مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 11
قراءة في كتاب: نشأة الإنسانيات
نقدم تعريفنا بهذا الكتاب بوصفه مكنزاً لإطلاق مختبر للممارسات الثقافية، يشكل السرد والرؤى الموجودة في الكتاب الكثير من البصائر المهمة للعاملين في حقل الابتكار الثقافي في النظر بأصول ممارسات ثقافية في العلم والتعلم والأدب لإطلاق الكثير من الابتكارات الجديدة التي تحتاج إليها اليوم تحدياتنا المعاصرة.
في هذا الكتاب سخَّر مقدسي سعة اطِّلاعه الهائلة، وأقوى أدواته المعرفية لمواجهة العمل على فهم الإنسانيات بعيداً عن هيمنة الفهم الغربي، وتجاهل مساهمة الحضارة الإسلامية في كتابيه المتتاليين (نشأة الكليات معاهد العلم في الإسلام والغرب)، (إدنبرة، 1981)، و (نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي)، لم يدخر مقدسي جهداً في توثيق مصادر أعظم ما تحتفي به الحضارة "الغربية" وأحظى ما تعتز بإنجازه: التقليد المدرسي والإنسانيات، وإرجاعها إلى أصولها الإسلامية.
إنَّ الحجج التي قدمها جورج مقدسي -إذا تلقتها الروح العلمية الموضوعية- كفيلة بأن تبدد أطروحة مركزية الغرب في العلوم، وأن حضارته هي أحق الحضارات باسم التمدن، تلك الأسطورة التي يروِّجها ويحافظ عليها مجموعة من المشتغلين بشرح العلوم الغربية وترجمتها. حشد مقدسي حججاً قوية، وغنيٌّ عن البيان أن نقول: إنّ التحدي الأكبر الذي يواجهه في هذه العملية تقديم وجهة نظر تعددية بديلة للتاريخ البشري.
لقد نجح مقدسي في إعطائنا المسح الأكثر شمولاً وموثوقية للإنسانيات الإسلامية حتى الآن (كما فعل مع التقليد المدرسي في نشأة الكليات). وأول مرة نرى بلغة أوروبية وصفاً شاملاً لصعود روح الأدب ومؤسساته (أو ما يسميه مقدسي الإنسانيات الإسلامية). يتتبع الجزء الأول من الكتاب صعود النزعة الإنسانية الإسلامية إلى أصول المدرسية/ التقليد المدرسي. هذا الجزء في الواقع يمثل ربطاً مثالياً بين (نشأة الكليات) و(نشأة الإنسانيات). يقدم الفصل الأول حجة مكثَّفة (طرحها مقدسي في مكان آخر) حول أهمية الشافعي في تأسيس ما أسماه مقدسي "الإسلام التقليدي". ويمهد هذا الفصل لمناقشة المعركة الكلاسيكية بين التقليديين والعقلانيين التي وثقها مقدسي بالفعل فيما بعد. الفصل الثاني يؤرِّخ لتشكُّل المذاهب، وتحولها إلى حواجز مؤسسية "ضد تكرار الإزعاج العقلاني" (ص 16). في حين يعرض الفصل الثالث حجة إضفاء الطابع المهني على الدراسات الفقهية ويرى أن فيها تعزيزاً للمواقف التقليدية ضد العقلانيين.
تتبع الفصل الرابع -خاتمة الجزء الأول- التحول من العقلانية إلى المؤسسات التقليدية. وفي هذا الفصل -وتحديداً في قسم "الدور العقلاني السري للكلية النظامية" (ص 41 وما يليها) - يهيئ مقدسي المسرح لظهور روح الأدب ومؤسساته. أما الأجزاء من الثاني إلى السادس، ففي فصل تلو الآخر يتتبع مقدسي ويوثق الجوانب الحاسمة لمؤسسات الأدب، بما في ذلك فحص مصادر الوقف، وتفصيل أشكال التعليم، كما حدد تنظيم المعرفة، وعين بدقة المجالات الرئيسية للإنسانيات الأدبية (مثل المذاكرة، والمناظرة، وما إلى ذلك). وأخيراً في الجزء السادس بعنوان "المجتمع الإنساني" (ص 232 وما يليها) يقدِّم مجموعة متنوعة من المجموعات الاجتماعية (مثل الرعاة، والباحثين الإنسانيين، والطلاب الإنسانيين، وما إلى ذلك) التي جعلت من الممكن تشكل مؤسسات الأدب.
في الجزء السابع يستأنف مقدسي هدفه الأكثر طموحاً للفت الانتباه إلى "أوجه التشابه المدهشة في عددها وأهميتها، بين إنسانيات الإسلام العربي الكلاسيكي وإنسانيات الغرب المسيحي اللاتيني" (ص 294). في هذا القسم يستعرض مقدسي أولاً أفكار عدد من المؤرخين البارزين الذين تكهنوا بأصول الإنسانيات وسوابقها كما يعرفها "الغرب". ناقش مقدسي هنا النظريات والاقتراحات لكل من أولمان، وروبرت ويس، وسيم دريسدن، وبول أوسكار، ورينولدز، وويلسون، واستنتج أن ما يمكن تعلمه -من بين أمور أخرى- من هذه الدراسات حول الإنسانيات هو أن الحركة الإنسية في الغرب قد نشأت في إيطاليا… ولكن ما بقي دون إجابة هو لماذا بدأت هذه الحركة في إيطاليا بدلاً من فرنسا، وهي موطن تقليد أدبي كلاسيكي أصيل، يبدو أنه لم يكن موجوداً في إيطاليا؟ ما مصدر هذا "الدافع الغامض" للحركة الإنسية الذي اكتشفه أولمان في إيطاليا؟ إن الدراسات سالفة الذكر [حول أصل الإنسانيات] تلقي الضوء على "ماهية" النزعة الإنسية، لكن يظل "دافع" نشوئها "غامضاً" (ص 301 – 2).
ولكيلا يدَّخر مقدسي جهداً في تدعيم رؤيته يلجأ إلى المصدر الأكثر موثوقية حول نشأة الإنسانيات، وهو العمل الكلاسيكي لجاكوب بوركهارت "حضارة النهضة في إيطاليا". أسهب مقدسي في عرض المقاطع التي أهملت إهمالاً كبيراً، والتي يناقش فيها المؤرخ الثقافي الألماني البارز مركزية صقلية في إشعال شرارة عصر النهضة وعلاقتها بالعالم الإسلامي، لا سيما في عهد فريدريك الثاني. ويتابع مقدسي سرديته ببيان أوجه التشابه الملحوظة بين النزعة الإنسية الغربية ونظيرتها الإسلامية: نظرة بوركهارت للدولة، والنزوع الفرداني، والتعددية، والنزوع نحو الشهرة والمجد، وانتشار الطابع الساخر، إلى آخر أوصاف حضارة النهضة في إيطاليا. ويختتم مقدسي هذا الفصل بالحديث حول خصوصيات عصر النهضة الإيطالية باقتباس من بوركهارت نفسه: " كانت المعرفة والإعجاب بالحضارة الرائعة التي وصل إليها الإسلام -خاصة قبل غزو المغول- بخاصة إيطاليا منذ زمن الحروب الصليبية. وقد تعزز هذا الإعجاب عن طريق السياسات شبه الإسلامية لبعض الأمراء الإيطاليين، حيث كان لدى الإيطاليين نموذج إسلامي للنبل والكرامة والفخر". بتصرف.
وننقل فيما يلي بعض الإجابات الهامة عن الكتاب قدمها مترجم الكتب الدكتور أحمد العدوي الذي كانت ترجمته للكتاب عملاً إبداعياً يساعد على الاستفادة المثلى من الكتاب.
ما الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
الدكتور أحمد العدوي: وصفت في مقدمتي هذا الكتاب بأنه كتاب نفيس، لم يؤلَّفْ مثله، لا في الشرق ولا في الغرب، فهو نمط وحده. ولست أعدُّ هذا القول من قبيل المبالغات قط، بل هو أقرب إلى الوصف الموضوعي لمحتواه. عالجَ مقدسي في هذا الكتاب موضوعاً لم يُسْبَق إليه من قبل، وهو نشأة العلوم الإنسانية في الإسلام الكلاسيكي والغرب المسيحي من منظور مقارِن. ومن ثم فالكتاب دراسة تحليلية للنزعة الإنسانية (Humanism) أو الأدب في الإسلام منذ عصر صدر الإسلام حتى القرن السابع الهجري /الثالث عشر الميلادي.
و(نشأة الإنسانيات) لا يعد تتمة، كما أنَّه ليس ذيلاً على كتاب (نشأة الكليات معاهد العلم عند المسلمين والغرب المسيحي) بل هو كتاب قائم بذاته، وإن تقاطع مع كتاب (نشأة الكليات) في نقاطٍ عدة، كما أنهما تشابها من جهة التنظيم إلى حد كبير. درَس الكتاب الأوَّل -أعني (نشأة الكُلِّيات)- الحركة المدرسية في الإسلام والغرب المسيحي، في حين عني (نشأة الإنسانيات) بدراسة الحركة الإنسانية في الإسلام والغرب من منظور مقارِن. ومن ثم فكلا الكتابين يكمل كل منهما الآخر، وهذا عائدٌ إلى الارتباط الوثيق بين الحركة المدرسية والإنسانية في الإسلام والغرب المسيحي على حد سواء، والتأثير الذي مارسته كل منهما على الأخرى.
وكتاب (نشأة الإنسانيات) يلقي ضوءاً كثيفاً على إرهاصات النزعة الإنسانية، والحركة الأدبية وحقولها الرئيسة، وتلك المتفرعة منها، وروَّادها، ومؤسساتها، ومناهجها. ونشد مقدسي في هذا الكتاب فهم التاريخ على نحو أفضل ابتداءً، ومزيداً من الاستيعاب للظواهر التاريخية المتعلقة بموضوعه، ووضعها في سياقها. والأهم من ذلك فهم الحضارة الغربية المسيحية على نحو أفضل من ذي قبل. وعلى هذا النحو أعاد مقدسي التنويه بأهمية الاستشراق -في سياق التخصصات والانشغالات الفكرية أوروبياً- متجاوزاً النظرة التقليدية إليه بوصفه تخصصاً فرعياً يهدف إلى فهم الآخر، وعمل على تقديمه بوصفه وسيلة لفهم الذات. من هنا حظي الكتاب بشهرة واسعة في الغرب، واكتسب أهمية بالغة في سياقه بالنسبة لكلتا الحضارتين الإسلامية والمسيحية الأوروبية على حد سواء، حتى إن دائرة المعارف البريطانية دأبت على التعريف بمقدسي على أنه صاحب كتاب (نشأة الإنسانيات)، دوناً عن سائر أعماله. ووصف مقدسي -بعد صدور هذا الكتاب- بأنه واحد من أكبر المستشرقين سواء من الجيل الذي عاش فيه أو من أي جيل انقضى.
عموماً نبهت أعمال مقدسي المؤرخين الأوروبيين إلى افتقار المكتبة التاريخية الغربية إلى دراساتٍ مقارِنة بين الإسلام والغرب المسيحي، وأن هذا الافتقار عمل على التشويش على كثير من الحقائق التاريخية، ومن جملتها: أصول الجامعات الأوروبية، والعوامل التي أثرت في نشأة القانون الإنجليزي في طوره المبكر خاصة، ومعرفة أوروبا بالنقابات وتطورها. وكانت المركزية الأوروبية تنظر إلى هذه الظواهر على أنها ظواهر أوروبية بحتة، ومن ثم تجاهل مؤرخو المركزية الأوربية وجود تأثير للإسلام في نشأة هذه المؤسسات الأوروبية. والأهم -بل والأخطر من ذلك كله- أثر الإسلام في النهضة الأوروبية فيما عُرف اصطلاحاً بعصر النهضة الإيطالية. ومن المعلوم أنه يسهل إثبات وجود تأثير مباشر للعلوم الإسلامية في نظيرتها الأوروبية، مثل الرياضيات والطب والفلك والفيزياء، وهو أمر سلَّم به مؤرخو المركزية الأوروبية، وإن حاولوا الحد من نطاقه وتأثيره الكلي، فلم يسعهم إنكار دور الترجمة والاصطلاحات العربية التي تذخر بها العلوم الأوروبية. ولكن هل يسهل التدليل على وجود تأثير للأدب العربي في الآداب الأوروبية في عصر النهضة في ضوء الافتقار إلى الأدلة المباشرة على وجود مثل هذا التأثير؟ هذا هو ما يتعذر إثباته على المؤرخين، ولكن ليس المؤرخين من قامة مقدسي. لقد اكتشف مقدسي فصلاً يكاد يكون مجهولاً بالكلية في تاريخ التفاعل بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية. ومن هنا تأتي أهمية كتاب (نشأة الإنسانيات) في تسليط الضوء على هذه البقعة المعتمة من التاريخ واستكشافها.
غطى كتاب (نشأة الإنسانيات) ما يقرب من ستة قرون تقريباً، مع ميل إلى التركيز على المدة بين القرنين الثالث والخامس الهجريين/ التاسع والحادي عشر الميلاديين. وانقسم إلى سبعة أبواب، يضم كل منها عدَّة فصول. وعلى غرار (نشأة الكليات) كرَّسَ مقدسي الأبواب الستة الأولى للعالم الإسلامي. فناقش البابُ الأول المدرسية في الإسلام، في حين درس الباب الثاني مؤسسات الأدب وتصنيفها. أما الباب الثالث فقد تعرَّض للتدريس وتنظيم المعارف. في حين عُنِي الباب الرابع بقضايا التدريس في فروع الأدب الرئيسة. وكذلك اعتنى الباب الخامس بالتدريس أيضاً، ولكن من حيث المناهج المتَّبعة فيه. وتناول الباب السادس مجتمع الأدباء (الإنسانيين). أما الباب السابع فهو دراسة مقارنة بين الأدب في السياق الإسلامي، وبين النزعة الإنسانية في سياق أوروبا المسيحية. وأنهى المؤلف هذا الكتاب بخاتمة بديعة تضمنت خلاصة ما توصل إليه. وننقل هنا جزءاً من مقابلة مع الدكتور أحمد العدوي في الإجابة عن بعض خصائص الكتاب:
من الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
الدكتور أحمد العدوي: يستهدف الكتاب القارئ العام المهتم بالحضارة الإسلامية بصفة عامة. ولا غنى عنه للمهتمين بالتاريخ الإسلامي وتاريخ التعليم والمؤسسات التعليمية في الإسلام، وكذلك أولئك المهتمين بالدراسات المقارنة بين الإسلام والغرب. فضلاً عن المهتمين بتاريخ التعليم والقانون، والأدب وسائر العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي وأوروبا، وكذلك عصر النهضة الأوروبية.
الجدير بالذكر حقّاً أن هذا الكتاب لقي اهتماماً كبيراً في الغرب، حتى إن بعض النُّقاد ومؤرِّخي الأدب الأوروبيين دعوا إلى أن يكون كتاب (نشأة الإنسانيات) على رأس قائمة القراءة للطلاب في الجامعات في الغرب. وإذا كانت هذه دعوة بعض المؤرخين والنُّقاد في الغرب فحَرِيٌّ بنا -ونحن أبناء الحضارة- أن ندعو طلابنا الجامعيين إلى أن يكون هذا الكتاب على رأس قائمة القراءات الحرة عندهم، عسى أن يخرج منهم من يواصل ما بدأه مَقدسي، ويتابع استكشاف حدود ذلك الرَّافد الأدبي العربي الضَّخم الذي رفد الأدب الأوروبي في القرون الوسطى، والأثر المدرسي والإنساني للإسلام في المدرسية والإنسانية الأوروبيتين.
وعلى الصعيد الأكاديمي أعتقد أن هذا الكتاب سينبهنا إلى ضرورة العناية بإنشاء كراسٍ في جامعاتنا العربية يكرَّس للدراسات المقارنة بين الإسلام والغرب. كما لا بد لنا من توجيه طلابنا لدراسة اللغة اللاتينية القر-وسطية واللهجات العاميَّة الأوروبية القر-وسطية تمهيداً لإخضاع الأدبيات الغربية -قبيل عصر النهضة وبعيده- للفحص والدرس للوقوف على حجم هذا الرافد الأدبي العربي في هذه الحقبة المسماة بـ"عصر النهضة".
نبذة عن جورج مقدسي:
ولد مقدسي في ديترويت (ميشيغان) في عام 1920، لعائلة لبنانية هاجرت من لبنان إلى الولايات المتحدة قبيل الحرب العالمية الأولى. وعمل أستاذاً في جامعة مينيسوتا، كما عمل أستاذاً زائراً في: كوليج دو فرانس Collège de France، والسوربون بباريس IV-Sorbonne. ومنحته جامعة جورج تاون George Town الدكتوراه الفخرية تقديراً لجهوده في مجال الدراسات الإسلامية. وفي عام 1993 نال مقدسي جائزة جورجيو ليفي ديلا فيدا للتميز Giorgio Levi Della Vida Award for Excellence. واستقر مقدسي في ولاية بنسلفانيا، وعمل أستاذاً في جامعتها حتى تقاعد عام 1990، ثم ما لبث أن توفي في السادس من سبتمبر 2002 في هدوء في منزله الكائن بولاية بنسلفانيا عن عمر ناهز 83 عاماً. كان مقدسي علَّامةً غزير الإنتاج، وقد تُرجم عدد من آثاره إلى العربية، نخص بالذكر منها: (نشأة الكليَّات معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب)، (ابن عَقيل: الدين والثقافة في الإسلام الكلاسيكي)، (الإسلام الحنبلي)، (خطط بغداد في القرن الخامس الهجري) وغيرها. كما خلَّف مقدسي عشرات المقالات التي تركزت حول الفكر الإسلامي والفقه والتاريخ، ولا سيما تاريخ التعليم في الإسلام والغرب من منظور مقارن.
مصادر المقال:
https://www.jadaliyya.com/Details/43065
قراءة إضافية لأعمال مقدسي