الابتكار الاجتماعي
من نواة تمرة إلى كوب قهوة

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 12

من نواة تمرة إلى كوب قهوة

   عامر قاسم

مع ازدياد عدد سكان العالم وارتفاعه إلى نحو 8 مليارات نسمة وتوقعات وصوله إلى 11 مليار نسمة في عام 2100. ومن أجل ضمان توفير ما يكفي من الغذاء المناسب للجميع، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية التي تتضاءل يوماً بعد يوم، بات التحول إلى أنظمة غذائية أكثر استدامة من الضرورات الأكثر إلحاحاً. ويتطلب ذلك حلولاً استثنائية لا تقتصر على تغيير الطريقة التي يُصنَّع بها الغذاء فقط، وإنما تتجاوز ذلك إلى تغيير طرائق توفير الموارد، واستخدامها وتصنيعها وتغليفها، وحتى تقليل خسائر الأغذية وهدرها في السلسلة الغذائية، فضلاً عن تقليل تأثير نفايات التغليف.

من خلال هذا المقال سأتحدث مع "تميم كبارة" و"رهف الليموني" عن مشروعهما "دافي Daffee" الذي تبنى فكرة هذا التحول، وحولاه إلى واقع.

 موضوع الحكاية: مشروع "دافي"

"دافي" هو بديل القهوة المصنوع من نوى التمر، والمعبأ بتغليف مصنوع من مواد عضوية معتمدة قابلة للتحلل، ويأتي اسم المشروع "Daffee" من دمج لكلمتي "قهوة-Coffee" و"تمر-Date" حيث تم تأسيسه في هولندا عام 2020.

 نواة الحكاية: شرارة مشروع "دافي"

في عام 2013 تراكم لدى رهف الكثير من نوى التمر وذلك بعد اتبعاها لحمية طبية ألزمتها بتناول التمر، ومع وجود هذه الكمية من النوى بدأ يولد عندها الفضول لمعرفة ما يمكنها فعله للاستفادة من هذه النوى، وبعد البحث وجدت عدة فوائد واستخدامات لها، ولكن أكثر ما جذب انتباهها كان بحثاً علمياً يتحدث عن القهوة المصنّعة من نوى التمر وكيف أن قهوة التمر تعتبر مشروباً أساسياً مليئاً بالفوائد من حيث أنّه خالٍ من الكافيين ومدعم بمضادات الأكسدة كما يساعد على تنظيم السكر في الدم، تقول رهف: "عادت لي ذاكرة والدي الذي كان مريضاً بالسكر وضغط الدم، فرغم حبه للقهوة إلا أن الأطباء حذروه من تناولها ومنعوه عنها، وما جعلني أحب فكرة قهوة التمر هو أنها لا تؤثر على مرضى ضغط الدم فحسب بل ولها فوائد لمرضى السكر، بالتأكيد كان أبي سيحب هذه الفكرة أيضاً".

 أصل الحكاية: أزمة تلوح في الأفق

نبتة البن، والتي تأخذ 3-4 سنوات لتنمو وتبدأ بالإثمار، والتي بدورها تقطف وتغسل وتقشر وتجفف ثم تحمص، ليتم فيما بعد صناعة مشروب القهوة منها.

يستهلك العالم حوالي 500 مليار كوب من القهوة سنوياً ويزداد الاستهلاك سنوياً مع ازدياد الطلب وعدد سكان العالم، وتتركز زراعة البن في مناطق من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكن هنالك أزمة تلوح في الأفق، تتجلى فيما يلي:

  • مناطق زراعة البن -المحدودة أصلاً- والتي توافق المعايير المناسبة والمحددة للغاية لنمو هذا النبات -وذلك من ناحية الحرارة والارتفاع عن سطح البحر وكمية هطول الأمطار- تتقلص كل عام بسبب التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة.
  • في كولومبيا -من أكثر الدول زراعة للبن- تقلصت الأراضي الصالحة لزراعة البن منذ عام 2013 بنسبة تفوق 7%، وبآخر التقديرات والدراسات يُتوقع أن تتقلص الأراضي الصالحة لزراعة البن حول العالم بنسبة 50% بحلول عام2050، بالإضافة لانقراض 60% من فصائل نبات البن بحلول ذات العام.
  • هذه الآثار ليست فقط بيئية فحسب، بل تؤثر اجتماعياً واقتصادياً على مزارعي البن أيضاً، وعلى اقتصاد العديد من الدول ككولومبيا التي تعتمد على تصدير البن في اقتصادها.

 مجريات الحكاية: انطلاق مشروع "دافي"

انتقل تميم ورهف إلى هولندا طالبين اللجوء عام 2019، ومثلهم مثل الكثير من طالبي اللجوء وجب عليهما البحث عن عمل أو البدء بمشروعهما الخاص بحثاً عن الاستقرار، يقول تميم: "تمت خطوبتنا عام 2016 من خلف الشاشات وعبر مكالمة بالصوت والصورة، عانينا من البعد والافتراق وطال انتظارنا 3 سنوات حتى التقينا في هولندا طالبين للجوء".

بعد أن بدأت رحلتهما بحثاً عن الاستقرار، استذكرت رهف فكرة قهوة التمر وهي فكرة لم تفارقها أساساً، فبدأت برفقة تميم بالبحث عن الفكرة ودراسة السوق وكل ما يلزمهما للتخطيط لهذا المشروع، وما زاد تشبثهما بهذه الفكرة قراءتهما لإحدى البحوث العلمية عن أزمة البن والتي تحدثنا عنها.

بدآ بالتخطيط للمشروع على أساس "مقهى لقهوة التمر" حيث يتم إنتاج وتقديم المنتج في مكان واحد، ولكن تحول لاحقاً لإنتاج "قهوة التمر" فقط وتوزيعها، نظراً لصعوبة إيجاد مستثمرين لمشروع ضخم كمقهى.

لاحقاً عرض تميم ورهف مشروعهما من خلال حاضنة للأعمال في هولندا على عدة مستثمرين، ولحسن الحظ قامت إحدى المستثمرات في مطلع عام 2020 بتمويل هذا المشروع، ليبدأ تحول هذه الفكرة من الورق إلى أرض الواقع.

يقول تميم ورهف: "من كومة نواة التمر المجتمعة لدى رهف عام 2013 ظهرت الفكرة، لكن بعد بحثنا وقراءتنا عن أزمة البن، أصبحت هذه الفكرة منطقية أكثر وأكثر، فنوى التمر هي أساساً لا تعتبر كمنتج رئيسي بل منتج مهدور، فهي مخلفات لمصنعي المواد الغذائية أو غير الغذائية المعتمدة على فاكهة التمر، ومع وجود دراسات تثبت فائدة هذه النوى لماذا لا نستثمرها في إيجاد حل بديل عن البن يساعد في تقليل الطلب عليه مما يساهم لو بجزء بسيط في حل لهذه الأزمة".

عمل كل من تميم ورهف في إنتاج "قهوة التمر" بغرفة من غرف منزلهما، وتواصلا مع إحدى الشركات المحلية التي تستخدم التمر وتتخلص من نواه عادةً، الآن أصبحت هذه الشركة مورد أساسي ومحلي أيضاً لنوى التمر لـ "دافي"، كما أنهما استخدما للتغليف مواداً عضوية معتمدة قابلة للتحلل، حيث أصرّا على أن يكون مشروعهما ليس فقط ذو عائد مالي، بل يحقق أثراً اجتماعياً مستداماً.

الآن مشروع "دافي" لديه مصنع خاص، وحقق انتشاراً واسعاً ليس فقط في هولندا، بل في أوروبا والوطن العربي أيضاً، فانتقل من كونه نواة تمرة مهدرة إلى كوب قهوة لذيذة.

 تذوق الحكاية: العبرة من مشروع "دافي"

رأينا كيف تعامل مشروع "دافي" مع أزمة البن، وكيف حاول المساهمة في حل أزمة تتسبب في الكثير من الآثار السلبية، ربما يكون هذا المشروع خطوة صغيرة لكنه يسعى نحو تحقيق أثر إيجابي، وذلك بكل تفصيل من تفاصيله، فكما كان له حصة صغيرة في إيجاد حل لأزمة البن، يوجد الكثير والكثير من الأزمات المشابهة في عديد مجالات الطعام والأغذية.

حسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "FAO" يتراوح إجمالي الطعام المُهدر عالمياً ما بين ثلث إلى نصف الأغذية المنتجة، حيث ينقسم هدر الطعام على جزأين أولهما: "فقدان الغذاء" وهو انخفاض كمية أو نوعية الطعام -كما أزمة البن- وذلك لأسباب عدة أهمها التغير المناخي، وثانيهما: "مخلفات الطعام" وهي فقدان الطعام أو الغذاء في أي مرحلة بين "حصاده أو إنتاجه" وبين "وصوله للمستهلك" وذلك لأسباب عدة منها: فساد الطعام، وانتهاء صلاحيته، أو إنتاج كمية أكبر من الحاجة.

في نهاية حكايتنا تتلخص لنا العبرة منها وهي: يتوجب علينا ومنذ هذه اللحظة البحث عن حلول بديلة للعديد من المنتجات الغذائية أو لطرائق إنتاجها وتوزيعها، كما يتعين علينا البدء في أخذ خطوات صغيرة نحو أثر إيجابي، فعلينا الآن أن نبتكر في الصناعات الغذائية، كما علينا الآن البدء في استثمار كل ما لم يُستثمر.

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...