الابتكار الاجتماعي
قياس الابتكار الثقافي

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 11

قياس الابتكار الثقافي

   رائد العيد

ما لا يمكن قياسه، لا يمكن تطويره. قاعدة ضمن أبجديات العمل في مختلف القطاعات، والتي صاغها أب الإدارة الحديثة بيتر دراكر. ويمكن أن نحوِّرها فنقول: إنَّ الابتكار الذي لا يقاس غير موجود، غير مرئي. 

مؤشرات قياس الابتكار 

تُرفض المقاييس والإحصاءات في مجال الإبداع والابتكار كثيراً، وعندما نتحدث عن مؤشرات القياس فنحن نحاول اقتحام تابوهات مليئة بالأشواك، ومع ذلك فعدم الاتفاق على مؤشرات خاصة بالابتكار قد يكون خلف تدهور صورة الابتكار في أذهان الكثير من الناس، بل وفي أذهان الكثير من الرؤساء التنفيذيين البعيدين عن تصوُّر ماهية الابتكار وحقيقته ومنافعه. 

قياس الابتكار له عدد من الأدوات والمنهجيات، كما له عدد من المؤشرات المتداولة والمنصوص عليها في دراسات الابتكار المرجعية، ومنها دليل أوسلو الخاص بجمع بيانات الابتكار وقياس الأنشطة العلمية والابتكارية، ويمكن إرجاع مؤشرات قياس الابتكار عامةً إلى نوعين: مؤشرات قياس الأنشطة، ومؤشرات قياس الأثر. 

وتعنى مؤشرات قياس الأنشطة بأفعالك، أو مدى جهد فريقك، وتحت هذه الفئة من المؤشرات تُدرِج شركة "قيادة الابتكار - إنوفيشن ليدر" طلبات تسجيل براءات الاختراع أو البراءات المسجلة بالفعل، وعدد الموظفين المدربين على أساليب الابتكار، وعدد الأفكار النظرية المقترحة، وعدد الأفكار التي تناولتها الأبحاث، وعدد الأفكار التي تحولت إلى نماذج أولية، والشركات الناشئة التي التقيت بها أو أسست شراكات معها. 

كما يلحقون بمؤشرات قياس الأنشطة المحاضرات التي تلقى في مؤتمرات الابتكار، أو في المناسبات التي أشارت فيها وسائل الإعلام إلى مشروعاتك، وطلب الاستشارات والخدمات من فريق الابتكار من قبل باقي أقسام الشركة، أو حجم التمويلات والمنح التي خصصتها لمشروعات الموظفين، أو مشروعات التعاون مع المؤسسات الأكاديمية.

أما النوع الثاني، فإن مؤشرات قياس الأثر هي تلك المؤشرات التي تُظهر النتائج الملموسة لتلك الأنشطة، وترى شركة "قيادة الابتكار" أن الإيرادات هي معيار التأثير الرئيسي، وليس الوحيد. فمؤشرات الأثر، أو التأثير، تشمل أيضاً المنتجات أو الخدمات التي قد تثمر عنها جهود فريق الابتكار، وبإمكانها أن تزيد من إنتاجية الشركة، أو تزيد من حصة الشركة السوقية وبإمكانها أيضاً أن تستقطب فئة جديدة من العملاء، أو تفتح للشركة أسواقاً جديدة في منطقة جغرافية أخرى ذات أهمية بالنسبة لها، وبإمكان تلك المنتجات والخدمات أيضاً أن تعزز ولاء العملاء، أو ترفع صافي نقاط الترويج، وقد تفتح المجال أمام وضع نموذج أعمال جديد، كإضافة خدمة تدر الأرباح على الشركة، بعد أن كانت الشركة تبيع المنتجات فحسب والعكس بالعكس.

كما يمكن لمؤشرات التأثير أن تشمل أشياء أخرى غير الإيرادات والأرباح، مثل الانخفاض في تكلفة التشغيل، أو زيادة الإنتاجية للموظفين. ومع ذلك يوصي أليكس جورياتشيف، المدير الإبداعي لشركة سيسكو، بالتركيز على مقياسين للتأثير ثبتت قوتهما، وهما الزيادة في الإيرادات المحصلة، وحجم التكاليف التي جرى توفيرها نتيجة التطويرات والمنتجات والخدمات التي تمخضت عنها عملية الابتكار.

يبحث كثير من المديرين عن الآثار السريعة، والمحدِثة ضجيجاً مرئياً، وهو ما يدفعهم للتركيز على مؤشرات الأنشطة، فيحرصون على إقامة الهاكثونات والمسابقات وإقامة الفعاليات المتعلقة بالابتكار، دون العناية بآثارها، ولا حتى بمخرجاتها، فقد رأيت الكثير من مخرجات مسرعات الابتكار تموت بعد فوزها بالجائزة بأشهر، بسبب عدم الاهتمام بتصميم رحلة ابتكارية متكاملة، وعدم التركيز على مؤشرات الأثر بعد تحقيق مؤشرات النشاط. 

يؤكد جورياتشيف في كتابه "إبداع من دون خوف" على أن مؤشرات قياس كل من النشاط والتأثير مهمة على حدٍّ سواء فلا ينفصم كل منهما عن الآخر، إلا أنَّ معظم المسؤولين التنفيذيين يركزون تركيزاً غير متوازن على مؤشرات قياس النشاط على حساب مؤشرات قياس التأثير، خاصة في البدايات، وهذا التركيز من جانب المسؤولين التنفيذيين على النشاط دون التأثير، يؤدي بمديري أقسام الابتكار إلى أن يظلوا هم أيضاً أسرى لمقاييس النشاط، ما يجعلهم يُظهرون الابتكار بصورة براقة بهدف إثارة حماسة الآخرين، وإشراكهم في عملية الابتكار، ولاسترضاء رؤسائهم أيضاً، وعندما تظهر النتائج والأرقام نهاية الربع المالي، أو تتعرض الشركة لأزمة في الميزانية، ولا يتمكن مديرو أقسام الابتكار من البرهنة على إحداث أي تأثير، فإنهم هم أول من يُفتح لهم باب المغادرة. 

الموازنة بين مؤشرات الأنشطة ومؤشرات الأثر هي المهمة الأصعب على مديري الابتكار. 

 

مؤشرات الابتكار الثقافي

ما سبق كان المؤشرات العامة للابتكار، والتي يمكن استعمالها في مختلف المجالات، ولكن لا يعني أنها كافية لتقييم الابتكار في مختلف المجالات. 

وإذا كانت القطاعات الإبداعية ما تزال تعاني مع مؤشرات قياس آثارها ومساهماتها في الناتج المحلي وفي غيرها من القضايا، ففي الابتكار الثقافي، وهو ما يمكن تعريفه هنا بالابتكار في الصناعات الإبداعية، يوجد الكثير مما لا ترصده مؤشرات قياس الابتكار العامة، وهو ما دفع إيان مايلز ولورنس جرين لإطلاق مصطلح "الابتكار الخفي" في الصناعات الإبداعية. فبعد دراسات موسعة في الابتكار الثقافي وجدا أن الكثير من الأنشطة والآثار لا تقاس بالمؤشرات العامة، وتحتاج إلى التفات مؤسساتي يضع السياسات والإحصاءات الخاصة بالمجالات الثقافية، وأن قدراً كبيراً من الابتكار في الصناعات الإبداعية "مخفي"، ولا يُسجل باستخدام مؤشرات الابتكار التقليدية. كما أن الكثير من الشركات الإبداعية تكافح لإضفاء الطابع الرسمي على عمليات الابتكار الخاصة بها. ويقدم التقرير عدداً من التوصيات لقياس الابتكار وإدارة الأعمال الإبداعية وصنع السياسات، بما في ذلك إتاحة برامج الابتكار المستهدفة للصناعات الإبداعية. 

ولعل جزءاً من هذا الخفاء عائد إلى خصوصية بعض أنواع الابتكار الثقافي عن غيره من الابتكارات، كما وضحنا في مقال الماهية والكيفية، ويكفي أن نسأل: كيف يمكن قياس تأثير لوحة الموناليزا؟ أو مقدمة ابن خلدون؟ أو فيلم التايتنك؟ بوصفها ابتكارات ثقافية أحدثت دويَّاً مزعزعاً ليس في حقولها الخاصة فحسب، بل في الثقافة عموماً، لتعرف ضعف مؤشرات القياس التقليدية في تحليل الابتكارات الثقافية. 

هذا الاختلاف يحتِّم علينا التعامل مع الابتكار الثقافي بخصوصية تناسب أنشطته وآثارها، فما يصلح لقياس الأنشطة الصناعية واضحة السلسلة ومحددة الأثر، لا يناسب في قياس العملية معقدة الإنتاج، غامضة الأثر، بل تحتاج إلى مراعاة لهذه الخصوصية وعدم إرهاق المنظمات الإبداعية بمستهدفات ومؤشرات من خارج الحقل الثقافي.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...