مجلة اتجاهات الابتكار الاجتماعي - العدد 14
سياحة مستدامة لتنمية مستدامة
تلعب السياحة المستدامة دوراً حيوياً في تحقيق التنمية المستدامة من خلال المساهمة في الجوانب البيئية والاجتماعية والاقتصادية، لكونها تحقق توازناً بين الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للمجتمعات المحلية والسياح، وذلك من خلال المبادئ والممارسات، التي تضمن الحفاظ على الموارد الطبيعية والثقافية، وتعزز الفوائد الاقتصادية والاجتماعية للسكان المحليين، مع تقليل الآثار السلبية للأنشطة السياحية، وتوفير تجربة سياحية ممتعة ومفيدة للسياح.
وسنحاول من خلال هذا المقال التعرف أكثر على السياحة المستدامة، وتطور هذا المفهوم، ودور السياحة المستدامة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأهم استراتيجيات الاستثمار الاجتماعي في السياحة المستدامة، ونماذج عن السياحة المستدامة في المملكة العربية السعودية.
تطور مفهوم السياحة المستدامة
ظهر مفهوم السياحة المستدامة جدياً في أواخر القرن العشرين، مع تزايد الوعي بالآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية للسياحة التقليدية، كان ذلك نتيجة لمجموعة من التطورات والمبادرات على المستوى الدولي:
- في ثمانينيات القرن الماضي بدأت فكرة السياحة المستدامة تتبلور بشكل كبير، متأثرة بالحركة البيئية العالمية وزيادة الاهتمام بالتنمية المستدامة عموماً.
- في التسعينيات عقد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية عام 1992 (قمة الأرض في ريو دي جانيرو) الذي كان له دور محوري في تعزيز مفهوم التنمية المستدامة، والذي شمل بدوره السياحة كونها جزءاً من القطاعات التي تحتاج إلى تبني مبادئ الاستدامة، وشهدت هذه المدة إصدار العديد من الوثائق والتقارير المهمة، التي ركزت على الحاجة إلى تبني ممارسات سياحية مستدامة، مثل تقرير "أجندة 21" الذي صدر عن قمة الأرض.
- في بداية الألفية الثالثة وتحديداً عام 2002 أعلنت الأمم المتحدة هذه السنة (السنة الدولية للسياحة المستدامة من أجل التنمية) مما ساعد على زيادة الوعي وتكثيف الجهود نحو تطوير السياحة المستدامة.
منذ ذلك الحين أصبح مفهوم السياحة المستدامة جزءاً أساسياً من السياسات والتوجهات للعديد من الدول والمنظمات السياحية حول العالم، مع التركيز على إيجاد توازن بين تطوير السياحة والحفاظ على البيئة والمجتمعات المحلية.
دور السياحة المستدامة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة
إن الالتزام بممارسات السياحة المستدامة والحرص على اعتمادها يدفع باتجاه تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي وضعتها الأمم المتحدة، من جوانب عديدة أهمها:
1. الحفاظ على البيئة:
- تشجع السياحة المستدامة على استخدام الموارد الطبيعية بأسلوب رشيد وتقليل التلوث، مما يساعد على الحفاظ على النظم البيئية والتنوع البيولوجي.
- تدعم السياحة المستدامة إنشاء المحميات الطبيعية والمتنزهات الوطنية وحمايتها، مما يساهم في الحفاظ على الموائل الطبيعية، والأنواع المهددة بالانقراض.
2. التنمية الاقتصادية:
- تعزز السياحة المستدامة الاقتصادات المحلية، من خلال خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الدخل للسكان المحليين، بالإضافة إلى تعزيز الصناعات المحلية، مثل الحرف اليدوية والزراعة.
- تساعد السياحة المستدامة على تنويع مصادر الدخل في المناطق الريفية والنامية، مما يقلل من الاعتماد على قطاعات اقتصادية تقليدية ويعزز الاستقرار الاقتصادي.
3. العدالة الاجتماعية:
- تشجع السياحة المستدامة على إشراك المجتمعات المحلية في التخطيط والتنفيذ، مما يضمن استفادتهم المباشرة من العائدات السياحية، ويحسن مستوى معيشتهم.
- تساعد السياحة المستدامة على الحفاظ على التراث الثقافي والتقاليد المحلية، من خلال الترويج لها بين السياح، وتوفير التمويل اللازم لصيانتها.
4. التوعية والتعليم:
- تسهم السياحة المستدامة في رفع مستوى الوعي لدى السياح حول أهمية الحفاظ على البيئة واحترام الثقافات المحلية.
- تشجع السياحة المستدامة على تعليم السياح والمجتمعات المحلية الممارسات المستدامة في الحياة اليومية.
استراتيجيات الاستثمار الاجتماعي في السياحة المستدامة
يحقق الاستثمار الاجتماعي في السياحة المستدامة فوائد عديدة، مثل تعزيز رفاهية المجتمعات المحلية، والحفاظ على الموارد الطبيعية والثقافية، بحيث يمكن تنفيذ استراتيجيات استثمارية عديدة عبر مشروعات ومبادرات، ومن أهم هذه الاستراتيجيات:
- تمكين المجتمعات المحلية: توفير فرص عمل للسكان المحليين في القطاع السياحي، مما يساهم في تحسين مستويات الدخل والحد من الفقر، وتقديم برامج تدريبية للسكان المحليين في مجالات الضيافة، والإرشاد السياحي، وإدارة الأعمال السياحية، لتعزيز مهاراتهم وتمكينهم من المشاركة الفعالة في صناعة السياحة.
- دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة: تقديم قروض ميسرة ودعم مالي للمشروعات السياحية الصغيرة والمتوسطة، التي تلتزم بالممارسات المستدامة، ودعم هذه المشروعات من خلال مبادرات تسويقية مشتركة وتطوير شراكات مع الشركات السياحية الكبرى، لضمان وصولها إلى الأسواق العالمية.
- حماية التراث الثقافي والطبيعي: الاستثمار في صيانة المواقع الأثرية والثقافية وترميمها، مع تشجيع السياح على زيارة هذه المواقع بطريقة تحترم التراث وتحافظ عليه، ودعم مشروعات الحفاظ على البيئة، مثل إنشاء المحميات الطبيعية، وإعادة تأهيل النظم البيئية المتضررة.
- تطوير البنية التحتية المستدامة: الاستثمار في بنية تحتية سياحية مستدامة، مثل الفنادق الصديقة للبيئة، وأنظمة إدارة النفايات، واستخدام الطاقة المتجددة، وتعزيز استخدام وسائل النقل المستدامة، مثل الدراجات الهوائية، والنقل العام، والمركبات الكهربائية.
- تعزيز السياحة الثقافية والمجتمعية: دعم المبادرات التي تروج للثقافات المحلية والفنون التقليدية، من خلال تنظيم مهرجانات ومعارض، وتوفير تجارب ثقافية أصيلة للسياح، وتشجيع نماذج السياحة التي تتيح للسياح العيش مع العائلات المحلية وتعلم المهارات التقليدية، مثل الزراعة والحرف اليدوية.
- الشراكات بين القطاعين العام والخاص: تعزيز الشراكات بين الحكومات المحلية، والقطاع الخاص، والمنظمات غير الحكومية، لتنفيذ مشروعات سياحية مستدامة وتطويرها، وتقديم حوافز للشركات السياحية، التي تتبنى ممارسات مستدامة، مثل الإعفاءات الضريبية والدعم المالي للمشروعات البيئية.
- التوعية والتعليم البيئي: تطوير حملات توعية لتعريف السياح بأهمية الحفاظ على البيئة، واحترام الثقافات المحلية، وإنشاء مراكز تعليمية، ومتاحف بيئية تقدم برامج تعليمية حول البيئة والتنوع البيولوجي.
- قياس الأثر والاستدامة: وضع مؤشرات لقياس الأداء والاستدامة البيئية والاجتماعية للمشروعات السياحية، وإجراء تقييمات دورية للتأكد من تحقيق الأهداف المستدامة، وتعديل الاستراتيجيات بناء على النتائج.
من خلال تبني هذه الاستراتيجيات يمكن تعزيز السياحة المستدامة، مما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة.
السياحة المستدامة في المملكة العربية السعودية
في السنوات الأخيرة شهدت المملكة العربية السعودية اهتماماً متزايداً بالسياحة المستدامة، كجزء من رؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتطوير قطاع السياحة، هذه بعض النماذج البارزة لمشروعات السياحة المستدامة في المملكة:
- مشروع البحر الأحمر: يعد هذا المشروع واحداً من أكبر المشروعات السياحية المستدامة في العالم، ويغطي مساحة تتجاوز 28,000 كيلومتر مربع على الساحل الغربي للمملكة، ويهدف إلى تطوير منتجعات فاخرة على جزر غير مأهولة، مع التركيز على الحفاظ على البيئة البحرية والحياة البرية، ستدار الطاقة بالكامل من مصادر متجددة، مع الحد الأدنى من الأثر البيئي، وإعادة تدوير المياه والنفايات.
- مشروع "نيوم NEOM": يعد مشروع "نيوم NEOM" مدينة مستقبلية تعتمد على التكنولوجيا والابتكار، ويهدف إلى خلق بيئة مستدامة من خلال استخدام مصادر الطاقة المتجددة وتطبيق أفضل الممارسات البيئية، ستشمل المنطقة مناطق سياحية مخصصة تهدف إلى الحفاظ على البيئة الطبيعية والحد من التأثير البيئي، مع التركيز على السياحة البيئية والثقافية.
- محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية: تقع المحمية في منطقة تبوك، وتغطي مساحة كبيرة تحتوي على تنوع بيولوجي فريد، تهدف المحمية إلى تعزيز السياحة البيئية من خلال توفير أنشطة، مثل رحلات السفاري، والمشي في الطبيعة، مع الحفاظ على الحياة البرية والموائل الطبيعية.
- العلا: تعد العلا واحدة من أبرز الوجهات السياحية في المملكة، مع اهتمام كبير بالحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي، وتشمل المبادرات المستدامة في العلا الحفاظ على المواقع الأثرية، مثل مدائن صالح (الحجر)، من خلال برامج إدارة السياحة المسؤولة والتوعية الثقافية للسياح، وكذلك تطوير بنية تحتية سياحية مستدامة.
ومن المتوقع أن تستثمر المملكة في المزيد من البنى التحتية، لتعزيز السياحة المستدامة على طريق تحقيق التنمية المستدامة، وكذلك على المستوى الدولي تتسابق الدول لاعتماد ممارسات السياحة المستدامة، وقد ظهرت اعتمادات وجوائز للدول الأكثر التزاماً بهذه الممارسات، مثل "الجائزة العالمية للسياحة المسؤولة" التي تمنح للجهات التي تظهر التزاماً قوياً بممارسات السياحة المستدامة.
وهذا بدوره يشجع المستثمرين على الاستثمار في البنية التحتية للسياحة المستدامة، وتحقيق التوازن ما بين تنمية هذا القطاع وحماية البيئة.