الابتكار الاجتماعي
التكنولوجيا: الطريق إلى طعام أكثر نقاءً وخضرةً ولذاذة

مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 12

التكنولوجيا: الطريق إلى طعام أكثر نقاءً وخضرةً ولذاذة

"ولكن، هل هذا هو ما يبحث عنه المستهلكون حقاً؟" يتساءل جون فاسمان.

في سياق مشابه قال جان أنثيلم بريلا-سافاران، المحامي الفرنسي والمتذوق الشهير، في أوائل القرن التاسع عشر: "قل لي ماذا تأكل، وسأخبرك أي نوع من الرجال أنت"، وهي جملة افتتح بها كتابه الشهير "فيزيولوجيا الذوق"، والذي يُعد أحد روائع الأعمال التأملية لتلك الحقبة الزمنية.

يُظهر الطعام الذي يتناوله معظم الأشخاص -خصوصاً في الدول الغنية وبوجه متزايد في الدول الفقيرة وذات الدخل المتوسط- الصورة المتقدمة لاقتصادهم العالمي المترابط والغني بالخيارات، فعند استعراض أرفف مراكز التسوق في الدول المتقدمة، تظهر أمامك تشكيلة واسعة من المنتجات كسمك السلمون القادم من النرويج، والروبيان من فيتنام، والمانجو من الهند، والتوت من تركيا، إلى جانب اللحوم المعالجة من إيطاليا، والأجبان الفرنسية، وعلى الرغم من أن اللحم كان من الأطعمة الفاخرة عبر التاريخ، إلا أنه أصبح الآن في متناول اليد وبأسعارٍ معقولة، حيث أصبح الكثيرون في الدول المتقدمة يختارون تناوله أو تجنبه بحرية، وليس بسبب الضرورة، وتتخلل هذه المأكولات إضافات كيميائية تعمل على الحفاظ على الطعام طازجاً وتعزز نكهته وتلبي احتياجات المنتجين.

هذا النوع من النظام الغذائي لم يكن ممكناً إلا في ظروف عالمية معينة تُخصص فيها مساحة كبيرة من سطح الأرض للزراعة والمراعي، ويتطلب إنتاج الغذاء استهلاكاً عالياً من الطاقة، وتتوفر المبيدات الزراعية بكثرة، ويتميز الشحن بين القارات بتكاليفه المنخفضة، وتكون فيها معالجة الغذاء نشاطاً صناعياً متقدماً، ومن ثم هذا النظام الغذائي أصبح ممكناً في عصر تحتل فيه رغبات الإنسان والاقتصادات المبنية حولها مكانة بارزة بين القوى الطبيعية التي تشكل كوكبنا، وهو ما أصبح يُعرف الآن بعصر الأنثروبوسين.

وسيثير نظام الغذاء في عصر الأنثروبوسين الذي ينعم به الأثرياء في العالم دهشة جميع الأجيال التي سبقتنا، ولكن كالعديد من المظاهر المعاصرة البارزة، لا يأتي هذا النظام دون ثمن، فاللحوم أصبحت متوفرة بأسعار معقولة نتيجة للأساليب القاسية التي تتم بها عملية الإنتاج، حيث تعيش المليارات من الحيوانات حياة قصيرة مليئة بالمعاناة والألم في أماكن مغلقة دون تهوية مناسبة، هذه الحيوانات تُفصل عن أمهاتها بأسلوب قاسٍ، أو تُعالَج بالمواد الكيماوية، أو تتعرض لعمليات جراحية دون تخدير، أو تنزع أحشاؤها وهي حية، أو تتعرض لجميع هذه الأمور معاً.

من ناحيةٍ أخرى يُعد جني التوت والخس عملاً شاقاً يحتاج إلى جهد كبير، وكثيراً ما يجد العاملون في هذا الميدان أنفسهم دون تغطية تأمين صحي أو حماية وظيفية أو حتى راتب يكفل لهم العيش بكرامة، كما تعتمد العديد من مصايد الأسماك في العالم على العمل القسري، ومع استنزاف التربة فإنها تُعالَج كيميائياً لتعاد خصوبتها باستخدام المكملات الغذائية المُصنعة، وهذا في حين تسبب الأسمدة وفضلات الحيوانات في نمو الطحالب التي تستهلك الأكسجين، مما يخلق مناطق ميتة واسعة قرب المناطق الساحلية، ورغم أن هناك العديد من الأنشطة البشرية، إلا أن قليلاً منها يتسبب في انبعاث غازات الاحتباس الحراري مثل تربية الحيوانات، خصوصاً الماشية، حيث يتم قطع مساحات شاسعة من الغابات من أجلها، وأخيراً العمليات التي تجعل الطعام رخيصاً ولذيذاً تزيل العناصر الغذائية الأساسية معتمدةً على الدهون والسكر والملح.

بناءً على مبدأ بريلا-سافاران قد يكون من السهل الاستنتاج أن مستهلكي نظام الأنثروبوسين الغذائي يظهرون قسوة تجاه الحيوانات، ولا مبالاة بمستقبل كوكبهم أو حتى بمستقبلهم الخاص، لأن هذا النظام يمثل كل هذه الصفات، ولكن هذا الحكم قد يكون مبالغاً فيه، فمن الصعب الطلب من شخص معين أن يقيم كل مكون غذائي يتناوله من منظور أخلاقي، خاصةً إذا كان هذا الشخص هو أم تعيش ضمن ميزانية محدودة وفي طريقها للمنزل بعد يوم طويل من العمل، وترغب في تقديم وجبة ترضي أطفالها فحسب، وهذا لا يعني بأنها لا تهتم أو أنها لن تختار نظاماً يقدم الأفضل لعائلتها وللكوكب.

كثير من الأشخاص بدؤوا في تعديل اختياراتهم الغذائية بغية تحقيق نظامٍ أفضل، فبينما تزداد كمية اللحوم التي يتم تناولها عالمياً، فإن هذه الزيادة لا تظهر بصورة كبيرة في الدول المتقدمة كما هو الحال في الدول النامية، ويزداد عدد الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بأنهم نباتيون أو نباتيون صارمون أو حتى "فلكسيتاريان"، أي هؤلاء هم الذين يميلون إلى اتباع نظام غذائي يعتمد أساساً على النباتات، ولكن دون الامتناع التام عن تناول اللحوم، وتشير الإحصائيات إلى ارتفاع ملحوظ في هذه الفئة، ففي بريطانيا مثلاً ارتفع عدد النباتيين الصارمين أربع مرات تقريباً بين عامي 2014 و2019.

 

في الولايات المتحدة الأمريكية شهدت مبيعات الطعام العضوي -الذي يُعتقد أنه أفضل للإنسان وللبيئة- ارتفاعاً من 13.3 مليار دولار في عام 2005 إلى 56.4 مليار دولار في عام 2020، وتمتعت أوروبا بزيادة مماثلة، من ناحيةٍ أخرى باتت قوائم الطعام في المطاعم تذكر اسم المزرعة الموردة للطعام، مما يمنح الزوار شعوراً أعمق بالارتباط بما يتناولونه، وظهرت مصطلحات جديدة تعبر عن هذه التوجهات الغذائية، حيث باتت كلمة "locavore" المستخدمة لوصف الأشخاص الذين يفضلون تناول الطعام المُنتج محلياً، والتي تُعرف بـ "الطعام محلي الصنع"، تحظى بشهرة واسعة حتى أصبحت "كلمة العام" في أحد القواميس الأمريكية بحلول العام 2007.

 الأكل المرن والمحلي والعضوي ليس من العقائد الدينية، لكنه يمثل رسالة أخلاقية تعبر عن رفض المشاركة في نظام الغذاء الصناعي المكثف والغني بالسعرات والمُعالج بأسلوب غير طبيعي في الدول المتقدمة، ومع ذلك هذه الأنظمة الغذائية لا تقدم حلاً شاملاً لإصلاح النظام الغذائي الحالي، وذلك لأنها لا تقيم أخطاءه بدقة، فإنتاج الغذاء العضوي مثلاً يحتاج إلى المزيد من الأراضي بالمقارنة مع الطرائق الأخرى وقد يزيد من انبعاثات غازات الدفيئة، والالتزام الشخصي بتناول البقوليات بدلاً من قطع الدجاج أو الباذنجان بدلاً من البرغر قد يحمي الشخص من المشاركة المباشرة في إلحاق الأذى بالدواجن والأبقار، لكن هذا لا يوقف الأذى الفعلي.

ولكن هل يمكن تغيير النظام الغذائي نفسه؟ ماذا لو استطاع الأشخاص الذين يرفضون نظام الغذاء الحالي أن يحفزوا على إيجاد وسائل جديدة، من خلال البذور والخلايا، لتقديم تشكيلة غنية وصحية من الأطعمة دون اللجوء إلى ممارسات قاسية أو التسبب في أضرار بيئية كبيرة؟

البروتين المعدل بشرياً وغيره من المجموعات الغذائية

سيقدم هذا التقرير نظرة على مجموعة من التقنيات التي يروَّج لها كطرائق لتحويل نظام إنتاج الغذاء العالمي، وذلك ليس من خلال تطبيق الأساليب الزراعية التقليدية بأسلوب أقل قسوة وأكثر استدامة فحسب، ولكن من خلال تبني مقاربات جديدة لم تمارس من قبل.

واليوم تجري دراسات حول البروتينات التي كانت تُعد حتى الآن ذات استخدام محدود، مثل الحشرات والأعشاب البحرية، لاستكشاف قيمتها الغذائية العالية، وهي قيمة قد تتجاوز ما يتوقعه الكثيرون، كما يجري البحث فيها كطرائق جديدة لإعادة تصميم سلاسل الغذاء، إذ تعالج الخمائر لتنتج بروتينات تجعل وجبة البروتين المصنوعة من الصويا تشبه في طهيها ومظهرها لحم البقر المفروم، والزراعة المائية الملحية الداخلية تقدم وعداً بتوفير الأسماك الطازجة لأولئك الذين يعيشون بعيداً عن البحار، وتزرع المحاصيل في حاويات خالية من التربة وتقع على مقربة من المراكز الحضرية، حيث سيتناولها سكان تلك المناطق بدلاً من استيرادها من أماكن بعيدة، والخلايا التي تؤخذ من الحيوانات تُستخدم لزراعة اللحم في وحدات التخمير، مما يوفر مصدراً مألوفاً من البروتين دون الحاجة للذبح أو الزراعة الصناعية وكل المشكلات المترتبة على ذلك من قسوة ومخاطر صحية.

وتواجهنا تحديات ضخمة في مسعى تحويل نظام الغذاء، فزراعة لحم البرغر في مفاعلات بيولوجية تحدٍ بحد ذاته، ولكن التحدي الأكبر هو إقناع الناس بتناولها وتأمين تكاليف تنافسية، وإنتاجها على نطاق واسع، وبالرغم من فوائد زراعة الخضراوات في ناطحات السحاب من الناحية البيئية، إلا أن الزراعة التقليدية في الحقول تظل خياراً اقتصادياً أكثر فاعلية، وفي الوقت الذي نسعى فيه لإدخال تحسينات عملية في المزارع، مثل تقنيات الزراعة المستدامة، قد يجري تجاهل هذه التقنيات لصالح توجهات مثالية جديدة قد تعدها بعض الأوساط مثالية، ولكنها قد تكون غير عملية تساهم في إنتاج أطعمة فاخرة محدودة لفئة قليلة من الناس، دون أن تحقق الفائدة المرجوة للجمهور الأكبر أو حتى تخفف من معاناة الحيوانات، وكما شهدنا في السابق مع قضية اللحوم الرخيصة، قد يتبين لاحقاً أن بعض التقنيات الحديثة التي نعتقد أنها مفيدة، تحمل في طياتها تكاليف ومخاطر غير متوقعة.

وفي هذا السياق تظل هناك روح إلهام لا يمكن إنكارها في هذا السعي لإعادة النظر في مفاهيم وأفكار بريلا-سافاران جذرياً، حيث يتعلق الأمر بتحديد نوع الشخصية التي ترغب في تبنيها أولاً، والرؤية التي تتمنى لها أن تمثلها على هذا الكوكب، ثم العمل على تغيير العالم حتى يصبح الغذاء المتاح لك متناغماً مع هذا الإدراك الذاتي.

تتميز هذه الحركة بجاذبية خاصة وتحمل نسمة حماسة لا تُقاوم، تذكرنا بالتطور التكنولوجي الذي شهدته كاليفورنيا، حيث يشبه أحد العلماء المتخصصين في اللحوم الاصطناعية الأجواء المحيطة بعمله بتلك التي سادت وادي السيليكون في السبعينيات، أي مليئة بالحيوية والطاقة الإيجابية، ومع ذلك تبدأ رحلة تغيير نظام الغذاء العالمي من بلدة صغيرة في نهاية الولاية، والفصل الأول من هذه القصة يبدأ مع حبة بازلاء. 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...