مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 12
التجارة العادلة
في عصرنا الحالي وعند دخولنا مراكز تسوق المواد الغذائية، اعتدنا في الغالب على رؤية مجموعة متنوعة من المنتجات الغذائية، مثل الأرز والسكر والمواد الخام والخضراوات، وعليها علامة تشير إلى أن هذا المنتج عضوي. إذ في الوقت الحاضر يُلاحَظ تزايد اهتمام الأشخاص في عالمنا العربي بشراء هذه المنتجات، وذلك نتيجة تزايد الوعي العام حول أهمية تناول الطعام الصحي، وضرورة الابتعاد عن المنتجات التي تحتوي على مواد حافظة ومواد كيماوية، كما يلاحظ أيضاً أن البحث عن المنتجات الغذائية الصحية بات يحظى بشعبية متنامية بين الجمهور. انطلاقاً من هذه الفلسفة الصحية يُتعامل مع المنتجات الغذائية على أنها أمور معني بها المستهلك فحسب، ومن ثم يرى المستهلك أنه يجب عليه اتخاذ التدابير اللازمة من خلال اختيار أفضل المنتجات التي تحمي صحته هو نفسه بصفته مستهلكاً، دون أن يلتفت إلى أهمية حماية المنتج نفسه.
ومع ذلك فإن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هو: هل فكرنا نحن المستهلكون في كيفية إنتاج هذه المواد الغذائية؟ أي هل ونحن نبحث عن علامة تجارية تحمينا بصفتنا مستهلكين، هل فكرنا أيضاً أن هناك علامة تجارية تهتم بحماية المنتجين؟
باختصار من خلال وسائل الإعلام والرأي العام تُقدَم علامة (التجارة العادلة) كنموذج يمكن من خلاله تحقيق التوازن بين الربح والعدالة الاجتماعية والبيئية. إذ تشجع علامة التجارة العادلة على التفكير النقدي بشأن كيفية تأثير قراراتنا الشرائية في العالم من حولنا وليس علينا فحسب.
وتشجعنا على فهم كيف يمكن لنا أن نحقق تغييراً إيجابياً في تحسين مستوى معيشة المنتجين من خلال اختياراتنا نحن المستهلكون.
وأتفق مع الرأي الذي يمكن أن يرى إن مثل هذه العلامة التجارية، على الرغم من وجودها في عالمنا العربي، إلا أنها غالباً ليست شائعة أو معروفة كفاية مقارنة بشهرة علامة المواد الغذائية العضوية في أسواقنا.
على أية حال سواء كانت علامة التجارة العادلة مشهورة في واقعنا العربي أم لا (ليس هذا محور حديثنا) فإنه ينبغي توضيح أسباب انتشار العلامة في المجتمعات الغربية بشكل خاص، لكن لنستوضح هذه النقطة الأخيرة، دعونا نتوقف قليلاً لنشرح تاريخ ظهور حركة التجارة العادلة وخصوصيتها.
تقول (Lekakis (2013 عن التجارة العادلة ما يلي: "سياسات استهلاك التجارة العادلة تنتشر بين مستهلكي البلدان الرأسمالية" (ص:11)
وتخبرنا (2011 Warrier (أيضاً في كتاب بعنوان "سياسة التجارة العادلة" عن الظروف الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى نشوء حركة التجارة العادلة، إذ تقول:
"منذ بدايتها المتواضعة بصفتها حركة تجارية بديلة في أواخر السبعينيات تقريباً، تطورت "التجارة العادلة" ببطء لتصبح حركة ذات زخم كبير. وزعم نشطاء التجارة العادلة أن السوق العالمية تحصر الدول الفقيرة فحسب في تصدير السلع التي تتعرض أسعارها لانخفاض مستمر عبر الزمن والتي تكون عرضة للتقلبات.
علاوة على ذلك أدت عمليات التدويل في مجال الإنتاج إلى استغلال العمال في العالم النامي، مما نتج عنه انخفاض معايير العمل والأجور.
وعقب حملات التجارة العادلة بدأت أعداد متزايدة من الأشخاص في البلدان الغنية تطالب بشراء السلع التي أنتجت في ظروف اجتماعية وبيئية صديقة، وكانت التجارة العادلة آخذة في التوسع، حتى كادت تكون علامة تجارية في حد ذاتها، فقد خزن جميع تجار التجزئة والمتاجر الكبرى في البلدان الأكثر ثراء السلع المنتجة وفق معايير أخلاقية، وتزامن ذلك مع استعداد المشترين لدفع أسعار أعلى لهذه المنتجات". (ص:3).
من النص أعلاه يمكن ملاحظة كيف أن الشروط التاريخية لنشوء حركة التجارة العادلة هي سياسية بالجوهر، إذ إن ازدياد نشاط الحركة قام بناءً على مسلمة سياسية، هي أن السوق العالمية تتحكم بالدول الفقيرة من خلال دفع السوق لهذه الدول لإنتاج المواد التي تتعرض للانخفاض في أسعارها، ومن ثم فإن هذه المسلمة السياسية قامت عليها فكرة التجارة العادلة التي تهدف إلى حماية المنتج في الدول الفقيرة.
ذلك أنه من الناحية النظرية يمكن القول: إن التجارة العادلة تعد استجابة جزئية لبعض التوترات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الهيمنة الاقتصادية والعولمة والاستعمار السابق. لذا يمكن النظر إلى التجارة العادلة على أنها رد فعل جزئي على اختلال توازن القوى العالمية، وعلى البعد الاستعماري الذي طال دول العالم النامي. إذ يمكن الادعاء أن الدول الغنية والصناعية قد استفادت كثيراً من استعمار واستغلال الموارد في العديد من الدول الفقيرة خلال العصور الاستعمارية. وهذا الاستغلال الاستعماري أثر في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية في تلك الدول.
إذاً ما سبق قد يسلط الضوء ربما على سبب انتشار علامة التجارة العادلة انتشاراً كبيراً في العالم الغربي، وهذا يعزى إلى ما تبين من خلال المقطع السابق، حيث نلاحظ أن حركة التجارة العادلة ليست جزءاً من حركة اجتماعية واعية عامة ترتبط بالقضايا الإنسانية العامة ومفاهيم مثل المساواة المطلقة، بدلاً من ذلك تُظهر حركة التجارة العادلة خصوصية غربية أكبر، إذ تركز على قضايا محددة تتعلق مباشرة بالواقع الاستعماري للغرب، مثل استغلال العمالة التاريخي، والاستعمار، والتدهور البيئي الناجم عن العولمة، وعدم المساواة الاقتصادية في صناعات مثل صناعة القهوة (Dewey, 2023). وعلاوة على ذلك يمكن النظر إلى مفهوم التجارة العادلة على أنه سردية تشكك في أخلاقيات وعواقب الرأسمالية غير المنظمة والاستعمار، في حين تلمح أيضاً إلى ظهور المزيد من الممارسات الأخلاقية على أنها رد فعل على التفاوت بين الدول الغنية والفقيرة.
عموماً يقدم أنصار التجارة العادلة تصوراً للنموذج التجاري العادل، وكيفية عمله في ظل العولمة ومدى تأثيره المتوقع في العلاقات الاقتصادية بين الدول. هذا النموذج التجاري ينبثق من هاجس سياسي رئيسي لأنصار التجارة العادلة، وهو مواجهة النموذج الليبرالي الجديد في التجارة. يراعي أنصار التجارة العادلة كيفية تحقيق التنمية الاقتصادية، وتحسين مستوى حياة المزارعين في الدول النامية. إذ يقدم النموذج التجاري العادل فرصة للمزارعين في الدول النامية لامتلاك فائض يمكن استثماره لتحسين حياتهم تحسيناً شاملاً، وذلك من خلال تقديم أسعار مضمونة للمنتجين تتفوق على أسعار السوق التقليدية. يعتقد أن هذا النموذج سيساهم في تمويل مشروعات مجتمعية، مثل تطوير البنية التحتية في الدول النامية، بالإضافة إلى أن أنصار التجارة العادلة يشددون على أهمية الشفافية بصفتها مبدأ أساسياً في التجارة العالمية بدلاً من التنافس والاستغلال. كما يؤكدون على دور الحوار والاستثمار الاجتماعي في تحقيق أهداف التجارة العادلة ودعم المجتمعات المحلية. ويبرزون أيضاً أهمية الاستدامة البيئية على أنها جزء أساسي من هذا النموذج العادل وتأثيره في المشروعات الاجتماعية والبيئية في الدول المحلية المنتجة (Wunderlich ,2001).
على أي حال ينشأ لدينا السؤال التالي: هل استطاعت حركة التجارة العادلة أن تنفذ أجندتها في حماية الفقراء والمستضعفين من المزارعين تجاه حركة العولمة السائدة والمهيمنة على الساحة التجارية والاقتصاد؟
بعض الدراسات تزودنا بالحقائق التالية:
"يقدر بما يقارب 7 ملايين شخص-مزارعين وعمال وأسرهم- في 60 دولة يستفيدون مباشرة من مبيعات التجارة العادلة، ويستفيد الملايين الآخرون من خلال استثمار أرباح التجارة العادلة في تعزيز الأعمال المحلية وتطوير المجتمعات". (Bowes, 2010).
هذه الأرقام المعطاة في النص أعلاه، والتي تشير إلى ملايين الأشخاص المستفيدين في 60 دولة، قد تعطي انطباعاً إيجابياً بأن حركة التجارة العادلة استطاعت أن تحقق جزءاً من أهدافها في مواجهة الليبرالية الجديدة، من خلال دعم الملايين من المنتجين المستضعفين وعائلاتهم، ولكن عندما نسلط الضوء على واقع الفقر الذي لا يزال حاضراً بقوة نتيجة التفاوت بين الدول الغنية والفقيرة، فإن الإجابة قد تأخذ اتجاهاً مختلفاً عن الإجابة السابقة.
فمثلاً يسعى الكاتب Fagan (2012)إلى التحقيق في مصداقية "الادعاء بأن التسوق بأسلوب أخلاقي من الممكن أن يساعد حقاً في مكافحة التفاوتات العالمية" (ص:249-250).
إذ يشير الكاتب إلى الحقائق التالية القاتمة عن العالم المعاصر، ويقول:
"يعيش ما يقدر بنحو 2800 مليون شخص (46 في المائة من سكان العالم) تحت خط الفقر الذي حدده البنك الدولي، وهو دولاران يومياً، ويعيش 1200 مليون منهم على أقل من نصف هذا الرقم، حيث يعيشون على دخل يقل عن دولار واحد في اليوم. إن عواقب هذه الدرجة من الفقر المدقع مروعة. وفي كل عام يموت 18 مليون شخص قبل الأوان لأسباب تتعلق بالفقر، أي 50 ألف شخص كل يوم. ومن بين هؤلاء 34 ألف طفل دون سن الخامسة، وعندما ننظر إلى هذه الوفيات المبكرة المرتبطة بالفقر، والتي يبلغ عددها 18 مليوناً سنوياً من منظور عالمي، فلا يمكن إلقاء اللوم على عدم كفاية الموارد فحسب. إن المستويات المطلقة للثروة العالمية أكثر من كافية للقضاء على الفقر المدقع، ولكن العقبة المباشرة التي تحول دون تحقيق هذا الهدف تكمن في توزيع الثروة العالمية، بالمقارنة مع نظرائهم الفقراء مطلقاً الذين يعيشون في الجنوب العالمي، يكون الدخل المتوسط للمواطنين في البلدان الغنية في الشمال له قيمة تصريفية في السوق تتجاوز قيمة دخل نظرائهم الفقراء بمعدل 200 مرة، بينما يشترك 2,800 مليون شخص في نحو 1.2 في المئة من إجمالي الدخل العالمي، يشترك 903 ملايين شخص يعيشون في البلدان الغنية في 79.7 في المئة من إجمالي الدخل العالمي" (ص:249-250).
وبعد أن يستعرض الكاتب هذه الحقائق المروعة حول التفاوت العالمي، يطرح السؤال المنطقي التالي قائلاً:
"أليس اختيار الموز أو القهوة أو عصير البرتقال ذي العلامة التجارية العادلة مجرد نقطة صغيرة وغير ذات قيمة في المحيط؟" (ص: 250).
في جوهر الأمر يثير الكاتب سؤالاً بلاغياً لحث القراء على النظر في القيود المحتملة لخيارات المستهلك الفردية في مواجهة التحديات العالمية الهائلة، في حين أن اختيار منتجات التجارة العادلة يعد خطوة إيجابية، إلا أن الكاتب يسلط الضوء على أنها قد تبدو صغيرة بالمقارنة مع حجم هذه القضايا العالمية. وهو يؤكد الحاجة إلى تغييرات وإجراءات منهجية أوسع نطاقاً لمعالجة هذه المشكلات بالكامل.
إن إشكالية عدم قدرة التسوق الأخلاقي على مواجهة التفاوت العالمي الكبير بين دول الأغنياء والفقراء ليست في أن حجم واقع التفاوت ضخم جداً بما لا يمكن مقاومته فردياً فحسب، القضية ليست أيضاً في التقليل من أهمية المبادرة الفردية الأخلاقية في مواجهة العملاق الرأسمالي الضخم، بل على العكس، فالمبادرة الفردية الأخلاقية تظل واجبة وإن لم نستطع أن نرى نتائجها بوضوح.
لكن جل المسألة هو كما يشير الكاتب Fagan (2012) إلى أن الترويج للتسوق الأخلاقي وسلعة التجارة العادلة يستخدم آليات السوق الرأسمالي نفسها في أثناء الدعاية لهذه المنتجات الأخلاقية. للتوضيح أكثر يمكنني القول: إن الكاتب يميز بين مبدأ التسوق الحر والتسوق الأخلاقي، فالتسوق الحر يعتمد على مركزية المستهلك في تحديد خياراته من الاستهلاك. ومن ثم عندما يروج لمنتجات التجارة العادلة بعقلية ومنطق السوق الحر نفسه (أي التوجه إلى المستهلك بصفته مركزاً للاختيار)، فسيرى المستهلك في هذه الحالة أن اختيار العلامة التجارية العادلة لا يعدو عن أنه أحد الاختيارات الإضافية المتاحة له كونه مستهلكاً من بين اختيارات أخرى كالنكهة والجودة والسعر، لتضاف العدالة إلى هذه القائمة أيضاً.
أي بعبارة أخرى: إن الترويج لسلعة التجارة العادلة لا يلقي الضوء على الجانب الإلزامي من الواجب الأخلاقي في التسوق، بل يبقي الخيار متاحاً للمستهلك. لذا يمكن الادعاء بأن التجارة العادلة لن تستطيع أن تحقق أي تأثير إيجابي إذا استمر النموذج الاستهلاكي القائم على حرية المستهلك بكونه العقلية السائدة في الترويج للتجارة العادلة. وهنا نصل إلى السؤال التالي الذي طرحه الكاتب، وهو إذا كان شرائي لعلامة التجارة العادلة يسمى تسوقاً أخلاقياً، فماذا يمكن أن نسمي عدم تسوقي من منتجات التجارة العادلة؟ الجواب هو أنه بالضرورة تسوق غير أخلاقي، لا يُفسَّر على أنه حرية اختيار المستهلك.
وبناءً عليه يمكن القول: إنه من الضروري أن يسوق لمنتجات التجارة العادلة ليس كونها خياراً مجرداً متاحاً أمام المستهلك، والذي يمنحه ميزة إضافية فحسب، وهي إسكات الضمير لكي يتمكن من الاستمرار في عملية الاستهلاك الجائرة، بل يجب أن يكون التسويق للتجارة العادلة مبنياً على فلسفة الواجب الأخلاقي، وليس على حرية المستهلك. هذا لأنه ينبغي لقضية التجارة العادلة أن تصبح إما قضية للتسوق الأخلاقي أو غير الأخلاقي، لا ثالث لهما.
وبالطبع قبل الختام أود أن أقول: إن هناك بعض التيارات والأبحاث التي تشكك في جدوى التجارة العادلة من الأساس، وبعضها يتهمها بأنها أكثر استغلالية من التجارة العادية، ولا تحقق أي أبعاد من العدالة التي تزعم أنها تحققها، ولكن لعل المقالة لا تتسع إلى نقاش جديد. ولذا أتوقف هنا لأقول: إن التجارة العادلة لا يجب أن يُنظَر إليها على أنها صيحة أو ابتكار جديد في عالم الاستهلاك، بل يجب علينا بصفتنا مستهلكين أن ننظر بعمق وشمولية أكبر لنفهم موقعنا الأخلاقي في عملية التسوق.
المصادر
- Bowes, J (ed.) (2010), Fair Trade Revolution, Pluto Press, London.
- Dewey, Joseph, PhD. (2023). "Fair trade coffee." Salem Press Encyclopedia, Research Starters. URL: [https://research-ebsco-com.e.bibl.liu.se/c/xjonn2/viewer/html/tdcjeknlmj].
- Fagan, A(2012). 'Ethical Shopping and Trusting Morality', in Granville, B & Dine, J (eds) 2012, The Processes and Practices of Fair Trade: Trust, Ethics and Governance, Taylor & Francis Group, London, pp. [246-263].
- Lekakis, E. (2013). Coffee activism and the politics of fair trade and ethical consumption in the global north: political consumerism and cultural citizenship. University of Sussex. URL: https://hdl.handle.net/10779/uos.23416445.v1
- Warrier, M (ed.) 2011, The Politics of Fair Trade : A Survey, Taylor & Francis Group, Florence.
- Wunderlich, J. E.-U. (2001). Free trade, fair trade and globalization. In Warrier, M (ed.) 2011, The Politics of Fair Trade : A Survey, Taylor & Francis Group, Florence.