المقدمة للأنشطة الثقافية، فعلى سبيل المثال: الفعاليات التي تقام تحت مظلة "الشريك الأدبي" من هيئة الأدب والنشر والترجمة تتجاوز المئتي الفعالية شهرياً.
تغيير النتائج المرجوة: لم يعد إنسان اليوم تجذبه الأشياء التقليدية والفعاليات الاعتيادية، وأصبح يبحث عن التجربة المتكاملة والفعالية المشبعة لمختلف حواسه، فهل يمكننا فعل ذلك؟
هذه الأسباب وغيرها تقودنا إلى سؤال: كيف يمكننا ابتكار فعاليات ثقافية جاذبة ومنافسة؟
كيف نحفز الابتكار؟
الابتكار قد يأتي نتيجة صدفة، فالصدف غيَّرت التاريخ كما يقول المؤرخ إريك دورتشميد في كتابه (دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ)، إلا أن الاعتماد على الصدف أو الإلهام يقلل الفائدة من الابتكار، ويجعله رهين الأوقات المتباعدة ويلغي فائدته المرجوة في استثماره في الجذب والمنافسة. وعليه فالأولى هو العمل على محفزات الابتكار وتفعيلها باستمرار، وخلق بيئة للابتكار حتى تستمطر الأفكار استمطاراً صناعيَّاً متى ما أردت.
اعرف: الابتكار كما يعرفه جاك فوستر في كتابه (كيف تحصل على الأفكار؟): هو مزج جديد لعناصر قديمة، وبذلك فهو مشروط بامتلاك عناصر قديمة كثيرة، وكثيرة جداً، ومتنوعة أيضاً، ليتسنى لك بعد ذلك المزج فيما بينها بارتباطات جديدة وتخرج بنتائج جديدة. يقول الكاتب الأمريكي راي برادبيري: "منذ تعلمت القراءة في سن 12 سنة وأنا أقرأ كل يوم قصة قصيرة ومقالة وقصيدة، ويقول: لا أعلم متى يتضارب شيء قديم مع شيء قرأته بالأمس لينتج قصة جديدة".
تخيَّل: كطفل فإذا استطعت أن تعيد زيارة عجائب الطفولة يمكنك تذوق العبقرية. الخيال موقد نار الابتكار. العمل الثقافي كثيراً ما يعقلن الحياة أكثر من اللازم، فإذا لم تستعد طاقة الخيال وتنشطها كلما استطعت فقد لا تخرج بالأفكار المبتكرة.
ركِّز: على أهدافك وستمطر الأفكار لوحدها. من أهم ما يفعِّل الدماغ هو التركيز على أهداف محددة، فسيظل يعمل طوال الوقت ولو لم تأمره بذلك. احتفظ ببعض الأسئلة في ذهنك لتشغله بالتفكير بها، التركيز على هدف ابتكار فعاليات ثقافية سينشط الدماغ لاستثمار كل ما ترى العين وتسمع الأذن.
استمتع: فالأشخاص الجديون لديهم أفكار قليلة، كما يقول بول فاليري. الجدية والتشنج لا يأتيان بخير. الأفكار ابنة اللعب، والابتكار صديق للمرح. وجود الاستمتاع في حياتك مهم لاستمطار الأفكار، ولك في الروائي الياباني هاروكي موراكامي عبرة، فقد جاءته فكرة الرواية الأولى وهو على مدرج ملعب، ليتحول من رائد أعمال صغير يمتلك مقهى في اليابان إلى الروائي الياباني الأشهر على مستوى العالم.
تقبَّل: الأفكار مثل التنقيب عن الذهب، ليس كل ما يخرج لك من الأرض هو ذهب، ولكنه ضروري من أجله. المشكلات ليست أسئلة اختيارية في امتحان، لا تحمل إلا اختياراً واحداً، وكل مشكلة ليس لها حل واحد، بل حلول عدة. امتلاك هذه الذهنية يسهل على الأفكار أن تخرج دون خوف القتل أو الإعدام قبل الإنضاج. الخوف من التفكير بالأفكار السخيفة يمنع الأفكار العظيمة من الظهور. كيف نفعل الابتكار؟
بعد تفعيل المحفزات في حياتنا اليومية وجعلها أسلوب حياة، نحتاج إلى أدوات للابتكار، وتأتي هذه الأدوات لتطبيقها بأسلوب لحظي، والتفكير بها حال الرغبة بالخروج بالأفكار أو في ورش العمل، وهي أدوات مقترحة وليست حاصرة، بل هي من تجربتي الشخصية:
المقارنة: بين المجالات والحقول يطرح سؤال: ما الذي يمكن نقله إلى المجال الثقافي من هذه المجالات؟ سواء كان نقلاً تاماً أو جزئياً، خاماً أو بعد مواءمة. ومن ذلك فعاليات مثل "معسكر القراءة" و"معتكف الكتابة" و"ماراثون القراءة"، فكلها جاءت من نطاقات خارج المجال الثقافي.
الإحاطة: النظر إلى المجال بنظرة شمولية محيطة بأبعاده وتفاصيله كافة يفتح باب الأفكار على مصراعيه. فتأمل رحلة الكتاب مثلاً من الفكرة للتأليف للطباعة للنشر يوفر أفكاراً لفعاليات ثقافية خاصة بكل مرحلة، وفعاليات تغطي أكثر من مرحلة. وكذلك التفكير بالمهن المتصلة بهذه الرحلة وما يمكن الخروج به منها.
القلب: عكس مجريات المواقف يفتح باب الإبداع، وسؤال: لماذا تسير الأمور بهذه الطريقة؟ يفتح شباك الأفكار. فإذا كان الإنسان هو من يقرأ الكتب طوال الوقت، هل يمكن أن تقرأ الكتبُ الإنسان؟
الدمج: نتذكر تعريف فوستر للابتكار بأنه مزج جديد لعناصر قديمة، ونفكر في الأشياء القابلة للدمج للخروج بفعاليات مبتكرة، فكما هو شائع الآن من دمج الأمسيات الشعرية بالموسيقى، يمكن دمج الرسم مع الكتابة، أو القراءة مع المسرح.
الحذف: مثلما الإضافة والدمج أدوات ابتكار كذلك الإلغاء والمسح. حذف عنصر رئيس من المشهد قد يحفز على الابتكار، كيف يكون شكل معرض كتاب لو حذفنا الكتب؟ أو هل ستبقى المكتبة مكتبة لو ألغينا الكتب؟ كما فعلت إحدى المكتبات بتوفير "الرجل الكتاب" الذي يقص عليك ما تريد من القصص بدل أن تقرأها بنفسك.
الربط: البحث في الموضوعات المختلفة عما يمكن الخروج به من الربط بينهما. ما العلاقة بين القانون والأدب؟ على سبيل المثال: سيولد لدينا الكثير من الفعاليات عن محكمات الأدب والكتب المتعلقة بالمحاكم، والمحامين الأدباء، وغير ذلك.
كيف نوجِّه الابتكار؟
بعد تطبيق الأدوات يمكن الاستفادة من موجهات الابتكار لتوجيه التفكير ناحية تفاصيل خاصة قد تكون مهملة، ومنها:
التفكير بالمحتوى: عندما يكون الهدف لديك هو المحتوى بغض النظر عن طريقة إخراجه ستفكر في الموضوعات القابلة لتحويلها إلى فعاليات، ومن ذلك "الكتب الممنوعة" كمحتوى يفتح أفق التفكير للكثير من الفعاليات الثقافية كالمعارض والمسرحيات والمناظرات والكتابة وغيرها.
التفكير بالتاريخ: استحضار التواريخ مدعاة لاستنطاق الأفكار، سواء كانت التواريخ الثقافية أو العامة، فالأيام العالمية مدخل جيد لتوليد الأفكار للفعاليات، ومنتصف كل شهر مثلاً فرصة للتفكير بالقمر في الحضارات وكيفية إخراج ذلك كفعاليات مبتكرة.
التفكير بالشكل: انحصار التفكير بالأشكال التقليدية للفعاليات الثقافية، كالمحاضرات والأمسيات، يحول كل موضوع مهما كان مبتكراً إلى مادة خاملة لا روح فيها ولا جاذبية، ويلغي كل جهد ابتكار المحتوى ويحوله إلى رتابة قاتمة. أشكال الفعاليات كثيرة وكل موضوع يحتاج إلى تأمل الشكل الأنسب لعرضه، هل هو على شكل حوارات مفتوحة، أو معرض فني خاص به، أو محتوى تفاعلي مع الزوار، أو هل يحتمل أن يكون دورة تدريبية أو مناظرة أدبية، أو مسرحية تمثيلية، أو غير ذلك من الأشكال.
التفكير بالمستفيد: يجب أن لا نقولب الأشياء لتكون جاهزة لكل الفئات، فما يناسب البالغ لا يجذب الطفل، وما يناسب المعافى لا يليق باستقطاب ذوي الاحتياجات الخاصة، فالتفكير بالفئة المستهدفة يعيد تشكيل تفكيرنا من جديد.
مصفوفة ابتكار الفعاليات
حاولت اقتراح هذه الموجهات على شكل مصفوفة تيسر من ابتكار الفعاليات الثقافية تسهيلاً على رواد المبادرات الثقافية ومديري المشروعات في الجهات الثقافية، ويمكن الاستفادة منها بتغيير المدخلات للخروج بمخرجات جديدة بأسهل ما يكون. وبما أننا نعيش في عام الشعر العربي 2023 في المملكة العربية السعودية حاولت تطبيق الموضوع على المصفوفة لنرى كيف يمكن ابتكار الفعاليات لهذا الموضوع الذي سنرى آلاف الفعاليات حوله هذه السنة.