التايبوغرافي العربي في الابتكار الثقافي

لعبت أساليب التواصل الكتابي "التايبوغرافي" دوراً جوهرياً في التواصل البصري منذ الأزل، ورافقت الإنسان على مر التاريخ وارتبطت به وأصبحت أحد أهم المرتكزات الثقافية للجماعات الإنسانية، وتنوعت وتطورت بأشكال متعددة بحسب العصر والجماعة التي تنتسب لها، ابتداءً بالرسومات والرموز والنقوش الحجرية وانتهاءً بما نراه في حياتنا اليومية في وسائل التواصل الرقمية والمطبوعة.

 

ما التايبوغراف؟

لجأ الإنسان إلى تطوير أساليب التواصل فكان أول ظهور للتايبوغرافي كان في الحضارات القديمة، فالكتابة المسمارية على سبيل المثال هي أقدم نظام تواصل كتابي في العالم، وهي أحد منتجات الحضارة السومرية منذ ما يقارب 3500 سنة قبل الميلاد. كما قدمت لنا الحضارة المصرية الكتابة الهيروغليفية أحد أعظم أنظمة التواصل الكتابية والتي تستمر عمليات استكشافها ودراستها حتى يومنا هذا.

 

"التايبوغرافي Typography" ويقابلها في اللغة العربية "الطباعة" وتعني القيام بترتيب الرموز البصرية الكتابية (حروف، أرقام، علامات ترقيم ...) بطريقة فعالة بحيث تصبح ذات معنى وقادرة على إيصال رسالة مفهومة.

 

ما أهمية التايبوغراف؟

تبنت المجتمعات عبر التاريخ رموزاً كتابية خاصة بها، وتتناقلها من جيل إلى جيل. تطورت استخدامات هذه الرموز وتحولت إلى أساليب تواصل بصرية متعمدة وموثقة، تساهم في عكس ثقافة هذه المجتمعات وقيمها وهويتها، وتمثل إرثاً حضارياً ثميناً تعزز به مشاعر انتمائها لمجتمعها وتتميز من غيرها من المجتمعات. كما أنها تمثل جسراً بين الثقافات المختلفة، فهو أداة تواصل فعالة وطريقة لتبادل الأفكار ومشاركة القيم مع المجتمعات الأخرى.

 

كيف يسهم التايبوغرافي العربي في الابتكار الثقافي؟

تأثرت الطباعة العربية بشكل مباشر بالعمق الثقافي والتاريخي للغة العربية، وتطورت الخطوط العربية عبر التاريخ وأخذت عدة أشكال كالخط الكوفي، والخط الرقعي، وخط النسخ وغيرها من أساليب الكتابة المرئية، ومع ظهور تقنيات الطباعة حول العالم بدأت الخطوط العربية بالتطور إلى أشكال أكثر تماسكاً من حيث بنية الحرف منها الخطوط في المخطوطات اليدوية.

 

التايبوغرافي العربي مساهم ثقافي

(متحف المستقبل):

كمساهم ثقافي، فالطباعة العربية قادرة على تمثيل المجتمعات العربية وعكس ثقافتها بفعالية كبيرة ويعود ذلك إلى كونها من أميز الأساليب البصرية من حيث شكل الأحرف وتركيبتها، وهذه التميز يمنحها قدرة خاصة على التغلغل والتأثير في جوانب عدة.

متحف المستقبل (هدية دبي للعالم) كما يتم وصفه، بتصميمه المعماري الفريد والمبتكر قام بربط الثقافة العربية وتراثها بالمستقبل وتأكيداً على استئناف جهود العلماء العرب في صناعة المستقبل من خلال تزيين واجهة المتحف بعدة جمل ملهمة لبناء المستقبل للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حيث تم كتابة هذه الجمل بخط الثلث:

"لن نعيشَ مئاتِ السنين، ولكن؛ يمكنُ أن نبدعَ شيئاً يستمر لمئاتِ السنين".

"المستقبل سيكون لمن يستطيع تخيّله وتصميمَه وتنفيذَه. المستقبلُ لا يُنتظَر، المستقبلُ يمكن تصميمهُ وبِناؤه اليوم".

"سرُّ تجدد الحياةِ، وتطوّرِ الحضارةِ، وتقدّمِ البشريّةِ هو في كلمة واحدةٍ؛ الابتكار".

بوابةً لاستشراف المستقبل قدمتها دبي للعالم مع التأكيد على أن الثقافة العربية وتراثها العلمي جزء أساسي من هذا المستقبل.

 

 

التايبوغرافي العربي في الهوية البصرية

(خط الجزيرة):

تلعب التايبوغرافي دوراً هاماً في الهويات البصرية لمختلف العلامات التجارية، فتستخدم الشركات محارف مرسومة حصرياً لها، أو تعتمد أحد المحارف المتوفرة في السوق وتبدأ استخدامه في الشعار وعلى منتجاتها وفي مختلف نقاط الاتصال الخاصة بها، والهدف من ذلك هو إيجاد حالة من الوعي لدى الناس بهذه الشركة من خلال هذا النمط المحدد من رسوم المحارف.

شبكة الجزيرة هي واحدة من أكبر وأهم الشبكات الإعلامية في العالم العربي، استثمرت الخط العربي في تصميم شعارها الذي تم رسمه بالخط العربي والمعروف على مستوى العالم ويشاهده الناس من جميع الثقافات على شاشات التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي.

كما أنها قامت بتصميم خطها العربي الخاص وأطلقت عليه اسم خط الجزيرة وأصبح من الخطوط المعروفة جداً ومن السهل تمييز مصدر الخبر الذي تقرأه بمجرد رؤية أن الخبر تمت كتابته بخط الجزيرة.

 

التايبوغرافي العربي مؤثر بصري

(شعار اليوم الوطني في المملكة العربية السعودية):

مع التطور الرقمي الذي وصلنا إليه في الوقت الحالي أصبح المصممون والعاملون في قطاع التسويق قادرين على استخدام التايبوغرافي في التأثير على الجماهير لخلق مشاعر معينة لديهم من خلال الحملات التسويقية والإعلامية، فمثلاً بالإمكان استخدام التايبوغرافي لتحفيز مشاعر الانتماء من خلال استخدام محارف مرسومة بطريقة كان يستخدمها الأجداد.

 

نجح المصممون في المملكة العربية السعودية بتحفيز مشاعر الانتماء للوطن لدى الشعب السعودي من خلال اختياراتهم في تصميم شعار اليوم الوطني، حيث استخدام المصممون خط الثلث وقاموا بتوظيفه ضمن خريطة المملكة ليكون جملة "هي لنا دار"، والجدير بالذكر أن خط الثلث هو الخط المستخدم في نص شهادة التوحيد الموجودة على علم المملكة العربية السعودية.

 

وأخيراً.. يعد التايبوغرافي جزءاً هاماً من الابتكار الثقافي وأداة متعددة الوظائف، فهي قادرة على عكس الصورة والقيم والثقافة لأي كيان تنتمي له، كما أنها تملك القدرة على التأثير ولعب دور هام في جوانب عديدة لإحداث التغيير المجتمعي.