الابتكار الاجتماعي
تطوير الأصول الثقافية ميزة تنافسية في سوق السياحة

مجلة اتجاهات الأثر الاجتماعي - العدد 19

تطوير الأصول الثقافية ميزة تنافسية في سوق السياحة

عُدَّت السياحة والثقافة على أنهما جانبان منفصلان إلى حد كبير، فقد كان ينظر إلى الموارد الثقافية على أنها جزء من التراث الثقافي للوجهات، وترتبط بدعم السكان المحليين وتعزيز الهويات الثقافية المحلية أو الوطنية، ومن ناحية أخرى كان ينظر إلى السياحة على أنها نشاط ترفيهي منفصل عن الحياة اليومية للسكان المحليين وثقافتهم.

لكن تغيرت هذه النظرة تدريجياً مع نهاية القرن العشرين، فقد أصبح دور الأصول الثقافية في جذب السياح وتمييز الوجهات عن بعضها أكثر وضوحاً، على وجه الخصوص منذ الثمانينيات فصاعداً، أصبح ينظر إلى "السياحة الثقافية" على أنها مصدر رئيسي للتنمية الاقتصادية للعديد من الوجهات، وذكر وفقاً لتقرير "أثر الثقافة على السياحة The Impact of Culture on Tourism" الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD عام 2009، لذا أصبحت الثقافة عنصراً متزايد الأهمية في المنتج السياحي، لأنها تخلق التميز في السوق العالمية المزدحمة، وفي الوقت نفسه توفر السياحة وسيلة مهمة لتعزيز الثقافة وخلق الدخل، الذي يمكن أن يدعم الثقافة المحلية ويظهرها للعالم بأبهى صورة، فالثقافة تمثل جوهر الهوية الوطنية والتراث الحضاري لأي مجتمع، ومن ثم فإن تسليط الضوء على هذه الجوانب يعزز فرص جذب السياح وزيادة الإقبال على زيارة الوجهات الثقافية.

في هذه المقالة سنحلل العلاقة بين السياحة والثقافة، وأثر تطوير الأصول الثقافية الملموسة وغير الملموسة في زيادة جاذبية الوجهات وقدرتها التنافسية في تعزيز السياحة.

قبل البدء بتحليل العلاقة لا بد لنا من تعريف مصطلح "الأصول الثقافية" بأنه يلخص ثلاث دعائم هي:

Asset 3@4x.png

وقد استخلص بعد الاطلاع على جملة من الدراسات والتقارير حول السياحة الثقافية، ونماذج عالمية لمجتمعات وظفت تراثها في خدمة السياحة.

التراث الثقافي:

"التراث" هو ملكية شيء موروث، ينتقل من الأجيال السابقة. وفي حالة "التراث الثقافي" فإن التراث لا يتكون من المال أو الممتلكات، بل من الثقافة والقيم والتقاليد. ينطوي التراث الثقافي على رابطة مشتركة، تمثل انتماءنا إلى المجتمع، حيث يمثل التاريخ والهوية، ومدى الارتباط بالماضي والحاضر والمستقبل.

غالباً ما يستحضر التراث الثقافي في الأذهان القطع الأثرية (اللوحات والرسومات والمطبوعات والفسيفساء والمنحوتات) والمعالم والمباني التاريخية، فضلاً عن المواقع الأثرية، لكن مفهوم التراث الثقافي أوسع من ذلك، وقد نما تدريجياً ليشمل جميع الأدلة على التعبير الإنساني: الصور الفوتوغرافية والوثائق والكتب والمخطوطات والأدوات وما إلى ذلك، سواء أشياء فردية أو مجموعات. واليوم تعد المدن والتراث المغمور بالمياه والبيئة الطبيعية أيضاً جزءاً من التراث الثقافي، لأن المجتمعات تعرف نفسها بالمناظر الطبيعية.

علاوة على ذلك فإن التراث الثقافي لا يقتصر فقط على الأشياء المادية التي يمكننا رؤيتها ولمسها، ويتكون أيضاً من عناصر غير مادية: التقاليد، والتاريخ الشفهي، والفنون المسرحية، والممارسات الاجتماعية، والحرف التقليدية، والنظام الغذائي، والطقوس، والمعرفة، والمهارات المنقولة من جيل إلى جيل داخل المجتمع.

 

الإنتاج الثقافي:

يشمل الأنشطة والفعاليات التي تنفذ بهدف تعزيز الناس وتعريفهم بمعالم التراث الثقافي، سواء كانت ذات صبغة فنية، أدبية، تاريخية، أو غيرها، والتفاهم والتواصل بين الثقافات المختلفة، والفهم المتبادل والاحترام المتبادل.

وتتضمن هذه الأنشطة والفعاليات عروضاً فنية، ومهرجانات ثقافية، وعروضاً سينمائية، وندوات تثقيفية، وورش عمل فنية، وغيرها من الأنشطة التي تسهم في نشر الوعي بالتنوع الثقافي وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي.

الإبداع الثقافي:

الإبداع الثقافي هو أي ابتكار يخلقه المرء، وهو لا يعد بناء مادياً، بل تشتمل الإبداعات الثقافية على مجموعة من السلوكيات التي تتبناها مجموعات من الشعوب، وتترسخ من خلال تمريرها إلى الآخرين ضمن المجموعة أو خارجها، كما تمرَّر إلى المجموعات والأجيال المستقبلية، وقد تنبع مصادر الإبداع الثقافي من خارج مجموعة معينة أو من داخلها.

 

الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن العلاقة بين الثقافة والسياحة

ترتبط الثقافة والسياحة بعلاقة متبادلة المنفعة، يمكن أن تعزز جاذبية المناطق والبلدان وقدرتها التنافسية، ومن ثم فإن إنشاء علاقة قوية بين السياحة والثقافة يمكن أن يساعد الوجهات على أن تصبح أكثر جاذبية وتنافسية، كمواقع للعيش والزيارة والعمل والاستثمار فيها.

وعند تحليل العلاقة بين الثقافة والسياحة تظهر آثار اجتماعية واقتصادية ملموسة تتمثل بـ:

1.    تعزيز الاقتصاد المحلي

تأتي عملية تطوير الأصول الثقافية بفوائد اقتصادية ملموسة للمجتمعات المحلية، حيث تعزز الفعاليات السياحية الطلب على السلع والخدمات المحلية. فعندما يزداد عدد السياح الزائرين بحثاً عن تجارب ثقافية فريدة، يزداد الطلب على المطاعم المحلية والمحال التجارية والحرف اليدوية والفنادق ووسائل النقل المحلية، مما يعزز النمو الاقتصادي ويسهم في خلق فرص عمل جديدة.

 

2.    تعزيز التفاعل الاجتماعي والتبادل الثقافي

تسهم الأصول الثقافية في خلق بيئة تفاعلية ومفتوحة، حيث يمكن للمجتمع المحلي والزوار التفاعل والتواصل مع بعضهم، وتشجع هذه التفاعلات الاجتماعية على التبادل الثقافي بين الثقافات المختلفة، مما يعمل على تعزيز التفاهم والتسامح بين الشعوب. ومن ثم تزداد جاذبية الوجهات السياحية المرتكزة على الثقافة كوجهات مفضلة للسياح الباحثين عن تجارب ثقافية متنوعة ومثيرة.

3.    المساهمة في الحفاظ على التراث الثقافي

يساهم تطوير الأصول الثقافية في الحفاظ على التراث الثقافي للمجتمعات المحلية، فعندما تنظم الفعاليات الثقافية، يسلط الضوء على التقاليد والعادات والفنون التقليدية، مما يعزز الوعي بأهمية الحفاظ على هذا التراث، وبذلك يشعر السكان المحليون بالفخر بثقافتهم ويزدادون اهتماماً بالمحافظة عليها، وهذا ينعكس بإيجابية على استقطاب السياح الذين يبحثون عن تجارب ثقافية أصيلة.

أثر تطوير الأصول الثقافية في سوق السياحة

إن السعي المستمر لتطوير الأصول الثقافية من تراث، وإنتاج ثقافي، وإبداع ينعكس بالضرورة على إقبال السائحين وزيادة جاذبية تلك الوجهات، فلو أمعنا النظر بإحصائيات منظمة السياحة العالمية لعام 2022 المنشورة في تقريرها السنوي بداية العام نفسه، لوجدنا أن الدولة التي تتصدر قائمة أكثر الدول سياحة حول العالم هي فرنسا، حيث وصل عدد السياح فيها إلى أكثر من اثنين وثمانين مليون سائح، وهي الدولة المعروفة بتراثها الثقافي ونتاجها الإبداعي، بدءاً من متحف اللوفر مروراً بقوس النصر، وكنيسة سانت تشابيل، وصولاً لبرج إيفل، وغيرها من المعالم التراثية والثقافية، وقد ساهمت هذه الأصول الثقافية في تنشيط السياحة، وبالمقابل شكلت السياحة مورداً هاماً وداعماً للاقتصاد بما يضمن الاهتمام وتطوير تلك الأصول والحفاظ عليها.

وبالنسبة لمنطقتنا العربية تصدرت المملكة العربية السعودية قائمة الدول العربية من حيث أكبر عدد من السياح، الذي يزيد عن ثمانية عشر مليون سائح وفقاً للإحصائيات نفسها التي أطلقتها منظمة السياحة الدولية لعام 2022، وهذا بدوره يعزز فكرة أن الثقافة بما تشمله من تراث ونتاج وإبداع هي ميزة تنافسية وورقة رابحة بيد الدول يمكن أن توظفها لتعزيز وجودها في سوق السياحة العالمية، وتزيد من دخلها القومي الذي يساهم في تحقيق التنمية المستدامة.

باختصار يمكن القول: إن الثقافة والسياحة محركان أساسيان في تحقيق التنمية المستدامة، وقد أدركت العديد من الدول هذه الحقيقة وتعمل بنشاط على تطوير أصولها الثقافية الملموسة وغير الملموسة كونها وسيلة لتطوير الميزة النسبية في سوق السياحة الذي يزداد تنافسية، ولخلق التميز المحلي في مواجهة العولمة.

المراجع

عبد الناصر الزهراني، ومحمد أبو الفتوح غنيم. (2017). التراث الثقافي، ماهيته، مهدداته والحفاظ عليه. الرياض: جامعة الملك سعود.

سعاد طعبة، وفطيمة حدادو. (2021). الإبداع الثقافي ومعوقاته في العالم العربي. مجلـة الرواق للدراسات الاجتماعية والإنسانية، 14.

(2022). Tourism Market Report. World Tourism Organization.

 

شارك هذا المقال

تواصل معنا

نرحب بكافة استفساراتكم وتساؤلاتكم...