الابتكار الاجتماعي
لماذا يتجه خبراء الاقتصاد إلى الثقافة لتوضيح مفاهيم الثروة والفقر

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 11

لماذا يتجه خبراء الاقتصاد إلى الثقافة لتوضيح مفاهيم الثروة والفقر

كان ظهور علم الاقتصاد في القرن الثامن عشر نتيجة محاولة الناس شرح سابقةٍ لم تحدث من قبل، ففي ذلك الوقت أصبحت حفنة من البلدان غنية بصورة مذهلة، بينما ظلت بلدان أخرى فقيرة معدمة. وفي عام 1500 كانت أغنى دولة في العالم من حيث الثروة أحسن حالاً بمرتين مما كانت عليه أفقر دولة، وبحلول عام 1750 أصبحت هذه النسبة خمسة إلى واحد. وليس من قبيل المصادفة إذن أنَّ الكتاب الأكثر شهرة في الاقتصاد، والذي نُشر عام 1776، استفسر عن "طبيعة وأسباب ثروة الأمم".

ومن أجل تفسير هذا التباين بين البلدان الغنية والفقيرة، كان خبراء الاقتصاد الأوائل مهووسين بالثقافة، التي تُعد مصطلحاً شاملاً يضم معتقدات المجتمع وتفضيلاته وقيمه. واستكشف آدم سميث (Adam Smith)، مؤلف كتاب "ثروة الأمم"، الطرائق التي تقوم بها الثقافة إما بمساعدة الرأسمالية أو عرقلتها. وجادل بأنَّ بعض المعايير كانت مطلوبة من أجل ازدهار اقتصادات السوق، والأهم من ذلك أنَّ الناس سيكونون مهتمين بمصلحتهم الشخصية، وأنهم سوف يرضون أغراضهم الذاتية من خلال التكيف مع احتياجات الآخرين. وكان كارل ماركس (Karl Marx) بعد عقودٍ قليلة قلقاً من أنَّ ثقافة "الاستبداد" حالت دون ظهور الرأسمالية في آسيا.

وغالباً ما كانت افتراضات سميث وماركس وآخرين غامضة، إلا أنَّ كتاب ماكس ويبر بعنوان (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)، الذي نُشر عام 1905، جعلها جليَّة واضحة. وجادل ويبر بأنَّ البروتستانت، ولا سيما الكالفينيون، قادوا ظهور الرأسمالية بفضل أخلاقيات العمل القوية.

وفي منتصف القرن العشرين بدأت تنفد حظوظ مثل هذه التفسيرات الثقافية، وأدى التصاعد السريع لاقتصاد اليابان في الخمسينيات، ثم (النمور) الآسيوية في وقتٍ لاحق، إلى القضاء على المفهوم الماركسي-الفيبري القائل: إنَّ الثقافة الغربية وحدها كانت مواتية للتحول الصناعي. وفي الوقت نفسه أدى التوافر المتزايد للبيانات التي يمكن إجراء التحليل الإحصائي بها إلى توجيه اهتمام الاقتصاديين إلى مكانٍ آخر. فلماذا تتعب نفسك بالأمور التي يصعب قياسها مثل الأخلاق، عندما يكون من الممكن توصيل البيانات الإحصائية مثل تراكم رأس المال أو الأجور أو التوظيف في نموذج الانحدار؟ في عام 1970 قال روبرت سولو، الحائز على جائزة نوبل، متهكماً: "إنَّ محاولات تفسير النمو الاقتصادي بالاستناد إلى الثقافة انتهى بها الأمر "في شعلة من علم الاجتماع للهواة".

لكن الاهتمام بالثقافة ظل قائماً، وهو في الواقع يعود إلى الظهور مجدداً الآن. منذ الثمانينيات سهلت مجموعات البيانات مثل (مسح القيم العالمية) و(المسح الاجتماعي العام) القياس الكمي للتفضيلات الثقافية وربطها بالنتائج الاقتصادية. وتدرج المجلات الاقتصادية الكبرى الآن بانتظام أبحاثاً حول أهمية الثقافة، حتى إنَّ الكثير من المتشددين باتوا يدركون حدود التفكير الاقتصادي البحت.

ربما كان النص الأكثر تأثيراً في إحياء الاقتصاد الثقافي هو (إعمال الديمقراطية)، وهو كتاب لروبرت بوتنام (Robert Putnam) منذ عام 1993. إذ حاول بوتنام أن يفهم سبب كون شمال إيطاليا أغنى من الجنوب لعقودٍ عديدة، مقدماً التفسير تحت مصطلح "رأس المال الاجتماعي" الشامل. وجادل السيد بوتنام بأنَّ الناس في الجنوب كانوا موالين بشدة لأسرهم، وأكثر تشككاً في الغرباء، في حين كان الناس في الشمال يشعرون براحةٍ أكبر إزاء تكوين علاقاتٍ مع الغرباء. وفي الشمال قرأ الناس المزيد من الصحف، وكانوا أكثر عرضة للمشاركة في الجمعيات الرياضية والثقافية وصوتوا أكثر في الاستفتاءات. وبحسب النظرية ساهم هذا في تحسين الحكومة المحلية وتوفير المعاملات الاقتصادية الأكثر كفاءة، والتي أنتجت بدورها ثروةً أكبر، على الرغم من أنَّ السيد بوتنام لم يكن واضحاً بشأن الآلية الدقيقة التي يؤدي بها أحد الأشياء إلى الآخر.

ومنذ ذلك الحين وسعت مجموعة من الباحثين، معظمها تحت سيطرة الإيطاليين الذين ألهمهم عمل بوتنام، أفكارها بحثاً عن تفسيراتٍ ثقافية لسبب ثراء بعض المناطق وفقر بعضها الآخر. ووجدت ورقة بحثية من عام 2004 كتبها لويجي جويسو وباولا سابينزا ولويجي زينغاليس (Luigi Guiso, Paola Sapienza and Luigi Zingales)، والتي تبحث أيضاً في إيطاليا، أنه في مناطق رأس المال الاجتماعي المرتفع، تستثمر الأسر مبالغ أقل في النقد وأكثر في الأسهم وتقلل استخدام الائتمان غير الرسمي. وفي المناطق التي لا يثق فيها الناس حقاً بمن هم خارج أسرهم، قد يكون من الصعب تكوين منظمات اقتصادية كبيرة يمكنها الاستفادة من زيادة الحجم وتبني التقنيات الجديدة. ويشير هذا إلى أنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون لدى المشروعات المتوسطة في لومباردي، وهي منطقة شمالية غنية في إيطاليا، 13 موظفاً، مقارنةً بـ 5 موظفين في كالابريا، وهي منطقة جنوبية فقيرة.

ينظر آخرون إلى ما هو أبعد من إيطاليا. فقد وضع جويل موكير (Joel Mokyr) من جامعة نورث وسترن في كتابه (ثقافة النمو) الذي نُشر في عام 2016 "مبدأ التنافس" على أنه السبب وراء تحول بعض البلدان إلى بلدان صناعية في حين لم يكن هذا وضع البلدان الأخرى. وكانت بعض المنظمات مثل "الجمعية الملكية"، التي تأسست في لندن عام 1660، منتديات لتبادل الأفكار، حيث طرح الناس اكتشافاتهم واستجوبوا بشدة نظريات الآخرين. والأهم من ذلك أنَّ هدف علوم أوروبا الغربية تحول مع الوقت من هدفٍ معني بـ "التراكم الطائش للحقائق التجريبية"، كما يقول السيد موكير، نحو الاكتشافات التي يمكن استخدامها في العالم الحقيقي. ومهد البحث العلمي الطريق للاستثنائية الاقتصادية الأوروبية. ولم يحدث شيء يمكن حقاً مقارنته بذلك في أجزاءٍ أخرى من العالم.

النوادي الثقافية:

يبدو أنَّ إحياء التفسيرات الثقافية للثراء والفقر خطوة منهجية إلى الأمام، إلا أنه يثير سؤالين كبيرين. الأول يتعلق بأصول السمات الثقافية وهو من أين أتت هذه الأصول؟ ويدور السؤال الثاني حول سبب حصول الأشخاص من ثقافات متشابهة في بعض الأحيان على نتائج اقتصادية مختلفة جداً. وفي محاولةٍ للإجابة عن هذه الأسئلة، أدرك خبراء الاقتصاد أهمية التاريخ، وبالأخص الصدف التاريخية.

أولاً بالنسبة لمسألة أصل السمات الثقافية، تشير بعض الأبحاث إلى أنها نتاج تغييرات حدثت منذ مئات السنين. وثمة ورقة بحثية من عام 2013 كتبها الراحل ألبرتو أليسينا (Alberto Alesina) واثنان من زملائه تبحث في سبب اختلاف معدلات مشاركة قوة العمل النسائية في البلدان. تتمتع مصر وناميبيا مثلاً بمستوى الغنى نفسه، لكن حصة المرأة الناميبية في القوى العاملة تزيد بمعدل الضعف عن نصيب المرأة المصرية. وتعزو الورقة هذه الاختلافات إلى حدٍ كبير إلى الاختلافات في الزراعة ما قبل الثورة الصناعية إلى جانب الظروف البيئية، حيث تتطلب زراعة المحراث، الشائعة في مصر، الكثير من قوة الجزء العلوي من الجسد، لذلك كان هناك أفضلية للرجال. في حين تستخدم الزراعة المتنقلة، وهي أكثر شيوعاً في ناميبيا، أدوات يدوية مثل المعزقة التي هي أكثر ملاءمةً للنساء. ويتردد صدى تأثير هذه التقنيات الزراعية في إحصاءات اليوم.

Asset 41@4x.png

وينظر خبراء اقتصاديون آخرون إلى الماضي البعيد لشرح التفاوتات المعاصرة في الدخل والثروة. ووجدت ورقة بحثية من العام الماضي كتبها بنجامين إنك (Benjamin Enke) من جامعة هارفارد دليلاً على أنَّ العرقيات قبل الثورة الصناعية التي تعرضت لانتشار محلي كبير للعوامل الممرضة أظهرت أنماط قرابة أكثر تشدداً، مما يعني في الواقع أنَّ الناس كانوا موالين بشدة لأسرهم الكبيرة ومرتابين من الغرباء. وفي مكانٍ مهدد بالمرض، كانت الروابط الأسرية الوثيقة مفيدة لأنها تقلل من الحاجة إلى السفر، ومن ثم من خطر التعرض لهذه الأمراض. وتميل الأماكن التي كانت بها أنماط قرابة أوثق منذ مئات السنين إلى أن تكون أكثر فقراً اليوم، وهي علاقة ظهرت أول مرة خلال الثورة الصناعية. ونظرت أبحاث أخرى إلى الخلف أكثر، مشيرةً إلى أنَّ السمات الثقافية المعاصرة هي نتيجة للتنوع الجيني. لكن هذا ما يزال سعياً متخصصاً، كما أنَّ معظم الخبراء الاقتصاديين ينقلبون قلقين عندما يتعلق الأمر بالحديث عن علم الوراثة.

وتركز مجموعة منفصلة من الأبحاث على الحالات التي لا تكون فيها الثقافة تفسيراً كافياً للنتائج الاقتصادية. فلنأخذ مثلاً حالة غواتيمالا وكوستاريكا. كتب دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون في كتاب الممر الضيق (The Narrow Corridor) الذي نُشر عام 2019: "كان للبلدين تاريخان متشابهان، ومناطق جغرافية متشابهة، وميراث ثقافي متشابه، وكان أمامنا الفرص الاقتصادية نفسها في القرن التاسع عشر، لكن اليوم يبلغ متوسط ثراء سكان كوستاريكا أكثر من ضعف ثراء المواطن الغواتيمالي العادي. وبدا سبب الاختلاف في البداية عشوائياً، وفقاً لما ذكره أسيموغلو وروبنسون. وفي النهاية أصبح من الواضح أنَّ الأمر يعود إلى البن، ففي كوستاريكا أدى تطوير مزارع البن لصالح السوق الأوروبية إلى علاقة أكثر توازناً بين الدولة والمجتمع، ربما لأن البلاد لديها المزيد من الأراضي الهامشية وعدد أكبر من أصحاب الحيازات الصغيرة. أما في غواتيمالا فقد أدى ذلك إلى ظهور حكومة عدائية جشعة.

لذلك بالإضافة إلى الثقافة تبحث مجموعة متنامية من الخبراء الاقتصاديين في "المؤسسات"، وغالباً ما يُنظر إليها على أنها تعني النظام القانوني واللوائح الناظمة. ويجادل بعض الخبراء الاقتصاديين الثقافيين بأنَّ التركيز على المؤسسات يثبت وجهة نظرهم: فالمؤسسات هي نتاج المعايير والقيم والتفضيلات. المعتقدات المختلفة للأمريكيين والأوروبيين حول أسباب عدم المساواة، على سبيل المثال تقطع شوطاً طويلاً نحو تفسير سبب كون دول الرفاهية الأوروبية أكثر سخاءً من دول أميركا.

ولكن في كثير من الحالات قد لا يكون لظهور مؤسسات مختلفة أي علاقة بثقافة البلد، ففي بعض الأحيان يكون هذا محض حظ. ويوضح موكير أنَّ أوروبا، التي كانت مجزأة إلى الكثير من الدول، كانت المكان المثالي للابتكار، فالمثقفون الذين تحدوا الحكمة السائدة وأثاروا غضب السلطات يمكن أن ينتقلوا إلى مكانٍ آخر. على النقيض من الصين كما يجادل موكير كان لدى المفكرين المستقلين منافذ قليلة للهروب. ولم يخطط الأوروبيون لمثل هذا النظام بل حدث فحسب.

وجدت أعمال أخرى قام بها السيد أسيموغلو والسيد روبنسون، جنباً إلى جنب مع سيمون جونسون من كلية (MIT) لإدارة الأعمال، عنصراً إضافياً للعشوائية قد يفسر الأنماط المعاصرة للثروة والفقر، وتحديداً البلدان الأكثر عرضة للإصابة بأمراض معينة. وكان معدل وفيات المستوطنين منخفضاً في بعض البلدان المستعمرة، مثل نيوزيلندا وأستراليا، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ أنواع الأمراض هناك كانت أقل ضراوة. أما في دول أخرى، مثل مالي ونيجيريا، كانت معدلات الوفيات أعلى بكثير. ولم يرغب المستعمرون في الاستقرار في البلدان التي ترتفع فيها مخاطر الإصابة بالأمراض، حتى لو أرادوا أخذ المواد الأولية من تلك البلدان. لذلك في بلدان مثل مالي ونيجيريا، بدلاً من الاستقرار استقراراً دائماً أنشؤوا أنظمة تتيح أقصى قدر من استخراج الموارد بأقل عددٍ ممكن من الجنود على الأرض. ويقول السادة أسيموغلو، وجونسون، وروبنسون: "إنَّ ذلك أنتج أنظمة سياسية جشعة صمدت حتى يومنا هذا".

فهل أصبح الخبراء الاقتصاديون أقرب إلى الإجابة عن السؤال الجوهري لعلومهم؟ من المرجح أنَّ بعض البلدان غنية وبعضها الآخر فقير بسبب مزيجٍ فوضوي من الحوافز الاقتصادية والثقافية والمؤسسات والفرص، إذن ما تزال الإجابة غير واضحة. في عام 1817كتب توماس مالتوس (Thomas Malthus)، أحد الخبراء الاقتصاديين الأوائل، في رسالة إلى الخبير الاقتصادي ديفيد ريكاردو (David Ricardo): "إنَّ أسباب ثراء الأمم وفقرها [كانت] الدافع الأعظم لجميع الاستفسارات في الاقتصاد السياسي". وساعد إحياء الاقتصاد الثقافي بعد قرنين من الزمان في تحقيق هذا المسعى، لكن الأمر لم ينته بعد.

 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...