مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 20
تصميم الخيارات في الاقتصاد السلوكي
تمهيد:
في هذه المقالة نشير إلى الكتاب "الندج: تحسين العلاقات المتعلقة بالصحة، الثراء والسعادة Nudge: Improving Decisions About Health, Wealth and Happiness"[1] الذي أشرنا إليه في المقالة السابقة، نظراً لأهمية الكتاب ولدوره البارز في مجال الاقتصاد السلوكي، توسعنا قليلاً لنتحدث عن بعض الخطوات الإجرائية، التي لم نتطرق إليها في المقالة السابقة، فنناقش أهم المبادئ التي تجعل من تصميم الخيارات وفق فلسفة الاقتصاد السلوكي، تصميماً فعالاً، من ثم نتمكن من الإجابة عن قضية ما إذا كان تصميم الخيارات واجباً أخلاقياً لحماية الناس من الوقوع في الخطأ، أم أنه واجب إجرائي محض قائم على نموذج غسل الأدمغة وهندستها، تعويضاً عن نقص القدرة على تمييز الخير من الشر السائد في المجتمعات الحديثة العصرية.
يُعَدُّ كتاب "Nudge: Improving Decisions About Health, Wealth, and Happiness" من تأليف ريتشارد ثالر، الحائز على جائزة نوبل لمساهماته في الاقتصاد السلوكي، وكاس سونشتاين، والذي نشر في عام 2008، مرجعاً أساسياً في مجال الاقتصاد السلوكي. يستعرض الكتاب كيفية تحسين القرارات، التي يتخذها الأفراد بشأن صحتهم وثرواتهم وسعادتهم من خلال استخدام مفهوم Nudge"النَّدج"[2] إذ يعتمد مفهوم النَّدج على توجيه خيارات الأفراد دون تقييد حريتهم في الاختيار، وذلك باستخدام مبادئ علم الاقتصاد السلوكي، الذي يجمع بين الاقتصاد وعلم النفس لفهم عملية اتخاذ القرارات.
يحلل الكتاب تأثيرات الانحيازات السلوكية المختلفة في القرارات البشرية، مثل الانحياز للتأكيد، والانحياز للوضع الراهن، وتجنب الخسارة، بالإضافة إلى كيفية تأثير طريقة تقديم المعلومات (إطار الخيارات) في القرارات المتخذة، من خلال ذلك يعرض الكتاب استراتيجيات عملية لتحفيز الأفراد على اتخاذ قرارات صحية أفضل، مثل تبني أنماط صحية في الحياة، وطرق لتحسين القرارات المالية، وكذلك توجيه القرارات لتعزيز الرفاهية العامة والسعادة الشخصية.
تطبيقات فلسفة النَّدج تتجلى في مجالات متعددة، مثل تصميم برامج الصحة العامة بطرق تشجع على السلوكيات الصحية، كتحفيز الأفراد على تناول أطعمة صحية، أو ممارسة الرياضة، من خلال وضع الأطعمة الصحية في مواقع أكثر وضوحاً وسهولة للوصول، كذلك يمكن استخدام التوجيه "الندج" لتحسين السلوكيات المالية، مثل: الادخار التلقائي في خطط التقاعد، وتعزيز القرارات التي تزيد من السعادة والرفاهية العامة، عبر تشجيع الأنشطة الاجتماعية والبدنية.
يعد "Nudge" كتاباً مؤثراً وملهماً لأي شخص مهتم بتحسين القرارات اليومية، وتأثيراتها في الحياة الشخصية والعامة، مما يجعل قراءته ضرورية للمختصين والباحثين في هذا المجال.
وفلسفة الكتاب ترتكز على مفهوم الأبوية التحررية (Libertarian Paternalism)، وهي فلسفة تسعى لتحقيق توازن دقيق بين توجيه السلوك الإنساني نحو خيارات أكثر نفعاً، دون المساس بحرية الفرد في اتخاذ قراراته الشخصية، يجسد هذا المفهوم رؤية تسعى إلى توجيه سلوك الأفراد نحو خيارات يعتقد أنها تصب في مصلحتهم الشخصية، وتضمن التحررية أن يتم هذا التوجيه دون فرض أو تقييد على حرية الفرد في الاختيار.
تشمل المبادئ الرئيسية لهذه الفلسفة توجيه القرارات دون إجبار، إذ تصمم البيئة التي تتخذ فيها القرارات بطرق تشجع على الخيارات الأكثر فائدة. على سبيل المثال: يمكن استخدام الخيارات الافتراضية، التي يُعتقد أنها في مصلحة الأفراد، مع إمكانية تعديل هذه الخيارات بسهولة إذا رغب الأفراد في ذلك. بالإضافة إلى ذلك، تركز الفلسفة على التحسين التدريجي للقرارات من خلال التوجيه المستمر بدلاً من الإصلاح الجذري أو التغيير القسري.
من الناحية الأخلاقية والاجتماعية يثير الكتاب القضايا المتعلقة بتوجيه السلوك، مثل المخاوف من إمكانية استغلال التوجيه لأغراض غير أخلاقية، يؤكد الكتاب على ضرورة تحقيق توازن بين توجيه الناس نحو قرارات أفضل واحترام حريتهم الشخصية. ومع ذلك لا تخلو هذه الفلسفة من الانتقادات، إذ يرى بعض النقاد أن الأبوية التحررية قد تكون تدخلاً غير مبرر في حرية الفرد، حتى لو كان التوجيه غير قسري، بالإضافة إلى ذلك تثار تساؤلات أخلاقية حول ما إذا كان من المقبول توجيه سلوك الأفراد بطرق قد تكون غير واضحة لهم.
يتضح تأثير الكتاب وأهميته من خلال إمكانية تأثير فلسفته الكبير في تصميم السياسات العامة في مجالات مثل الصحة العامة والتمويل الشخصي، كما يمكن للكتاب أن يساهم في تعزيز الأبحاث في مجال الاقتصاد السلوكي، وفهم كيفية اتخاذ القرارات. في المجمل تعتمد فلسفة كتاب "Nudge" على فكرة تحسين القرارات من خلال التوجيه، دون تقييد حرية الاختيار، مما يجعلها مقاربة مرنة تجمع بين الفائدة الاجتماعية واحترام الحرية الفردية.
مفهوم تصميم[3] الاختيارات Choice Architecture:
تصميم الخيارات هو مفهوم رئيسي في كتاب "Nudge" ويشير إلى الطريقة التي تنظم بها الخيارات وتقدم للأفراد، كما ذكرنا أكثر من مرة، بهدف تشجيعهم على اتخاذ قرارات أفضل دون تقييد حريتهم. يعتمد تصميم الخيارات على مبادئ علم الاقتصاد السلوكي، لفهم كيفية تأثير العرض والتنظيم في قرارات الأفراد، أهم العناصر التي تقوم عليها فلسفة تصميم الخيارات هو أن للخيارات التي يتخذها الفرد تأثير كبير في السلوك، ومن ثم يمكن لمصممي الخيارات أن يتخذوا عدة استراتيجيات لتصميم الخيارات المتاحة أمام الفئة المستهدفة، فيختار أفراد هذه الفئة الأنسب. من إحدى تلك الاستراتيجيات على سبيل المثال: "التنسيق المكاني"، يشير التنسيق المكاني إلى كيفية ترتيب العناصر أو الخيارات في مكان معين، وكيف يمكن أن تؤثر هذه الترتيبات في اختيارات الأفراد، على سبيل المثال: وضع الأطعمة الصحية في مواقع بارزة وسهلة الوصول في المقاصف يمكن أن يزيد من احتمالية اختيارها من الأفراد، مثال آخر: "تصميم إطار الخيارات"، يشير الإطار إلى كيفية تقديم المعلومات والخيارات للأفراد، إذ يمكن أن تؤثر الطريقة التي يجري بها تأطير الخيار في القرارات، على سبيل المثال: تقديم الفوائد الصحية لتناول طعام معين بدلاً من التركيز على المخاطر الصحية لعدم تناوله يمكن أن يؤثر في اختيار الأفراد. ويراعي مصممو الخيارات المحترفون توفير معلومات للأفراد حول نتائج قراراتهم، فيمكن أن يساعدهم ذلك على تحسين اختياراتهم المستقبلية، على سبيل المثال: إرسال تقارير دورية للأفراد حول استهلاكهم للطاقة يمكن أن يشجعهم على تقليل الاستخدام وتحسين الكفاءة، أيضاً تقليل التعقيد وتبسيط الخيارات يمكن أن يساعد الأفراد على اتخاذ قرارات أفضل، عندما يكون هناك العديد من الخيارات المعقدة، قد يشعر الأفراد بالإرهاق ويتخذون قرارات أقل فاعلية، لذا فإن تقديم عدد محدود من الخيارات المبسطة، على سبيل المثال، يمكن أن يحسن من جودة القرار. مثال آخر: توقيت عرض الخيارات يمكن أن يكون له تأثير كبير، مثلاً تقديم خيارات الادخار عند الحصول على زيادة في الراتب يمكن أن يزيد من احتمالية ادخار الأفراد.
ومن الاستراتيجيات التي يتبناها مصممو الخيارات هي استخدام التنبيهات والتذكيرات لمساعدة الأفراد على تذكر القيام بمهام معينة، فالتنبيهات يمكن أن تعزز السلوكيات الإيجابية، فعلى سبيل المثال: إرسال تذكيرات بموعد الفحوصات الطبية يمكن أن يزيد من الامتثال الصحي. وأخيراً لا بد أيضاً من تكييف الخيارات لتناسب الاحتياجات والتفضيلات الفردية، والذي يمكن أن يزيد من فاعلية التوجيه، مثلاً: تقديم خطط غذائية مخصصة بناءً على الحالة الصحية للأفراد يمكن أن يعزز الامتثال للنصائح الصحية. باختصار تصميم الخيارات يسعى إلى خلق بيئات تدعم القرارات الجيدة دون إجبار الأفراد، مع الحفاظ على حريتهم في الاختيار، من خلال فهم هذه الاستراتيجيات وتطبيقها، يمكن لصانعي السياسات والمصممين تحسين قرارات الأفراد وتعزيز الرفاهية العامة.
ثانياً: مبادئ التصميم الجيد للخيارات[4]:
يستعرض الكتاب مبادئ التصميم الجيد للاختيارات، نتابع مع القارئ لنعرض عليه إضاءات سريعة لكل مبدأ على حدة. وهي كالتالي:
- فهم التخطيط التنبؤي[5] (Understand mappings)
- الخيارات الافتراضية (Defaults)
- تقديم التغذية الراجعة (Give feedback)
- توقع الأخطاء (Expect error)
- تنظيم الخيارات المعقدة (Structure complex choice)
1. فهم التخطيط التنبؤي (Understand mappings)
مفهوم "هندسة الخيارات[6]" (Mapping) يعبر عن العلاقة بين الاختيار والرفاهية (Welfare) حيث هندسة الخيارات تمثل العلاقة بين الخيار الذي يختاره الشخص وتجربته النهائية أو مدى رضاه عن هذا الخيار.
يشير الكتاب إلى أمثلة بسيطة ومعقدة في الوقت نفسه، مثلاً بعض الخيارات بسيطة، مثل اختيار نكهة المثلجات، إذ يعرف الشخص مسبقاً ما يعجبه، وبذلك يمكنه التنبؤ بتجربته النهائية بدقة، الخيارات الأخرى أكثر تعقيداً، مثل اختيار علاج طبي، إذ يصعب التنبؤ بتجربة الشخص ونتائجها، لنوضح أكثر ما تعنيه العلاقة بين الاختيار والرفاهية، نعود إلى مثال المثلجات، فعند اختيار نكهة المثلجات في متجر حيث تختلف النكهات فقط في الطعم، وليس في السعرات الحرارية أو المحتوى الغذائي، يكون الاختيار مبنياً على التفضيلات الشخصية للطعم، إذا كانت النكهات مألوفة، مثل الفانيليا أو الشوكولاتة أو الفراولة، يمكن لمعظم الناس التنبؤ بدقة بكيفية تأثير اختيارهم في تجربتهم النهائية في الاستهلاك، ولكن عندما تتعقد عملية الاختيار فيما إذا كان هناك نكهات غير مألوفة في المتجر، فإنه يمكن حل مشكلة هندسة الخيارات عن طريق تقديم عينة مجانية من البائع لتذوق النكهة، هذا يساعد الزبائن على اتخاذ قرار مستنير بناء على تجربة فعلية.
بذلك هندسة الخيارات هو أداة لفهم كيف تؤثر اختيارات الناس في رفاهيتهم وتجربتهم النهائية، عند تصميم نظام اختيارات، يمكن استخدام أدوات، مثل تقديم عينات مجانية، أو توفير معلومات واضحة، لمساعدة الناس على اتخاذ قرارات تتناسب مع تفضيلاتهم، وتحقق لهم أكبر قدر من الرضى.
2. الخيارات الافتراضية (Defaults)
بالوقوف عند العنوان الفرعي في الكتاب "Defaults: Padding the Path of Least Resistance[7]" نرى أنه يشير إلى أن الخيار الافتراضي[8] يسهل على الناس اتخاذ قرار دون بذل جهد إضافي، ومن ثم يعزز من احتمالية اختيارهم لهذا الخيار، يوضح الكتاب أهمية الخيارات الافتراضية (defaults) في التصميم الجيد للخيارات. إذ يشير إلى أن وضع خيار افتراضي يمكن أن يكون جزءاً من آليات تصميم فعال للخيارات، ذلك أن الكثير من الناس يميلون لاختيار الخيار الذي يتطلب أقل جهد، وهو الخيار الافتراضي، ومن ثم نلخص القول: الاختيار الافتراضي هو الخيار الذي يطبق تلقائياً في حال عدم قيام المستخدم باتخاذ إجراء لتغييره، يمكن أن يكون هذا الخيار مصمماً لتسهيل حياة المستخدم، أو للأسف لتحقيق أهداف تجارية للشركة، معرفة كيفية استخدام الخيارات الافتراضية وتحديدها بنحو مناسب يمكن أن يؤثر كثيراً في سلوك الأفراد ورفاهيتهم.
ويمكن تلخيص النقاط الأساسية التي تشكل رسالة الكتاب فيما يتعلق بموضوع الخيارات الافتراضية ومدى أهمية مراعاتها في أثناء تصميم الخيارات كما يلي:
- أهمية الخيارات الافتراضية: الكاتب يوضح أن الخيارات الافتراضية لها تأثير كبير في قرارات الناس، لأنها تمثل الخيار الأقل مقاومة والأكثر سهولة، الناس غالباً ما يميلون للبقاء مع الخيار الافتراضي، بسبب الميل للجمود والانحياز للوضع الراهن.
- تصميم الخيارات الجيد: في سياق تصميم الخيارات الجيد، ينبغي على المصمم أن يكون واعياً لقوة الخيارات الافتراضية وتأثيرها، وضع خيار افتراضي يمكن أن يكون أداة قوية لتوجيه السلوك نحو الخيارات، التي قد تكون في مصلحة الأفراد.
- استخدام الخيار الافتراضي بحذر: يجب أن يختار الخيار الافتراضي بعناية، لأنه إذا لم يكن الخيار الافتراضي في مصلحة الأفراد، فإن العديد منهم سينتهي بهم الأمر باختيار هذا الخيار دون التفكير في البدائل.
- تعزيز الخيار الافتراضي: الخيار الافتراضي يجب أن يعزز بنحو يجعله يبدو موصى به، مما يزيد من احتمالية قبول الأفراد له.
أمثلة للخيارات الافتراضية:
- الأجهزة الآمنة: بعض الآلات الخطرة، مثل المنشار الكهربائي وجزازات العشب، تصمم بمفتاح "الرجل الميت" (dead man switch)، تتوقف الآلة تلقائياً عن العمل ما إن يتوقف الشخص عن الإمساك بها، هذا خيار افتراضي يهدف إلى ضمان السلامة.
- أجهزة الحاسوب: عندما تترك جهاز الحاسوب الخاص بك لفترة دون استخدام، يأتي وضع حفظ الشاشة (screen saver) تلقائياً، وإذا استمر الإهمال لفترة أطول، قد يقفل الجهاز نفسه. هذه الإعدادات الافتراضية تهدف إلى توفير الطاقة وحماية البيانات، يمكنك تغيير هذه الإعدادات، ولكن الخيار الافتراضي هو ما يأتي مثبتاً من المصنع.
- تثبيت البرامج: عند تحميل برنامج جديد، غالباً ما يكون هناك خيار بين التثبيت "العادي" والتثبيت "المخصص". في معظم الأحيان يكون أحد الصناديق مُحدداً مسبقاً خياراً افتراضياً، الشركات تختار هذه الخيارات الافتراضية إما لتسهيل عملية التثبيت على المستخدمين أو لأغراض تسويقية، مثل: قبول تلقي البريد الإلكتروني الدعائي.
- التجديد التلقائي للاشتراكات: بعض الشركات، مثل مجلات الاشتراك، تقدم خيار التجديد التلقائي كونه افتراضياً، إذا لم يلغ المستخدم الاشتراك، فستستمر المجلة في التجديد تلقائياً، مما يعني أن العديد من الأشخاص، وبسبب التحيز للوضع الراهن والميل إلى الجمود، ينتهون بدفع اشتراكات لمجلات قد لا يقرؤونها.
ولنتوقف قليلاً عند المثال الأخير، في كتاب "Nudge" يستخدم مثال التجديد التلقائي للاشتراكات لتوضيح كيفية استخدام الخيارات الافتراضية لأغراض تجارية، هذا النوع من الخيارات الافتراضية يمكن أن يخدم مصالح الشركات أكثر من مصالح المستهلكين، يشير الكتاب إلى هذا المثال لتوضيح أن الخيارات الافتراضية ليست دائماً في صالح المستهلكين، إذ يمكن استخدامها لتحقيق أهداف تسويقية أو تجارية. يمكن القول: إن السبب في استخدام الكاتب هذا المثال هو إظهار القوة والتأثير الكبيرين للخيارات الافتراضية في سلوك الأفراد، فعندما يحدد التجديد التلقائي كخيار افتراضي، يميل العديد من الأشخاص للبقاء مع هذا الخيار لتجنب عناء الإلغاء، حتى لو لم يكونوا مهتمين بالاشتراك المستمر. يوضح هذا المثال أن الخيارات الافتراضية ليست دائماً مختارة لتسهيل حياة المستخدمين أو تحقيق مصلحتهم، بل يمكن أن تستخدم لزيادة الإيرادات من الاشتراكات المستمرة، فمن خلال هذا المثال يشجع الكتاب على أهمية تصميم الخيارات الافتراضية بطريقة تخدم مصلحة المستخدمين وتكون أخلاقية، يجب على المصممين أن يكونوا واعين بأثر الخيارات الافتراضية، وأن يختاروها بحذر لضمان أنها في مصلحة المستخدمين، وليست لتحقيق مكاسب قصيرة الأمد على حساب خدمة العميل.
في الخلاصة يشير الكتاب إلى مثال التجديد التلقائي للاشتراكات كونها مثالاً لكيفية استخدام الخيارات الافتراضية لتحقيق أهداف تجارية، مما يسلط الضوء على الحاجة إلى تصميم الخيارات الافتراضية بشكل أخلاقي يخدم مصلحة المستهلكين.
إذاً نظراً لقوة الخيارات الافتراضية وتأثيرها، يجب استخدامها بحذر ومسؤولية، لضمان تحقيق توازن بين مصالح الشركات ومصالح المستهلكين.
3. تقديم التغذية الراجعة (Give feedback)
أهمية التغذية الراجعة (feedback) تكمن في تحسين أداء الأفراد من خلال الأنظمة المصممة جيداً، فالفكرة الرئيسية من التغذية الراجعة هي أن الأنظمة التي تقدم تغذية راجعة فعالة تساعد الأشخاص على معرفة متى يقومون بالأشياء بوجه صحيح ومتى يرتكبون أخطاء. والتغذية الراجعة تكون فعالة عندما تكون واضحة وفورية.
يقدم الكتاب أمثلة للتغذية الراجعة الفعالة:
- الكاميرات الرقمية مقابل كاميرات الأفلام: الكاميرات الرقمية تقدم تغذية راجعة فورية عن طريق عرض الصورة مباشرة بعد التقاطها، مما يساعد على تجنب الأخطاء التي كانت شائعة مع كاميرات الأفلام، مثل عدم تحميل الفيلم بشكل صحيح أو نسيان إزالة غطاء العدسة، ولكن فقدت الكاميرات الرقمية التغذية الراجعة الصوتية، من خلال إصدار صوت (كليك) الذي ينبه المصور على أن الصورة قد التقطت، إلا أن الكاميرات الرقمية الحديثة حلت مشكلة التغذية الراجعة الصوتية، عن طريق إضافة صوت "نقرة الغالق" المزيف عند التقاط الصورة، مما يعزز من تجربة المستخدم. ويوضح المثال الأول كيف يمكن للتغذية الراجعة الفورية (عرض الصورة مباشرة بعد التقاطها) أن تمنع الأخطاء الشائعة، وتساعد المستخدمين على تحسين أدائهم فوراً، كما أن إضافة صوت "نقرة الغالق" المزيف في الكاميرات الرقمية، هو مثال لكيفية تحسين تجربة المستخدم، عن طريق تقديم تغذية راجعة صوتية، مما يجعل المستخدم يشعر بالثقة في أن الصورة قد التقطت.
توقع الأخطاء (Expect Error)
في سياق حديثنا عن التصميم الجيد للخيارات فإن توقع الخطأ يعني أن الأنظمة المصممة جيداً يجب أن تتوقع أن البشر يرتكبون أخطاء، ولذلك يجب على الأنظمة المصممة جيداً أن تتوقع هذه الأخطاء، وأن تكون متسامحة قدر الإمكان، وأن تكون قادرة على التعامل معها بطريقة تقلل من الإحباط والتأخير للمستخدمين، ذلك أن الأنظمة المرنة والمتسامحة مع الأخطاء تعزز من تجربة المستخدم، وتجعله أكثر رضا وسلاسة في التعامل مع النظام.
يقدم الكتاب أمثلة من الواقع لتوضيح هذه الفكرة:
- نظام مترو باريس: في مترو باريس يمكن للمستخدمين إدخال البطاقة الورقية بأي اتجاه (شريط مغناطيسي لأعلى أو لأسفل) والنظام سيعمل بطريقة صحيحة، هذا يظهر مرونة النظام في التعامل مع الأخطاء البسيطة، التي قد يرتكبها المستخدمون.
- مواقف السيارات في شيكاغو: في مواقف السيارات في شيكاغو، وعلى عكس نظام مترو باريس، يجب على المستخدمين إدخال بطاقة الائتمان في فتحة محددة بطريقة صحيحة، وهناك أربع طرائق محتملة لإدخال البطاقة، واحدة فقط صحيحة، إذا أدخل المستخدم البطاقة بطريقة غير صحيحة، ترفض دون توضيح السبب، مما يسبب إحباطاً وتأخيراً.
لذا يمكن القول: إن توقع الأخطاء في أثناء تصميم الخيارات ينتج تصميم جيد للخيارات من خلال:
- مرونة الاستخدام: مثال مترو باريس يظهر كيف يمكن للنظام أن يكون متسامحاً ومرناً، مما يسهل على المستخدمين استخدامه دون مشكلات كبيرة، حتى لو ارتكبوا أخطاء بسيطة.
- تقليل الإحباط والتأخير: في المقابل يظهر مثال مواقف السيارات في شيكاغو كيف يمكن أن يؤدي تصميم غير مرن إلى إحباط المستخدمين وتأخيرهم، مما يعكس الحاجة إلى تصميم أنظمة تتوقع الأخطاء وتتعامل معها بفاعلية.
تنظيم الخيارات المعقدة (Structure complex choice)
يشير مفهوم تنظيم الخيارات إلى أهمية توجيه الناس في عملية اتخاذ القرارات بطريقة تجعلهم قادرين على اتخاذ خيارات أفضل في المستقبل، وتشير إلى الطريقة التي تنظم بها الخيارات وتقدم للأفراد، تنظيم الخيارات المعقدة قد يشمل تعليم الأفراد، فيمكنهم لاحقاً اتخاذ قرارات أفضل بأنفسهم، إذ تشير الأبحاث الاجتماعية إلى أنه كلما زاد عدد الخيارات أو تنوعت الأبعاد التي تختلف فيها، يميل الناس إلى تبني استراتيجيات تبسيطية لاتخاذ القرار، هذا يعنى أن زيادة عدد الخيارات وتعقيدها يزيد من صعوبة عملية اتخاذ القرار، عندما تصبح البدائل أكثر عدداً وتعقيداً، يجب على "مصممي الخيارات" التفكير في هذه التعقيدات والعمل بجد أكبر، فمصممو الخيارات لديهم تأثير أكبر في الخيارات التي يتخذها الناس، سواء كان ذلك إيجابياً أو سلبياً، ولنعد إلى المثال الشهير، الذي يعتمد عليه الكتاب تكراراً، وهو حالة اختيار المثلجات، ففي حالة متجر المثلجات، الذي يقدم ثلاث نكهات فقط، ترتيب النكهات في القائمة بأي طريقة لن يكون له تأثير كبير، لأن الناس يعرفون ما يحبون، ولكن عندما تزيد الخيارات، يصبح التنظيم الجيد للخيارات مهماً، لأنه يمكن أن يؤثر في النتائج كثيراً، بذلك تنظيم الخيارات الجيد يوفر تنظيماً يؤثر على مخرجات القرار بإيجابية، باختصار يؤكد الكتاب على أن تقديم الخيارات بطريقة منظمة وموجهة يساعد الناس على اتخاذ قرارات أفضل، خاصة عندما تكون الخيارات معقدة ومتعددة.
خاتمة:
تصميم الخيارات يتعدى كونه مجرد إجراء تقني أو تنظيمي، ليصبح موقفاً أخلاقياً يتطلب وعياً واهتماماً بصالح الأفراد والمجتمع، عندما نساعد الناس على اتخاذ قرارات أفضل من خلال تنظيم الخيارات بطرائق تسهل عليهم الفهم والاختيار، فإننا نساهم في تحسين جودة حياتهم وزيادة رفاهيتهم، هذا ينطوي على مسؤولية أخلاقية كبيرة، لأن المصممين يمكن أن يؤثروا كثيراً في القرارات التي يتخذها الأفراد، سواء بطريقة إيجابية أو سلبية، على سبيل المثال: إذا نظمت الخيارات بطريقة تضلل الناس أو تدفعهم نحو قرارات قد تكون في غير صالحهم، فإن هذا يعد استغلالاً غير أخلاقي للسلطة التي يمتلكها المصمم، بالمقابل يمكن استخدام تصميم الخيارات بما يعزز الشفافية، ويمكن الأفراد من اتخاذ قرارات مبنية على معلومات واضحة ومفيدة، مما يعكس احتراماً لحرية اختيارهم وكرامتهم، لذا يتعين على مصممي الخيارات أن يتحلوا بالمسؤولية الأخلاقية، وأن يسعوا دائماً لتحقيق أفضل مصلحة للأفراد الذين يخدمونهم، مما يجعل تصميم الخيارات ليس مجرد إجراء تقني، بل مهمة أخلاقية تتطلب النزاهة والرعاية.
على أي حال تصميم الخيارات، رغم أنه موقف أخلاقي يهدف إلى تحسين رفاهية الأفراد والمجتمع، إلا أن الآليات المستخدمة فيه قد تعد نوعاً من غسيل الدماغ، هذه الآليات تعوض عن فقدان الوازع الأخلاقي والردع على المستوى الشخصي، إذ يفتقد الناس في بعض الأحيان الرادع الداخلي والتوجيه الصحيح، لتمييز الخير من الشر في العصر الحديث، في هذا السياق تصبح الآليات التي تستخدم في تصميم الخيارات أدوات لإيحاء الناس بما هو أفضل لهم. بالرغم من النية الطيبة وراء استخدام هذه الأساليب، فإنها تثير تساؤلات أخلاقية حول مدى صحة توجيه الأفراد بطرق قد تحد من حرية اختيارهم، وتوجههم نحو خيارات معينة دون وعي كامل. لذا يجب على مصممي الخيارات أن يوازنوا بين توجيه الأفراد نحو الخيارات الأفضل، واحترام حرية إرادتهم ووعيهم الكامل بالعواقب.
ويمكن القول أيضاً: إن تصميم الخيارات يعكس غياب النصيحة المباشرة بين الناس نتيجة العزلة المتزايدة في المجتمعات الحديثة، ويظهر تحييد البعد الإنساني للتواصل. في هذا السياق تتواصل الأنظمة مع الأفراد من خلال عمليات تلاعب سيكولوجية، مما يؤدي إلى فقدان مجتمعاتنا المعاصرة لمنظومة النصح والتواصي بالحق، التي تعتمد على التفاعل الإنساني المباشر. بدلاً من ذلك تتحول إلى مجرد آليات نفسية للتلاعب من خلال تصميم الخيارات، هذا التحول يشير إلى تراجع القيم التقليدية للتفاعل البشري الصادق، إذ يوجَّه الأفراد نحو اختيارات معينة دون وجود نصيحة شخصية أو توجيه أخلاقي واضح، لذا يجب أن نعيد النظر في كيفية تصميم الخيارات، فتحترم البعد الإنساني وتعزز التواصل المباشر والتفاعل الأخلاقي بين الناس.
[1] كل المعلومات الواردة عن هذا الموضوع مستمدة من كتاب:
Thaler, R. H., & Sunstein, C. R. (2008). Nudge: Improving Decisions About Health, Wealth, and Happiness. Yale University Press.
[2] تترجم إلى (التنبيه، التوجيه، النكز).
[3] يمكن ترجمتها إلى هندسة الاختيارات.
[4] الفقرة هذه تعتمد كلياً على المصدر السابق الذكر حيث يوجد اقتباسات بتصرف. رأجع الصفحات: من 81 إلى 100 من كتاب:
Thaler, R. H., & Sunstein, C. R. (2008). Nudge: Improving Decisions About Health, Wealth, and Happiness. Yale University Press.
[5] تترجم أيضاً "فهم المطابقة" (المطابقة هنا بين اختيار الفرد لمنتج _على سبيل المثال_ ومدى حصوله على النتائج المرضية).
[6] ترجمتها هي التخطيط التنبؤي ولكن نقول "مابينج" للسهولة ولكي نحافظ على سياق الكلام إنسيابي.
[7] يمكن ترجمة العنوان بشكل تقريبي: "الاختيارات الافتراضية: تعبيد الطريق نحو الخيارات الأقل مقاومة".
[8] الاختيار الافتراضي (default option) هو الخيار الذي يحدد مسبقاً في نظام أو جهاز، ويُستخدم تلقائياً إذا لم يتخذ المستخدم إجراء لتغييره. الخيارات الافتراضية تلعب دوراً كبيراً في توجيه سلوك الناس، لأنها توفر عليهم عناء اتخاذ قرار، وغالباً ما يبقون على الخيار الافتراضي لتجنب الجهد أو عدم العلم بوجود بدائل أخرى.