مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 12
الابتكار في الغذاء لرواد الفضاء
إن الغذاء حاجة إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها في مختلف الظروف، لكن تلبية هذه الحاجة لدى البشر تختلف تبعاً لعدة عوامل، الزمان، أو المكان، أو العمر، أو الصحة، أو المرض، فبحسب كل عامل من هذه العوامل تختلف طبيعة الطعام وكميته، وطريقة تقديمه، وحفظه، وقد تطورت آليات التعامل مع الطعام على مر التاريخ البشري بالتزامن مع التطور الذي شهده الإنسان على مر تاريخه، فما بين طعام الإنسان البدائي قبل آلاف السنين وطعام الإنسان الحالي بون شاسع من الاختلافات التي لا تعد ولا تحصى.
في القرن الماضي بدأ الإنسان رحلاته إلى الفضاء، وبدأ باكتشاف عالم آخر بظروف وعوامل مختلفة عما اعتاده على سطح الأرض، فكان لا بد له من ابتكار آليات جديدة للتكيف مع هذا العالم خصوصاً فيما يتعلق بالغذاء لرواد الفضاء، لأنه حاجة رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها.
ففي البدايات الأولى لبرنامج الفضاء الأمريكي، الذي عُرف باسم مشروع "ميركوري"، كانت رحلات الفضاء تستغرق من بضع دقائق إلى يوم كامل، وبسبب قصر المدة لم تكن هناك حاجة لوجبات كاملة، بل كان يتم استهلاك الوجبة الرئيسية قبل الرحلة، ولكن مع مرور الوقت وتطور المهام الفضائية، أصبحت رحلات الفضاء تستغرق فترات طويلة قد تصل إلى شهور، وهذا ما شكل تحدياً كبيراً.
مع مرور الوقت اكتشف الانسان أن الطعام يمكن حفظه، كما يمكن أن يبقى صالحاً للأكل مدة طويلة إذا تم تجفيفه وتخزينه في مكان بارد وجاف، لذلك ففي بدايات رحلات الفضاء كان الطعام مجففاً بشكل رئيسي، ولاحقاً تم تطوير تقنيات الطهي ومعالجة وحفظ الطعام في العلب المغلقة وأصبح من الممكن تخزين مجموعة متنوعة من الأطعمة وحملها لرحلات طويلة، وتم استعمال التبريد للمساعدة في الحفاظ على نكهة الطعام والمغذيات ومنع التلف، وبالتالي فإنه نظراً لتطور العلم فقد تطورت أشكال جديدة من معالجة الأغذية وتعبئتها ومكوناتها، وتحسنت طبيعة الأغذية لرواد الفضاء عما كانت عليه من قبل.
ولكن وعلى الرغم من ذلك بقيت هناك مجموعة من التحديات، وذلك بسبب وجود قيود على الوزن والحجم عند السفر، وأيضاً ظروف انعدام الجاذبية في الفضاء التي تؤثر على تغليف الطعام، وبالتالي فإن الأمر لا يقتصر على مسألة إدخال الطعام من العبوة إلى فم رائد الفضاء، فبعد قضاء فترات طويلة في الفضاء، يمكن أن تنخفض كتلة العضلات وكثافة العظام بنسبة تصل إلى 20%، وبالتالي عظامهم الضعيفة يمكن أن تكون هشة عند عودتهم إلى الأرض، مما يزيد من خطر الكسور، لذلك تعد ممارسة الرياضة وتناول الأطعمة الغنية بالكالسيوم مثل الزبادي ضرورية.
ونظراً لأن السوائل تعمل بشكل مختلف في الفضاء، فإن حاسة التذوق لدى رائد الفضاء تتغير، فعلى الأرض، تستقر سوائل الجسم تجاه أقدامنا، أما في حالة انخفاض الجاذبية، تتحرك هذه السوائل بحرية في أجسامنا، مما يخلق شعوراً مشابهاً لنزلة البرد أو انسداد الجيوب الأنفية، ولهذا السبب، ومن أجل إعادة تنشيط التذوق لديهم، يفضل العديد من رواد الفضاء الأطعمة اللاذعة والساخنة مثل الفلفل والنكهات الحارة.
لكن رغم كل التحديات والقيود السابقة فإن الإنسان لم يقف عاجزاً، بل سعى على مدى عقود من الزمن لابتكار طرائق تجعله يتغلب على تلك التحديات والقيود، يقول رافائيل هامون أحد المتخصصين بإعداد الغذاء لرواد الفضاء: "لقد حولنا هذه القيود إلى فرص للابتكار".
تقول الكاتبة ميجان تشيتشي في مجلة لوبوان الفرنسية: "أن ابتكار طعام مناسب لرواد الفضاء ملائم لنمط عيشهم في الفضاء، مثّل تحدياً للطباخين والاختصاصيين في المختبرات على حد سواء".
لذلك فإن إدارة الطيران والفضاء الأميركية "ناسا" سعت منذ عقود لإيجاد طرائق مبتكرة لتوفير الطعام الملائم لرواد الفضاء، للوصول إلى مرحلة تتمكن فيها من تحقيق حلم صناعة الطعام في الفضاء للرواد أثناء وجودهم هناك، وذلك عبر إقامتها لمسابقة لتشجيع تطوير تقنيات الجيل التالي لتلبية الاحتياجات الغذائية لرواد الفضاء.
وكان من نتائج تلك المسابقة أن تمكنت شركة في نيويورك، من القيام بابتكارات لإنتاج الطعام قد تكون غريبة للبشر، فقد ابتكرت شركة "إير كومباني" طريقة لإعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون الذي يخرجه رواد الفضاء أثناء وجودهم في الفضاء، لصنع مواد غذائية مبنية على الخميرة لتكوين مشروب من البروتين، يهدف إلى تغذية رواد الفضاء الذين يقومون بمهمات طويلة الأمد.
وكذلك فقد تمكن أحد الباحثين الفرنسيين في مجال الغذاء وهو "تييري ماركس" من ابتكار أطعمة خالية من السكر لرواد الفضاء، ونجح في صنع معجنات لذيذة دون سكر وذلك باستخدام "بكتين الفاكهة" بدلاً من السكر، كما تمكن من صنع صلصة اللحم دون استخدام مُحسّن النكهة، ولتتبيل وجبة رائد الفضاء، نجح ماركس مع فريق الأبحاث في تقطير الفلفل، وبتحويل التوابل إلى سائل سيزول خطر تطايرها في ظل انعدام الجاذبية، وتمكّن ماركس أيضاً من إيجاد طريقة لنقل الفطر أو المشروبات أو الكعك إلى محطة الفضاء الدولية، مع أن هذه المنتجات الثلاثة كانت محظورة تماماً هناك، لذلك فقد شكلت هذه الابتكارات نقلة نوعية غير مسبوقة في تاريخ غذاء رواد الفضاء، ووفرت أصنافاً كثيرة في وقتنا الحالي، لم يكن رواد الفضاء يحلمون بها في السابق.
ففي حوار لرائدة الفضاء اليابانية "يامازاكي ناوكو" لوكالة الأناضول التركية قالت:" إن الطعام الفضائي أصبح مع مرور الزمن لذيذاً أكثر فأكثر، وهناك بالفعل أكثر من 300 وجبة يجري تحضيرها لرواد الفضاء"، وأضافت: "وجبات الطعام المخصصة لرواد الفضاء تراعي الوجبات والأغذية التي يحبونها، وفي مقدمتها المعكرونة والأرز والتوابل".
وبذلك نجد بأن الابتكار قد ساهم في تجاوز العديد من التحديات المتعلقة بغذاء الفضائيين، فانتقل بهم من الأطعمة المجففة والمحدودة إلى الأطعمة الطازجة والمتنوعة، ومن الأطعمة عديمة النكهة إلى الأطعمة اللذيذة التي تشبع رغبة رواد الفضاء وتراعي نظامهم الغذائي الخاص، وهذه النتيجة المذهلة التي وصل إليها الابتكار في مجال الغذاء لرواد الفضاء تشجع على المزيد من الاجتهاد من قبل العلماء والباحثين في مجال الابتكار لمواصلة العمل على تحسين جودة الغذاء وتوفيره ليس فقط لرواد الفضاء، وإنما لكل من يحتاجه على سطح الأرض.
المراجع
- موقع وكالة الأناضول التركية - موقع مجلة لي بوينت الفرنسية - موقع سكاي نيوز