مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 20
تجارب عالمية في الاقتصاد السلوكي
مقدمة:
عند مناقشة أي ظاهرة اقتصادية في أي مجتمع، فإنه ليس من الكافي دراسة التغيرات الحاصلة في المؤشرات الاقتصادية، بل من المهم أيضاً دراسة كيفية تأثير سلوك الأفراد في حدوث الظواهر الاقتصادية واستمرارها، عليه لا ينبغي الاعتماد على المنظور الاقتصادي وحده، بل من المهم أيضاً النظر بعين فاحصة إلى الأنماط السلوكية والعوامل المؤثرة فيها، ولعل ذلك ما أدى إلى زيادة الاهتمام بالاقتصاد السلوكي خلال السنوات الأخيرة.
يتسم الاقتصاد السلوكي بتعدد مجالات اهتماماته، فهو ينطوي على دراسة الآثار الإدراكية المعرفية والاجتماعية والعاطفية في السلوكيات الاقتصادية القابلة للملاحظة لدى الأفراد، وتستخدم أبحاث الاقتصاد السلوكي التجريب النفسي من أجل وضع النظريات حول اتخاذ القرارات لدى البشر، كما تمكنت تلك الأبحاث من تحديد مجموعة من التحيزات المؤثرة في البشر، ويسعى مجال الاقتصاد السلوكي إلى تغيير الطريقة التي يفكر بها علماء الاقتصاد حول تصورات الناس عن القيمة، وتفضيلاتهم التي يعبرون عنها. ووفقاً لمبادئ الاقتصاد السلوكي فإن الناس ليسوا دائماً أفراداً مهتمين بأنفسهم، يقارنون بين التكلفة والمنفعة، ويتسمون بتفضيلات ثابتة، كما تفترض تلك المبادئ بأن العديد من الاختيارات التي يتخذها البشر لا تكون نتيجة للتفكير المتأني. وبدلاً من ذلك يفترض علم الاقتصاد السلوكي بأن التفكير لدى البشر خاضع لقدر محدود من المعرفة، والتغذية الراجعة، وقدرات المعالجة، كما أن التفكير ينطوي على عامل عدم التأكد، ويتأثر بالسياق الذي يتخذ فيه القرار.
وبوجه عام تسعى كثير من الدول والمنظمات إلى إحداث التأثير من خلال السياسات والبرامج والمبادرات والتدخلات، المبنية على مفاهيم الاقتصاد السلوكي، والقائمة على ثلاث أفكار أساسية، وهي أن الناس يفكرون على تلقائياً، وأن الناس يفكرون على اجتماعياً، وأن الناس يفكرون بالاعتماد على نماذج ذهنية، وذلك من خلال تبني ثلاثة مبادئ أساسية، وهي الأمثلية، والتوازن، والتجريبية:
- الأمثلية: يسعى الناس إلى اختيار أكثر الخيارات جدوى.
- التوازن: يسعى الناس إلى اختيار أكثر الخيارات جدوى عند التفاعل مع الآخرين.
- التجريبية: ضرورة اختبار النماذج الاقتصادية بالاعتماد على البيانات.
وبناء على ما سبق يستعرض عدد من التجارب السلوكية العالمية، وهي النحو الآتي:
البرازيل – تجربة برنامج "رائد الأعمال الصغير الفردي":
في عام 2014 أعدت وزارة الضمان الاجتماعي البرازيلية كتيباً بهدف إحداث تغييرات سلوكية لدى المستفيدين من برنامج "رائد الأعمال الصغير الفردي"، وذلك من أجل تعزيز امتثالهم لمتطلبات وزارتي الضمان الاجتماعي والمالية، وهذا البرنامج هو برنامج أطلقته وزارة الضمان الاجتماعي، بهدف زيادة حجم تغطية الضمان الاجتماعي، وتعزيز الامتثال الضريبي لدى أصحاب المهن والأعمال الحرة، ولما كان الهدف من هذه التجربة "وكز" أولئك المنتسبين إلى البرنامج بالفعل، فقد قامت وزارة الضمان الاجتماعي بتوزيع كتيب من أجل تذكير المنتسبين بضرورة تقديم المساهمات والامتثال، وأيضاً من أجل تيسير إجراءات الدفع لجميع المنتسبين إلى البرنامج.
ويمكن النظر إلى الكتيب على أنه مركب مكون من تدخلات سلوكية متعددة، والتي تتضمن الآتي:
- وسيلة للتذكير: فقد كان الكتيب وسيلة للتذكير تجذب انتباه الفرد إلى عدة حقائق متعلقة بالامتثال لمتطلبات سلطات الضمان الاجتماعي والضرائب:
- يذكِّر الكتيب المستفيد بأن عليه التزاماً لكي يقدم المساهمات (الضرائب)، وهو أمر لم يكن جميع المستفيدين أو المنتسبين مدركين له.
- يسلط الكتيب الضوء على أهمية المساهمة، كونها وسيلة لاكتساب الاستحقاق والأهلية، للحصول على مجموعة من المزايا، مثل: التأمين ضد الحوادث، وحق الحصول على راتب تقاعدي، وحق الحصول على إعانة إعاقة، وإجازة الأمومة (بالنسبة للنساء الحوامل وأيضاً في حالات التبني)، وإمكانية حصول الأسرة على إعانة في حال وفاة المستفيد أو قضائه فترة عقوبة في السجن.
- يعد هذا الكتيب أداة للرقابة، وهو يحتوي على الختم الرسمي لكل من وزارة المالية ووزارة الضمان الاجتماعي.
- يمثل الكتيب وسيلة للتبسيط: فحتى يسدد المستفيد ما عليه من مساهمات، فإن عليه القيام بذلك عبر الإنترنت، إما من خلال نظام الصرافة عبر الإنترنت، أو من خلال طباعة إيصال، وهذا الإيصال هو أمر دفع مطبوع مقبول لدى جميع المصارف في البرازيل، واحتوى الكتيب على 12 إيصالاً للأقساط الشهرية لمدة عام واحد، بغرض تبسيط إجراءات السداد للمستفيدين.
ووزعت وزارة الضمان الاجتماعي الكتيب التوعوي الخاص ببرنامج "رائد الأعمال الصغير الفردي" عن طريق البريد لنحو 3 ملايين شخص من أصحاب المهن الحرة في البرازيل، وذلك من أجل تذكيرهم بالتزاماتهم بتقديم مساهمات الضمان الاجتماعي. ونتيجة لهذا التدخل ازداد حجم مدفوعات المساهمات بنسبة بلغت 15%، وارتفعت نسبة الامتثال بمقدار 7 نقاط مئوية. ومع ذلك فمن الملاحظ أن أثر توزيع الكتيب كان أكثر تركيزاً في الشهر الأول الذي جرى فيه التوزيع، ثم تلاشى هذا الأثر بعد ثلاثة أشهر من بدء تنفيذ التدخل، بالإضافة إلى ذلك فقد فاق حجم الزيادة في المدفوعات حجم تكاليف توزيع الكتيب، وذلك بنحو الضعف.
كندا – تجربتا مبادرة المطابقة الوظيفية:
طبقت تجربتان حول مبادرة المطابقة الوظيفية، فقد أجريت التجربة الأولى بين شهري أبريل ومايو من عام 2015، أما التجربة الثانية فقد أجريت بين شهري يونيو وأكتوبر من العام نفسه. والفئة المستهدفة من التجربتين الباحثون عن فرص العمل في عموم كندا، فقد هدفت مبادرة المطابقة الوظيفية في التجربة الأولى إلى زيادة أعداد المستفيدين من خدمات المطابقة الوظيفية المقدمة من "بنك الوظائف" في كندا، وقد جاء هذا الهدف من إدراك هيئة التوظيف والتنمية الاجتماعية الكندية لانخفاض معدل إقبال الكنديين على الاستفادة من خدمات المطابقة الوظيفية، وهدفت مبادرة المطابقة الوظيفية في التجربة الثانية إلى تشجيع مستخدمي الموقع الإلكتروني لـ"بنك الوظائف" على العودة إلى الموقع واستكمال حساباتهم وتنشيطها على الموقع.
صممت وحدة أبحاث الاقتصاد السلوكي والابتكار الخدمي بهيئة التوظيف والتنمية الاجتماعية الكندية، بالتعاون مع فرع المهارات والتوظيف في الهيئة، تدخلاً لإدخال الرؤى السلوكية في إعلانات الوظائف المتاحة عبر "بنك الوظائف"، وذلك من أجل تشجيع الباحثين عن الوظائف على إنشاء حسابات في الموقع الإلكتروني للبنك والاستفادة من خدمات المطابقة الوظيفية، وطبِّق الوكز على صفحات الإعلانات على نحو دوار، وذلك بمعدل 750,000 صفحة إعلان وظيفة مختلفة كل أسبوع.
وتضمنت التجربة الثانية إرسال خمس رسائل بريد إلكتروني مختلفة عشوائياً إلى 3,784 من مالكي الحسابات عبر الموقع الإلكتروني لـ"بنك الوظائف"، والذين لم يكملوا ملء بياناتهم أو ينشطوا حساباتهم، صنفت العينة إلى خمس مجموعات، منها مجموعة أرسل لها رسالة بريد إلكتروني قياسية لا تحتوي على وكز، وأربع مجموعات أرسل لكل منها رسالة بريد إلكتروني تحتوي على نحو محدد ومختلف من الوكز.
وساهم أسلوب الوكز في زيادة عدد نقرات المستخدمين على إعلانات الوظائف المتاحة عبر الموقع الإلكتروني لـ"بنك الوظائف" بمعدلات تراوحت بين 67% و122%، كما أن المستخدمين الذين تعرضوا للوكز ارتفعت لديهم احتمالية فتح حساب على موقع "بنك الوظائف".
أدى دمج أسلوب الوكز في رسائل البريد الإلكتروني إلى زيادة عدد النقرات عبر موقع "بنك الوظائف" لدى أفراد المجموعات التجريبية مقارنة بما لدى أفراد المجموعة الضابطة. وتراوحت نسبة الزيادة في عدد النقرات بين 51% و92%، وذلك بحسب طبيعة مبادئ الرؤى السلوكية المطبقة، بالإضافة إلى ذلك فقد ازداد الإقبال لدى أفراد المجموعات التجريبية على عمليات تنشيط الحسابات، وذلك بنسبة تفوُّق على المجموعة الضابطة بلغت 106%.
المملكة المتحدة – تجربة مبادرة تقليل الاعتماد على إعانات البطالة:
طبق فريق الرؤى السلوكية البريطاني بالتعاون مع 12 من مراكز التوظيف (تابعة لهيئة JobCentre Plus) بمدينة إسيكس مبادئ العلوم السلوكية في مساعدة الباحثين عن وظائف على إيجاد وظائف فعلياً، استهدفت المبادرة تقليل الاعتماد على إعانات البطالة التي تقدمها الحكومة البريطانية، والتي تعرف باسم "بدل البحث عن عمل" وتضمنت عينة البحث 110,838 من الباحثين عن الوظائف، قسِّموا عشوائياً إلى مجموعة علاجية (مستفيدة من التدخل)، ومجموعة ضابطة (غير مستفيدة من التدخل). واعتمد التدخل في تحقيق التغيير المنشود على أسلوبين:
- التبسيط: بسِّطت الإجراءات في موعد الزيارة الأولى في المركز، وتضمنت الزيارة بناء الباحث عن الوظيفة علاقة مع المستشار المهني، ومناقشة مسيرته للبحث عن وظيفة منذ بدايتها.
- المساعدة في التخطيط: تضمن ذلك مساعدة الباحثين عن وظائف على تخطيط أنشطة البحث عن الوظائف مع المستشارين المهنيين، وكان التخطيط استباقياً، أي أن يخطط المستفيدون أولاً ثم تنفذ الخطط، وذلك بدلاً من الفعل أولاً، ثم توثيق ما حدث بعد ذلك.
فقد أدى تطبيق فريق الرؤى السلوكية للتدخلات القائمة على الرؤى السلوكية إلى التقليل من عدد الحاصلين على إعانات البطالة لدى المجموعة العلاجية بنسبة 1.7% مقارنة بالمجموعة الضابطة، وذلك خلال مدة تنفيذ التدخل والتي بلغت 13 أسبوعاً.
للمزيد من القراءات:
- هالزوورث، وكيركمان (2017). الرؤى السلوكية، ترجمة: ساره علام. مؤسسة هنداوي. مصر.
- كارترايت، إدوارد (2022). الاقتصاد السلوكي، ترجمة: عمار العبادي. دار حميثرا للنشر. مصر.
- السبيله، مشاري (2024). تصميم المبادرات المبنية على الاقتصاد السلوكي (حقيبة تدريبية).
- Bosch Mossi, M., Fernandes, D., & Villa, J. M. (2015). Nudging the Self-employed into Contributing to Social Security: Evidence from a Nationwide Quasi Experiment in Brazil [IDB Working Paper Series, No. IDB-WP-633]. Inter-American Development Bank.
- OECD. (2017). Behavioural Insights and Public Policy: Lessons from around the World. OECD Publishing.